بتاريخ 19/5/2017، أصدر المكتب الإعلاميّ لمجلس القضاء الأعلى بياناً تضمن موقفاً غير اعتيادي إزاء المنحى الذي اتخذه وزير العدل سليم جريصاتي مؤخّرا في التعامل مع عدد من القضايا القضائية. وقد تناول البيان بشكل خاصّ الإتصال الهاتفي الذي أجراه وزير العدل برئيس محكمة جنايات بيروت بالتكليف هاني عبد المنعم الحجار، لتسريع النظر في قضيّة قتل جورج الريف. وقد برّر الوزير إتّصاله الحاصل أمام وسائل الإعلام، بأنه وزير الأداء القضائي، وأنه حريص على وصول القضايا الساخنة (ومنها ملف الريف) إلى خواتيمها، متمنياً على القاضي مراراً إعطاءه حكما على مستوى الحدث الجلل، حكما "يفخر به".
وكانت "المفكرة" تفرّدت في نشر حرفية مخاطبة الوزير للقاضي وفي التحذير من خطورة تحوّلها إلى ممارسة ونهج، لما يستتبع ذلك من تعزيز لثقافة التدخل في القضاء، وهي الثقافة التي قتلت جورج الريف[1]. كما كانت المفكرة قد انتقدت تصرفا مشابها للوزير في قضية الحاجة خديجة.
ومن أهمّ ما جاء في البيان أنه "انطلاقا من واجب المجلس حماية حيادية كلّ قاض ودفع أيّ تعرض أو ضغط من أي نوع كان من شأنه أن يعكّر صفاء ذهنه، لا سيّما من قبل وسائل الإعلام، وانطلاقا من الحرص على أن تبقى الأحكام القضائية نتاج قراءة المحاكم لوقائع الدعوى ولأحكام القانون، قام (رئيس مجلس القضاء الأعلى) بزيارة وزير العدل الأستاذ سليم جريصاتي في مكتبه وتوافق وإياه … على مقاربة واحدة بشأن التصدي لأي خلل يمكن أن يطرأ بمعرض العمل القضائي" وقوامها "مراجعة هيئة التفتيش القضائي عندما يستدعي الأمر ذلك".
وهذا البيان يستدعي ملاحظات ثلاث:
أولاً، أنه صدر تبعاً لمشهدية فاقعة لتدخل وزير العدل في عمل القضاء، بحضور وسائل إعلام. وبالطبع، ما كان هذا التدخّل ليحصل علانيّة لو لم تكن قضية "الريف" شعبية. وتاليا، ورغم خطورة إنعكاسات هذه المشهدية على ثقافة التدخل في القضاء (وهي الثقافة التي قتلت الريف) والترويج لها، فإنها لا تقل خطورة عن التدخلات التي تحصل سراً من قبل أكثر من مرجع، بعضها من خارج القضاء وبعضها من داخله. ومن هنا، ومع الترحيب بما انتهى إليه لقاء رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل، نتحفظ على عبارة "ولا سيما من قبل وسائل الإعلام"، مذكّرين أن التدخلات التي تحصل في الكواليس بعيداً عن الأعين، ترغيباً وترهيباً، هي عموما التدخلات الأكثر خطورة. فالأمور لا تنتظم بوقف التدخلات الفضائحية أو بستر التدخل فقط، بل بجبهه في جميع أشكاله، وبخاصة في أشكاله غير المرئية.
ثانيا، نخطئ إذا تعاملنا مع تصرّف الوزير جريصاتي على أنّه إنزلاق فرديّ، من دون النظر في العوامل التي دفعت وتدفع وستدفع كثيرين من وزراء العدل والسياسيين عموماً في هذا الإتجاه. ومن أهم هذه العوامل، فُقدان ثقة المتقاضين وعلى الأقلّ تراجعها في القضاء، وهي واقعة ترتبط بعدم اقتناع هؤلاء بأداء القضاء وميلهم إلى البحث عن حماية. ويتفرّع عن هذا العامل أو يوازيه عامل آخر لا يقلّ خطورةً، وهو سواد ثقافة التدخّل في القضاء، على نحو يظهر معه تدخّل السلطة التنفيذية والسياسيّين عموماً في القضاء، على بشاعته، أمراً طبيعياً. ومن هنا، تتطلّب المسألة ليس الإكتفاء بمعالجة أحد تجليّات المشكلة (إقناع الوزير بالإمتناع عن التدخل الفضائحي في القضاء)، ولكن الغوص في أعماقها بحثاً عن سبل إعادة ثقة المتقاضي بالقضاء. وفي هذا السياق، لا يسعنا إلا أن نسجّل بقلق عميق ما تسرّب لجهة ربط مشروع التشكيلات القضائية بالإنتخابات النيابية بما يصورها كجزء من الكعكة أو لجهة تدخل مراجع سياسية عليا لتعيين قضاة لهم سجّل من المخالفات في مناصب قضائية سامية.
ثالثا، أن المقاربة الموحّدة المعتمدة في البيان للتصدّي للخلل القضائي من خلال هيئة التفتيش القضائي (وهي المقاربة نفسها التي دعت إليها المفكرة) تضع هذه الهيئة أمام مسؤوليّات هامّة، في ظلّ إطار قانونيّ لم يعد مُؤاتياً في الكثير من مواده للتحديّات الراهنة. وفي حال إلتزام وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى (الذي بالمناسبة وضع هو الآخر آليات لمتابعة الشكاوى لدى أمانة السر) بهذه المقاربة، فإن الهيئة ستجد نفسها مدعوة لتطوير قدراتها على استقبال شكاوى المتقاضين ومعالجتها بشكل فعّال ومقنع. كما ستجد نفسها مدعوة لتطوير آليات تضمن شفافية عملها في المجالات التي يتيحها القانون، وأهمها المجالات المتصلة بمراقبة عمل المحاكم. الأهم ربما هو أن تنجح الهيئة في تطوير دورها الوقائيّ في استشراف الممارسات الفضلى أو في رصد المُمارسات المُضرّة في العمل القضائي وفي متابعة المحاكم بهدف تعميم الأولى ووقف الثانية. ورغم حجم العوائق التي ستعترض الهيئة للقيام بدورها هذا، فمن شأن هذه المقاربة أن تعيد توجيه بوصلة الإصلاح القضائي في الإتجاه الصحيح، في اتجاه إصلاح المؤسسات بعيداً عن فقاعات الإصلاح المرتبطة بإرادة شخص أو بحدث معين وعن إصلاحات الزواريب.
[1] جورج الريف قتل في وضح النهار وأمام الكاميرات وبطعون متتالية على خلفية أسبقية مرور. المتهم بقتله طارق يتيم كان اتهم في عدد من القضايا الخطيرة ما تزال قيد النظر، ويعتقد أنه كان يتم في كل مرة إخلاء سبيله بتدخل من صاحب عمله السابق وهو متنفذ مالي، على نحو جعله يشعر أنه فوق القانون.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.