سنة 2020، أثارت العدالة الانتقالية اهتمام قصر قرطاج، مقرّ رئيس الجمهورية قيس سعيد، وقصر باردو، مقرّ مجلس نوّاب الشعب، في غياب أيّ تنسيق بين السلطتين حول الموضوع. يشكّل التساؤل حول موقف كلٍّ من السلطتين إزاء العدالة الانتقالية مناسَبةً للإضاءة على ضعف التواصل بينهما الذي كان من آثاره عجز الرئاسة عن تجاوز مرحلة حسن النوايا، في ما تعلّق بما طرحت من أفكار، والذي كان سبباً في انزلاق مسألة العدالة الانتقالية، في مجلس نوّاب الشعب، إلى خانة التجاذب بين القوى السياسية المتصارعة.
رئاسة الجمهورية والعدالة الانتقالية: اهتمام قائم ونوايا حاضرة وأثر غائب…
يطغى ملفّ العدالة الانتقالية على نشاط الرئيس سعيد خلال سنته الأولى في الحكم، من الأمثلة عن ذلك:
- استقبل، في ثلاث مناسبات، عائلات شهيد وجريحَيْن في القصر الرئاسي وممثّلي جمعية للشهداء في جهة القصرين؛ وسافر خارج العاصمة تونس، في أربع مناسبات أخرى، لزيارة قبرَيْ شهيدَيْن ومنزل شهيد وعيادة جريحَيْن من جرحى الثورة. الأمر الذي اعتبره دليلاً على” بقائه على العهد حتّى تتحقّق مطالب جرحى الثورة وشهدائها” وأنّ “ملفّهم يبقى في صدارة أولويات اهتماماته”.
- استقبل، خلال الفترة بين بداية عهدته ونهاية جانفي 2021، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السابقة سهام بن سدرين أربع مرّات؛ خُصِّصت الأولى لتلقّي تقريرها حول أعمال التصفية، فيما ذكرت البيانات الرسمية أنّ الثانية والثالثة خُصِّصتا للتحاور في ملفّ العدالة الانتقالية وتأكيد أهمّيتها، وكان موضوع الرابعة استرجاع الأموال المنهوبة.
يبيّن تواتُر الاستقبالات وتعدُّدُها أهمّيةَ الملفّات المتعلّقة بالعدالة الانتقالية في مشروع الرئيس السياسي، لكنّها قد لا تؤشّر فعلياً إلى مدلول عملي له. فمن المعلوم أنّ الرئاسة لم تتدخّل لإيجاد حلول لأزمة نشر قوائم شهداء وجرحى الثورة في الجريدة الرسمية ولم تعتذر إلى ضحايا الحقبة الاستبدادية كما يفرض عليها قانون العدالة الانتقالية رغم مطالبة الضحايا بالاعتذار. هذه المعطيات، إنّما تؤشر إلى أنّ ما يظهر من انخراط إنساني في قضايا العدالة الانتقالية لا يوازيه تصوُّرٌ لحلول مشاكلها، الأمر الذي قد يؤكّد مجدَّداً ما هو معروف عن الرئيس، أي افتقاره لمشروع سياسي، ما يمنع تطوّر أفكاره في المجال. الأمر الذي تأكّد لدى محاولته العمل على فكرته حول الصلح الجزائي.
الصلح الجزائي: فكرة صارت نصّاً انتهى على رفوف خزائن كاتبه
في سنة 2012، روّج الأستاذ الجامعي قيس سعيد إعلامياً وفي أوساط المجتمع المدني والسياسي لما اعتبره حلّاً يُنهي الملاحقات القضائية في حقّ أصحاب الأعمال المتَّهمين بالفساد وتحقّق أهداف المصالحة، تمثّل في ترتيب معتمديات تونس تبعاً لفقرها وإلزام المتّهمين بالفساد فيها بتبنّي الأكثر فقراً منها وضخّ الأموال لتنميتها. عندما ترشّح سعيد إلى رئاسة تونس، في 2019، كان مشروعه للصلح الجزائي من الوعود الانتخابية القليلة التي قدّمها في حملته ووعد بتحقيقها بما يضمن المصالحة الوطنية والتنمية.
بعد تولّيه الرئاسة، كرّر سعيد فكرته في اجتماع مجلس الأمن القومي نهاية مارس 2020، وتبيّن لاحقاً أنّ فريقه القانوني كان يعمل على أن تكون مقترح القانون الأوّل الذي سيتقدّم به. وقد أنهى فعلياً نهاية أكتوبر من السنة ذاتها صياغة المقترح وسرّبه بشكل غير رسمي إلى الإعلام لينتهي بعد ذلك كلّ حديث عنه.
