لم يكن قرار عميد المحامين إبراهيم بودربالة الانخراط في مشروع رئيس الدولة قيس سعيّد بعد تعيينه رئيسا لإحدى لجان “الجمهورية الجديدة”، إلا توريطا للمحاماة الرسميّة في بناء مختلّ الأسس، وغير واضح المعالم وغامض المنتهى. أثار هذا “الانخراط” في الواقع موجة تصدّع داخل جسم المحاماة سواء داخل الهياكل أو المحامين القاعديّين. بيد أن التصدّع الأشدّ هو الذي لا زالت تتبيّن آثاره، بعد تمديد العميد عهدته، في قرار أصدره بتاريخ 6 جوان 2022. إذ منح لنفسه شهرين إضافيين بالدعوة لعقد جلسة عامة انتخابية بتاريخ 11 سبتمبر 2022 وليس قبل نهاية مدته النيابية بتاريخ 6 جويلية، وبالخصوص قبل بدء العطلة القضائية منتصف شهر جويلية 2022. قرار يخالف تقاليد المهنة منذ عقود، ويخالف أساسا مرسوم المهنة الذي جيّره العميد تحت معول “التأويل” معلنا بدوره “حالة الاستثناء” داخل المحاماة.
في البداية، لماذا التمديد؟
لا يُخفى على أيّ متابع أن قرار العميد بودربالة بتأجيل عقد الجلسة الانتخابية وتمديد عهدته وإن لمدة شهرين إثنين، مرتبط بدوره الرئيسي في هندسة المشهد السياسي الجديد. إذ من البيّن أنه لا يريد مغادرة العمادة قبل الاستفتاء على الدستور الجديد يوم 25 جويلية القادم، وهو الذي يعدّ أحد “كتّابه” وإن ظاهريّا على الأقل. إذ أن كبح العميد ومجلس الهيئة الجديدين مثلا لجماح الانخراط في مشروع رئيس الدولة كاتخاذ موقف سلبي من مشروع الدستور، ستجعل العميد بودربالة في موقف محرج قطعا. هذا بالإضافة إلى أن العميد يعلم أن الجلسة الانتخابية، وبحكم طبيعتها، ستكون جلسة مساءلة لأدائه طيلة عهدته من قبل عموم المحامين، ولذلك يفضّل تأجيلها إلى ما بعد الاستفتاء. ومن البيّن إذا أن العميد هو من اختار إخضاع أجندة المحاماة إلى الأجندة السياسية، وهي ذات “التهمة” التي يوجّهها لخصومه داخل القطاع.
حقيقة لم يكن قرار تأجيل الجلسة الانتخابية مفاجئا بالمرّة، إذ تداولت الكواليس داخل المهنة منذ أسابيع عديدة أحاديث عن إعداد مرسوم جديد للمحاماة في “الخفاء” وأنه سيتم التمديد للعميد بودربالة. وقد طالب محامون، في عريضة بتاريخ 24 ماي 2022، العميد بالدعوة للجلسة الانتخابية “في أقرب وقت ممكن تأكيدا لاحترامه مرسوم المهنة وقيمها وتقاليدها، وقطع الطريق على أيّ شكوك خاصة في سياق سياسي يشهد استهدافا للمنظمات الوطنية والقطاعية من داخل “أسوارها”. فبقدر ما أظهر العميد انخراطه في مشروع سعيّد، كانت تتزايد التخوّفات من كلفة هذا الانخراط على حساب المحاماة.
استغلّ بودربالة الاختصاص الحصري للعميد في الدعوة للجلسة الانتخابية بموجب الفصل 51 من مرسوم المحاماة، إضافة للكاتب العام للهيئة في حالة التعذّر، لاحتكار “التأويل الجديد” لموعد الجلسة الانتخابية. تاليا، فرض أمرا واقعا حتى على حساب مجلس الهيئة نفسه، والذي كان قد نفى في اجتماعه بتاريخ 11 ماي 2022 “الإشاعات بخصوص ما يُروّج عن تمديد العهدة” وضرورة إجراء الانتخابات في “الآجال القانونية” مع الإشارة إلى تأكيد العميد أن “الدعوة ستصدر عنه في الإبّان مع احترام الآجال”. لقد عكس هذا البيان نبرة تمايز بين موقف أغلبيّ داخل المجلس وموقف العميد. تمايز أكّده لاحقا الكاتب العام الأستاذ حاتم مزيو، في تصريح إذاعي بعد قرار التمديد، بأن موقفه مع “العديد من زملائه” داخل مجلس الهيئة هو احترام العهدة النيابية المحدّدة بثلاث سنوات دون تمديد.
