ولا مجال هنا للدخول في تحليل كل نقطة في الجدول نظرا لضيق المساحة المتاحة
[1]، الا انه من الواضح ان التنافس بين الجمعية والنقابة اليوم في تونس يسمح لنا اولا بتحسس مدى حيوية نقاشات قانونية/فلسفية تسرع احيانا مهنيو القانون بدفنها في كتب التاريخ و الفلسفة النظرية، او حتى بنسيانها تماما. فعلاقة القاضي مع الإعلام والنظام السياسي والمادة القانونية، حتى عندما تكون هذه المادة منتجة من قبل منظومة سياسية غير مشكوك تماما بشرعيتها او تمثيليتها، ليست بالوضوح الذي يصوره دعاة “القاضي يطبق القانون فقط”، وهو شعار اصبح في لبنان ملجأ لكل قانوني لا يريد اغضاب مرجع سياسي او طائفي او لا يريد الاستجابة لمطلب اجتماعي يخالف وصايا ونفوذ اقطاعيي الافكار القيمين على الاخلاق العامة. فحراك قضاة تونس ونقاشاتهم يذكرنا ان لا شيء منزل في هذا المجال، وان مفاهيم معينة مثل موجب التحفظ او الحياد او دور مجلس القضاء الاعلى تبقى مركبة اجتماعيا وسياسيا وخاضعة لموازين قوى ظرفية و متقلبة، وان ما يُظَهَّر في لبنان، من قبل القيمين على النظام القضائي و السياسي، كحقائق قضائية ابدية ودائمة هي حتما في بلدان اخرى، وبعضها عربي، محط تساؤل وتحدّ وتشكيك وممارسات مغايرة ومناقضة.
كما نرى ثانيا انهيندرج من بين المفاعيل المهمة للتجربة الجماعية التنافسية للقضاة التونسيين اليوم اضعاف حدة الهرمية داخل الجسم القضائي. وقد اظهرت ابحاثنا في المفكرة القانونية في تونس ان الهرمية القضائية وموجب الاحترام المطلق لرأي القاضي الاعلى رتبة قد كانا تحت نظام بن علي من اهم ادوات الهيمنة على القضاء والقضاة التونسيين عبر بعض المراكز الحساسة، لتسخيرهم لمصلحة سياسات النظام القمعية والاستغلالية. فنجد ان التراتبيات والمسؤوليات الناتجة عن الانتخابات في الجمعية او النقابة لا يكون لها علاقة، غالبا، بالهرمية الرسمية التي يشرف عليها مجلس القضاء الاعلى ووزارة العدل. اذ نرى رئيسة الجمعية او رئيسة النقابة
[2] مثلا تمارسان دوريهما الوظيفيين بشكل اعتيادي وفق توزيع الاعمال القضائية وفي مراكز هي اقل اهمية او درجة من مراكز يحتلها كثير من الاعضاء المنتسبين الى هذين الهيكلين، عندما تتركان مسؤولياتهما الجماعية. كما انه يكفي متابعة الجمعيات العمومية للجمعيات و النقابات القضائية، او حتى الاجتماعات التنفيذية المصغرة، لملاحظة تقليص مهم في ادبيات الهرمية القضائية
[3] لصالح نوع من الاخاء والتكاتف النضالي الذي يصعب ايجاده في الانظمة القضائية حيث لا تجمعات للقضاة و حيث يجد القاضي نفسه وحيدا امام السلطة.
أما ثالثا، والى جانب كسر احتكار الكلمة القضائية من قبل السلطة ومجلس قضائها وتأمين مساحة تفاعل مهني وفكري للقضاة تشكل نوعا من شبكة تضامن لكل قاض يتم استفراده، تجدر الملاحظة ان من اهم مفاعيل التعددية التمثيلية في تونس بين الجمعية و النقابة
[4]، هو خلق حركة تنافسية بين الجسمين تجعلهما منقادين بهدف استمالة القضاة إليهما إلى طرح أفكار و مشاريع متقدمة تصل احيانا إلى حد المزايدة فيما بينهما. و لقد سبق ورأينا المفاعيل الايجابية على القضاة للتنافس بين مجلس القضاء وبعض التجمعات القضائية في لبنان مثلا (ايام اللجنة القضائية المؤقتة وعلاقتها المتوترة مع مجلس القضاء في بداية الثمانينات
[5]) ومن ابرزها انشاء صندوق التعاضد القضائي، الا ان تعدد الهياكل التمثيلية القضائية يضاعف من ايجابيات هذا التنافس ويمنع السلطة السياسية من التفرد بالكلام على القضاء وبتحديد مصالحه، كما يمنع ايا من التجمعات القضائية المتنافسة او ممثليها من تقديم تنازلات لاصحاب القرار من اجل مصالح مهنية او انتخابية، اذ يشكل كل تنظيم “حكومة ظل قضائية” تحاسب و تطلب، وهذا ما ظهر جليا في تونس من خلال النقاشات التي اعقبت طرح المشاريع المختلفة للتنظيم القضائي
[6].