كان المقترح، كما تمّ تداوله، وفيّاً لفكرته الأصلية التي لم تتغيّر رغم السنوات التي فصلت بين إعلانها وصياغتها في نصّ يطمح أن يكون قانوناً. لا نعلم إن كانت الرئاسة اختارت أن تتريّث قبل تقديم مقترحها إلى مجلس النوّاب أم أنّها، بفعل ما عاينت من فتور في الوسط السياسي وفي وسط أصحاب الأعمال في التعاطي مع مقترحها، تراجعت عنه بصمت.
مجلس نوّاب الشعب والعدالة الانتقالية: الملفّ الحارق قد يفيد في صراعات تعود لتؤجّجه
تراجَعَ إنكار أزمة الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية من قِبل النخبة التونسية نهاية 2019 ليحلّ محلّه اعتراف واسع منها بأهمّية طرح السؤال حول احترامها قواعد المحاكمة العادلة، خصوصاً المتعلّقة باحترام إجراءاتها الحقَّ في التقاضي على درجتَيْن وبأولوية أن يكون التشريع وسيلة لتجاوز المشكلات.
في الفترة ذاتها، كشفت نتائج الانتخابات التشريعية عن أنّ مجلس النوّاب بات يتكوّن من مجموعتين سياسيتين رئيسيتين؛ الأولى، النوّاب ذوو المرجعية الدستورية أي الذين كانوا ينشطون في الحزب الحاكم وهياكله قبل الثورة وعددهم 92 نائباً؛ الثانية، النوّاب الذين دخلوا مؤسّسات الدولة بعد الثورة وهم بمعظمهم نوّاب حركة النهضة وائتلاف الكرامة، بالإضافة إلى نوّاب حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي. كما كشفت عن أنّ التحالفات السياسية داخل المجلس، طيلة ولايته، لن تعتمد قواعد التمييز تلك بسبب تداخل التحالفات بين مكوّنات الشقَّيْن رغم أنّ من شأن السؤال حول الماضي وعلاقته بتونس اليوم أن يكون سؤالاً مركزياً داخل المجلس خصوصاً في ظلّ خطاب نوّاب الدستوري الحرّ المُجاهِر برفض الثورة وما أنتجت من مؤسّسات.
أضفت هذه العوامل جميعها أهمّية خاصّة على موضوع العدالة الانتقالية موضوعاً فطُرح بشكل شبه دائم في أروقة ومؤسّسات مجلس نوّاب الشعب، ببُعدها الحزبي المتمثّل، أي الكتل النيابية، وإطارها الجزئي، أي اللجان الفنّية في سياق، يبدو أنّه سياسي، احتكرته رئاسة المجلس.
الكتل النيابية: الدستوري الحرّ والدوائر المتخصّصة
في 25 سبتمبر 2020، قدّمت كتلة الدستوري الحرّ مقترح تشريعي يهدف إلى تنقيح الأحكام المتعلّقة بعمل الدوائر المتخصّصة للعدالة الانتقالية الواردة في القانون عدد 53 لسنة 2013 المتعلّق بالعدالة الانتقالية. وقد ورد في شرح أسبابه أنّ الدافع إلى صياغته “ما تضمّنه القانون الساري” من مخالفة لأبجديات حقوق الإنسان وشروط المحاكمة العادلة وتضمّن مفاهيم مبهمة ومصطلحات غير دقيقة وعدم الاعتراف بالمبادئ الجوهرية مثل اتّصال القضاء وسقوط الدعوى بمرور الزمن. وخلصت أسباب المقترح إلى أنّ العدالة الانتقالية تحوّلت بفعل ذلك إلى عدالة انتقائية وانتقامية. لكن يُبيّن التدقيق في أحكام هذا المقترح أنّ جهة الاقتراح، المعروفة بمعارضتها للعدالة الانتقالية ورفضها كلّ تقليب في تاريخ تونس بحجّة حماية مكانة الزعماء والتاريخ الوطني، سعت من خلاله إلى إنهاء كلّ المحاكمات الجارية فعلياً بدون التصريح بذلك من خلال:
- فرض اعتماد قاعدة اتّصال القضاء في كل الملفات؛
- إبطال كلّ الإحالات التي تمّت بعد نهاية المدّة القانونية لعمل هيئة الحقيقة والكرامة.
عملياً، لم يتقدم نظر المقترح في المجلس ويرجح أن يتجدد في حال مناقشته التجاذب بين أنصار العدالة الانتقالية ومعارضيها بما يحجب كل فرص للإصلاح.