أسانيد التمديد “موضة” التأويل
لم يشذّ العميد بودربالة عن درب رئيس الدولة في المضي نحو التأويل القسريّ للنصوص القانونية للتأسيس النظري لخيارات دون سند قانوني أو ضعيفة السند في أدنى توصيف، معمّمًا “حالة الاستثناء” بدوره. وبهذا المعنى، قال العميد إنه يقدّم تأويلًا “جديدًا” لمرسوم المحاماة عبر تصحيح خطأ دأبت عليه الهيئات التي سبقته.
يتأسّس هذا التأويل على أن الفصل 51 من مرسوم المحاماة ينصّ على تعيين جلسة عامة “في موفّى السنة القضائية”، ملاحظا، استنادا للفصل 38 من قانون 1967 المتعلق بنظام القضاء، أن السنة القضائية تبدأ يوم 16 سبتمبر وتنتهي يوم 15 سبتمبر من السنة الموالية. تاليا يصبح عقد الجلسة يوم 11 سبتمبر هو من قبيل “التطبيق السليم للقانون”. بيد أن هذا التأويل متعسّف ويتأسس على قراءة غير مكتملة للمرسوم: إذ يقتضي الفصل 57 أن المدّة النيابية محدّدة بثلاثة أعوام، كما ينصّ الفصل 52 أنه يتمّ انتخاب العميد ومجلس الهيئة الوطنية أو رئيس الفرع وأعضاء مجلسه “عند انتهاء المدّة”. وهو ما يعني لزوم انتخاب عميد جديد بتمام مدّة 3 سنوات للعميد المتخلّي في أقصى الحالات. وعليه تعدّ مواصلة العميد لمدّته بعد انتهائها من قبيل التمديد دون أيّ سند شرعي، مع العلم أنّه سبق وتم انتخاب العميد بودربالة بتاريخ 06 جويلية 2019 لتنتهي بذلك مدّته النيابية في أجل أقصاه 5 جويلية 2022.
كما يبّرر العميد قراره، من الباب الاحتياطي، بما أورده مرسوم رئيس الحكومة عدد 8 لسنة 2020 المؤرخ في 17 أفريل 2020 والمتعلّق بتعليق الإجراءات والآجال، وهو المرسوم الذي أصدرته حكومة الفخفاخ إبان فترة الحجر الصحي الشامل لمواجهة وباء كورونا. وهذا السند لا يمكن اعتماده لتأسيس تمديد العهدة الانتخابية، باعتبار أن المرسوم نصّ على تعليق الإجراءات والآجال المنصوص عليها في النصوص القانونية الجاري بها العمل، وبالخصوص منها ما يتعلق بالدعاوى واستدعاء الخصوم والطعون والإجراءات المعلقة على شرط أو أجل. وهو تعليق -suspension-نتج عن أمر طارئ يجعل من الاستحالة تنفيذ الإجراء في الزمن المحدّد. وإن شمل مرسوم التعليق في اطلّاعاته مرسوم المحاماة، فذلك لأنه يشمل الإجراءات والآجال الواردة ضمنه وتحديدا تلك المتعلّقة بالإجراءات التأديبية وآجال الطعن في قرارات الهياكل، ولا يمكن البتّة أن يشمل التعليق سريان المدّة النيابية. ثمّ إنّ سند التعليق هو الاستحالة الماديّة لممارسة الإجراء بما يؤسّس للتعليق في حق المعني بالممارسة، في حين أن العميد مثلا لم يفقد صفته كعميد خلال فترة الحجر الشامل وبالخصوص خلال فترة سريان المرسوم عدد 8. وقد مارس صلاحيّاته طيلة تلك الفترة، وتاليا لا معنى لتعليق مدته النيابية لتبرير تمديدها لاحقا.
من جانب آخر، جرت تقاليد المهنة منذ عقود على عقد الجلسة الانتخابية قبل بدء العطلة القضائية، أي في منتصف جويلية من كلّ ثلاث سنوات بما يجعل ذلك من مصاف الحجّة التاريخية. إذ انعقدت على سبيل الذكر آخر أربع جلسات انتخابية بتواريخ 20 جوان 2010، و23 جوان 2013، و10 جويلية 2016 و6 جويلية 2019. ما يجعل عقد الجلسة قبل العطلة القضائية تقليدا راسخا لم يتزعزع قبل الثورة وبعدها. كما أن اعتبار “موفى السنة القضائية” هو زمن ما قبل بدء العطلة القضائية يجد سنده الواقعيّ بأنّ الهياكل المنتخبة الجديدة، أي العميد ومجلس الهيئة ومجالس الفروع الجهوية ورؤساءها، سيشرعون بمجرّد انتخابهم، وخلال العطلة القضائية، في الاستعدادات للسنة القضائية الجديدة بالشراكة مع الهياكل القضائية المركزية أو الجهوية. إذ لا يُعقل أن يبدأ المنتخَبون الجدد عهدتهم مع انطلاق سنة قضائية جديدة منتصف شهر سبتمبر، ولم يتلقّوا بعد حتّى برقيّات التهنئة من وزارة العدل أو الهيئات القضائية، إضافة إلى عقد زيارات المجاملة وبدء لقاءات التعاون.
ومن الطريف أن العميد بودربالة برّر، في تدخّل إذاعي، عقد الجلسة الانتخابية في شهر سبتمبر بدل شهر جويلية بأن هذا الأخير يشهد درجات حرارة مرتفعة. مبرّر، إن كان غير جدّي، فهو مردود عليه واقعا باعتبار أن الجلسة الانتخابية تُقام في قاعة مكيّفة وليس في جنوب الصحراء، وأن بداية شهر سبتمبر بالخصوص يشهد بدوره موجة حرّ سنوية لا تقلّ ارتفاعًا عن شهر جويلية. باستعمال هذه “الحجّة”، يبدو-حقيقة-أنّ العميد كان أقرب للحديث قصدا عن حرارة المناخ العام لعقد الجلسة الانتخابية أكثر من حرارة المناخ نفسه.
آثار التمديد: أي كلفة؟
لم يكن من قبيل الصدفة أن يختار العميد بودربالة إصدار قرار تأجيل موعد الجلسة الانتخابية في 06 جوان 2022، تزامنا مع أوّل أيّام إضراب القضاة بعد إعفاء رئيس الجمهورية 57 قاضيا، وذلك في سياق تشتيت الانتباه عن قرار مثير للجدل في أدنى توصيف. خطوة سُرعان ما أثارت موجة رفض داخلي تمّت ترجمتها بتوجيه عدد من المحامين تنبيها للعميد بأن أي إجراء سيقوم به سواء في حقّ الهيئة الوطنية للمحامين أوفي حقّ صندوق الحيطة والتقاعد للمحامين بعد تاريخ 6 جويلية 2022 يعد باطلا بطلانا مطلقا ولا يلزم المحامين في أي شيء. وقد نشرت الصفحة الرسمية للهيئة على “فيسبوك” هذا التنبيه، بما يؤشّر، في الظاهر، لعدم ممانعة العميد نفسه لمناقشة مسألة “داخلية” أمام العموم. ذلك إن لم يكن المقصد رغبته في أن يبدو بعض هؤلاء المحامين منتمين إلى أحزاب سياسية، وذلك لتعزيز سرديّته، خاصة أمام الجمهور العام، القائمة على أن المعارضة داخل الجسم القطاعي تنحصر في المتحزّبين بل في الإسلاميين فقط.
وفي سياق المواجهة العمليّة لقرار التمديد، تقدّم محامون أيضا بعريضة طعن باعتبار أن الفصل 74 من مرسوم مهنة المحاماة قد خوّل الطعن في القرارات غير التأديبية الصادرة عن العميد. ومن المنتظر أن تفصل محكمة الاستئناف بتونس في هذا الطعن، بتركيبة خاصة تضمّ الرئيس الأول أو من ينوبه إضافة لمحاميّين اثنين ينتخبهما مجلس الهيئة. وقد اُلحقت هذه العريضة بتوجيه مطلب كتابي إلى العميد لدعوته لمراجعة قرار تعيين الجلسة الانتخابية.
من البيّن أنه بقدر ما تسارعتْ خطوات العميد بودربالة في تحطيب صفة العمادة لتصدير مشروع رئيس الدولة، بقدر ما كان يستنزف نفسه في جبهته الداخلية، داخل المحاماة. ليس فقط أمام عموم المحامين، لكن بالخصوص داخل مجلس الهيئة نفسه، بعد خياره الاستقواء والمغالبة بالنظر لاختصاصه الحصري للدعوة إلى الجلسة الانتخابية. إذ مثّل قرار تمديد العهدة وتأجيل موعد الجلسة لما بعد الاستفتاء على الدستور قرينة قاطعة بأن العميد أخضع أجندة المحاماة لأجندة طموحاته السياسية ضمن المشهدية الجديدة للسلطة، في سابقة داخل بيروقراطية المهنة. وبغضّ النظر عن مآل الطعن القضائي، علما وأنّ المحاماة الرسمية لطالما سعت لإبعاد خلافاتها الداخلية عن الفصل القضائي حسب أعرافها، ستظلّ تبعات القرار عبئا ثقيلا في مهنة يحتلّ منطق الالتزام بالتقاليد والأعراف الموروثة مكانة خاصة في عقلها الباطن.