و نلحظ ان هناك تطورا قد طرأ على بعض مواقف الهيكلين و خاصة النقابة و قضاتها بفعل التنافس الحاد الحاصل مع جمعية القضاة، وهو تنافس يقل الاعتراف به رسميا من الطرفين لاسباب مختلفة: فمن جهة الرفض المطلق للاعتراف بالتعددية التمثيلية من قبل الجمعية، ومن جهة أخرى، التمجيد بالتعددية و بحسناتها من قبل النقابة. و في كلتي النظرتين، لا مكان لفكرة التنافس، في حين ان هذا التنافس يشكل واقعيا المحرك الاساسي للحالة القضائية التونسية الحاضرة، والتي لا يمكن فهمها من دون اخذه في الاعتبار. فعلى صعيد العلاقة مع الاعلام او اساليب التحرك القضائي مثلا، نرى أن مواقف بعض قضاة النقابة من المسائل المطروحة اعلاه قد شهدت تحولا ما، بلغ احيانا حد التناقض، بينالنظرة الى فترة النظام الاستبدادي و النظرة إلى الوضع الحالي، او حتى بين فترة تأسيس النقابة بداية 2011 و الفترة التي اعقبتها. ففي حين ان خطاب بعض اعضاء النقابة يظهر تمسكا بحدود العمل القضائي و ادبياته عند الكلام عن الفترة الاستبدادية (المقاومة عبر الاحكام و ليس عبر العمل العام…)
[7]، نرى النقابة قد اعتمدت اساليب مختلفة بعد انشائها، كاللجوء الى الاضراب للاعتراض على قانون تنظيم مهنة المحاماة مثلا. وبالرغم من الانتقاد اللاذع الموجه الى الجمعية بخصوص لجوئها الكثيف الى الاعلام و الساحة السياسية، نرى ان النقابة قد اعتمدت سريعا اساليب مشابهة الى حد ما. كما نجد تحولات مشابهة في بعض مواقف الجمعية. ويمكن فهم هذا التناقض الظاهر عبر عاملين: اولا المنطق التنافسي الذي فرض نفسه على ادبيات الفريقين وكسر احيانا تجانس افكارهما، و الذي نراه يتغلب في بعض النقاط على المنطق التبريري الذي وجدت النقابة نفسها احيانا تعتمده للتكلم على الماضي مثلا. وقد اضطر الفريقان إلى اعتماد الأساليب الأكثر قدرة على اجتذاب القضاة وإيصال آرائهما إلى المساحة العامة والى صانعي القرار، بغض النظر احيانا عن الافكار التي يتم التعبير عنها في مساحات اخري غير المساحة التنافسية الحالية. ولا يعبر هذا الاختلاف بالضرورة عن سوء نية او تلاعب ما، بقدر ما هو يسمح لنا بفهم تعددية القنوات المعرفية التي يقارب الفاعلون القضائيون من خلالها الواقع، بين ضرورات تفسير و تبرير احداث الماضي (واقعة 2005 مثلا، عند الطرفين) و ضرورات التموضع الاستراتيجي الحاضر على الساحتين القضائية و السياسية. ويمكن التمييز ثانيا، لفهم بعض هذه التناقضات الظاهرة، بين دور القاضي كفرد و دور الجمعية او النقابة كتجمع، اذ للتجمع اساليب و امكانيات لا يجدها القاضي بمتناوله بنفس السهولة او المشروعية او حتى لا يقبلها على الصعيد الفردي، مما يؤكد مجددا أهمية تواجد تجمعات قضائية.
بالخلاصة، تظهر التجربة التونسية كيف ان من شأن وجود تجمع قضائي الى جانب مجلس القضاء الاعلى ان يشكل ضمانة لعدم انحياز هذا الاخير تماما لمصالح السلطة السياسية او تقليصا لمفاعيل هذا الانحياز، وكيف ان من شأن وجود تجمعات قضائية تمثيلية عدة ان تشكل ضمانة ضد انحياز اي منها لمصالحها المباشرة او الضيقة. و نكون بهذه القراءة قد بدأنا، على الصعيدين التحليلي و الواقعي، عملية استبدال النظريات و الخطابات التقليدية حول استقلال القضاء (عن من؟) ووحدته (لماذا؟) و”هيبته” وترفع القاضي (على من؟)، بمعادلات وتوازنات قوة تفصيلية وبراغماتية تحفظ للقضاة هوامش تحركهم امام السلطة، وامكانية تضامنهم فيما بينهم ومع قوى مجتمعية اخرى، وامكانية اسماع اصواتهم امام محاولات العديد من القوى السياسية والاقتصادية النافذة لاستعمال القضاء ومساحاته من اجل تحقيق مصالح خاصة في اهدافها او منطلقاتها.
[1]يلعب مجلس القضاء الاعلى دورا اكثر تعقيدا بالطبع، كمساحة تمازج وتفاوض دائمين بين السياسي و القضائي، الا ان لا علاقة له، بصيغته الحالية، بالصفة التمثيلية للقضاة التي تريد ايدولوجيا السلطة اضفائها عليه، اذ ان السياسي يبقى عنصرا اساسيا في تكوينه و عمله و وظيفته.
[2]و قد انضم مؤخرا الى الجمعية و النقابة تنظيم ثالث هو اتحاد القضاة الاداريين، “المتحالف”حاليا مع النقابة.
[3]لهذا الغرض، يمكن مراجعة : الفرشيشي و.، 2009، “استقلال القضاء و التكتلات الجماعية للقضاة في تونس”، في:
حين تجمع القضاة، صاغية ن. (اعداد)، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، ص.205-253.
[4]فيما يخص الوضع اللبناني، يمكن مراجعة : صاغية ن. و غمرون س.، 2009، “التحركات القضائية الجماعية في لبنان”، في
حين تجمع القضاة، صاغية ن. (اعداد)، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، ص. 41-138.
[5] المرجع السابق، ص. 46 و ما بعد فيما يخص “حلقة الدراسات القضائية”، و ص. 68 و ما بعد بالنسبة “للجنة القضائية”.
[6] الفرشيشي و.، ص. 232 و ما بعد.
[7] لاسيما القضاة وسيلة كعبي و روضة القرافي و كلثوم كنو و احمد الرحموني من المكتب التنفيذي، و ليلى بحرية و نورا حمدي من خارجه. للمزيد من التفاصيل، انظر المرجع نفسه، ص. 245 و ما بعد، او
Instrumentalisation de la justice en Tunisie : Ingérence, violations, impunités, Rapport FIDH (draft), Janvier 2011, p. 11
[8] او على الاقل من بعضهم، اذ سرعان ما حصلت انشقاقات و اعتراضات ادت الى ابتعاد بعض القضاة المعارضين سابقا عنالتوجهالجديد للجمعية.
[9]عدة مقابلات مع قضاة اعضاء من الجمعية و النقابة.
[10] تجدر الاشارة هنا إلى ان مطلب تأسيس نقابة للقضاة قديم في تونس، انما لم يستجب النظام له يوما خوفا من تشجيع المنحى المطلبي عند القضاة (عدة مقابلات). و قد شكل هذا المطلب القديم احد مصادر مشروعية تاسيس النقابة عام 2011، على الاقل حسب رأي بعض مؤسسيها الذين يصرون بالتالي على اظهار تاسيس النقابة وكانه احد انتصارات الثورة ايضا، ليدحضوا بذلك الاراء التي تتهم النقابة بانها تشكل ردة فعل لفلول النظام السابق القضائية.
[11] نجد الصعوبة هذه خصوصا في الحالات التي لا يكون فيها رشوة واضحة أو تقيد واضح بتعليمات السلطة و مصالحها بشكل مخالف لأبسط قواعد العدالة. فكيف يشخص الباحث اثار السلطة في العمل القضائي اليومي في هذه الحالات الرمادية، التي تشكل الاكثرية الساحقة من الحالات امام المحاكم؟
[12] و قد حصلت هذه الانتخابات نهاية شهر أكتوبر 2011، لتعيد إلى المكتب التنفيذي معظم أعضاء “المكتب الثوري” الذي كان اصلا يمارس مهامه قبل “انقلاب” 2005، و عادت و فرضته أحداث 14 جانفي. و حصلت الانتخابات بعد انشقاق قضاة النقابة و ابتعاد معظمهم عن عملية التصويت.
[13] و تجدر الاشارة هنا الى انه حتى الرؤية المحافظة نوعا ما لدور القاضي و موقعه في تونس لم تنف يوما حقه في التجمع و التحرك بغض النظر عن راي وزارة العدل او مجلس القضاء. فحتى مواقف القوى القضائية الاكثر “محافظة” في تونس تبقى متقدمة اشواطا عديدة على مواقف و واقع غالبية القضاة و الحقوقيين اللبنانيين. و هذا ضوء جديد يلقى على مدى لبرالية المؤسسات و النقاشات في لبنان.
[14] لتحليل اكثر تفصيلا و دقة، سوف يصدر عن المفكرة القانونية و مؤسسة هاينرش بول عام 2012 دراسة بحثية مفصلة حول موضوع العمل القضائي في تونس تحت النظام الاستبدادي و في فترة ما بعد الثورة.
[15] لموقع النساء المتقدم في المسؤوليات القضائية في تونس، لاسيما الناتجة عن الانتخابات، بحث اخر…
[16] و التي تتجلى مثلا في صعوبة المخالفة عند النقاش في الملفات قبل المحاكمة، او في الالقاب العديدة المستعملة التي تهدف الى تمييز رؤساء المحاكم عن مستشاريها، او حتى الى تمييز القضاة انفسهم عن سائر المواطنين. فالمجتمع القضائي اليوم يبقى من اقل المجمعات المهنية ديمقراطية بين اعضائها.
[17] ويضاف اليهما اتحادالقضاة الاداريين الذي تم انشاؤه حديثا في ايلول 2011 تبعا للقرار الذي اخذته الحكومة بتغيير رئيس مجلس الدولة من دون استشارة القضاة وفي اجواء توحي بانه متهم بالفساد.
[18] انظر صاغية ن. و غمرون س.، 2009.
[19]عدة مقابلات مع قضاة تونسيين.
[20] عدة مقابلات مع قضاة.