اللجان الفنّية الخاصّة: وُرَش صياغة مقترحات وساحات تقييم
استهلك العمل على العدالة الانتقالية جزءاً كبيراً من نشاط لجنتَيْن خاصّتَيْن من لجان مجلس نوّاب الشعب، هما “لجنة شهداء الثورة وجرحاها وتنفيذ قانون العفو العامّ والعدالة الانتقالية” و”لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرّف في المال العامّ”. اهتمّت اللجنة الثانية بما أُثير من شبهات فساد تعلّقت بهيئة الحقيقة والكرامة، وما كان من مؤاخذات على تقريرها، خصوصاً المتعلّقة بنزاع البنك الفرنسي التونسي. ومن أهمّ ما أُثير في جلساتها، عزم رئيسها الطعن قضائياً في شرعية تقرير هيئة الحقيقة. في المقابل، أبدت اللجنة الأولى، بوصفها لجنة اختصاص، اهتماماً أكثر بالإصلاح الهيكلي لمسارات العدالة الانتقالية، سواء من خلال البحث عن أسباب تعطلها أم تصوّر حلول لمشاكلها. وكان لافتاً هنا، أن إسناد اللجنة لنفسها صلاحية تقديم مقترح قانون هدفه إرساء الدرجة الثانية للتقاضي في الدوائر المتخصّصة.
لجنة تقدّم مقترح قانون: فكرة من خارج النسق
لم يسند الدستور، ولا النظام الداخلي لمجلس نوّاب الشعب، إلى أيٍّ من لجان المجلس الفنّية صلاحية تقديم مقترحات قوانين. خلافاً لهذا، قدّمت “لجنة شهداء الثورة وجرحاها وتنفيذ قانون العفو العامّ والعدالة الانتقالية” في تاريخ 02 جويلية 2020 مقترح قانون يهدف إلى تنقيح الفصل الثامن من قانون العدالة الانتقالية بما يسمح باستحداث درجة تقاضٍ ثانية للدوائر المتخصّصة للعدالة الانتقالية. وقد اعتبرت اللجنة أنّ عدم صدور أحكام عن الدوائر المتخصصة بعد سنتين من بدء عملها يعود إلى ما تبيّن لقضاتها من خلل في المحاكمة وعدم احترام الحق في التقاضي على درجتَيْن.
رئاسة المجلس: بدائل تُطبخ على غير اتّفاق
لا يسند النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب إلى رئاسته صلاحيات سيادية. عليه، بقيت هذه الرئاسة، طيلة العهدة الأولى من عمر الجمهورية الثانية، في الظلّ مقارنة بغيرها من الرئاسات. لكن لدى انتخاب رئيس حركة النهذة راشد الغنوشي رئيساً للمجلس في بداية العهدة النيابية الثانية، صار هذا الموقع من مراكز السلطة المهمّة تُخاض صراعات حوله ويشارك في نزاع موازين القوى مع الرئاسات الأخرى، خصوصاً رئاسة الجمهورية. خلال الثلاثية الأخيرة من 2020، أُعلن قرار الغنوشي تعيين محمّد الغرياني، الأمين العامّ الأخير لحزب التجمّع الدستوري الذي حكم قبل الثورة، ملحَقاً بديوانه بخطّة مستشار مكلّف بملفّ المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية. فأعاد هذا التعيين الحديث حول مشروع المصالحة الشاملة الذي دائماً ما يُذكَر أنّ كبير حركة النهضة يستعدّ لإعلانه وأنّه يعتبره بديلاً عن فشل مسار العدالة الانتقالية. لا نعلم تفاصيل هذا المشروع الذي يبدو أنه سينهي حديث المحاسبة لفائدة مصالحة تضمن حقّ الضحايا في الاعتذار وردّ الاعتبار وجبر الضرر. في المقابل، تؤشّر المعارضة الحادّة لهذا التعيين داخل المجلس وخارجه إلى أنّ مشروع المصالحة، شأنه شأن كلّ مسارات العدالة الانتقالية، لن يتقدّم كما يتوقّع المخطّطون له بسبب ما سيعترضه من خلافات سياسية منعت العدالة الانتقالية التونسية من إصلاح مساراتها وتحقيق غاياتها وأهدافها.
خلاصة
ممّا سلف، لم يمنع تشتُّتُ السلطة السياسية وتنازُعُ مكوّناتها تطوّرَ الخطاب حول الإشكاليات التي تعترض تقدّم مسارات العدالة الانتقالية لكنّه، عملياً، يمنع كلّ محاولات إصلاحها. ويُخشى هنا أن يؤدّي هذا التجاذب الحادّ إلى وأد التجربة دون اعتبار حقوق الضحايا وانتظاراتهم وما لحقهم من أذى على يد سلطة قديمة اعتدت على حقوقهم وسلطة جديدة حرمهم سوء إدارتها لملفهم من الإنصاف.
نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة