في ساعة متأخرة من ليلة عيد الأضحى، نشر الرئيس قيس سعيّد نسخة معدّلة من مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء، بعد أيام من انطلاق حملة الاستفتاء واختيار المشاركين فيها موقع المساندة أو المعارضة. تعديلات جاءتْ بعنوان “إصلاح أخطاء تسرّبت إلى مشروع الدستور”، لكنّها تعدّتْ ذلك لتشمل أيضا تغييرات وإضافات جوهريّة، حاول من خلالها الرئيس التفاعل مع انتقادات وجّهت إلى مشروعه. لكنّ التغييرات لم تشمل الأهمّ، وهي صلاحيات الرئيس المتضخمة ولا مسؤوليّته المطلقة، التي تنتج ليس فقط اختلالا تامّا للتوازن بين السلط، بل وتفتح الباب على مصراعيه أمام الاستبداد.
أخطاء مادّية تفضح ضعف جودة النصّ
شملت التغييرات 46 موضعا، من بينها فقرتين من التوطئة و39 فصلا، أي أكثر من رُبع فصول الدستور. البقيّة عناوين أبواب تغيّر رقمها، بعد أن جاء مشروع 30 جوان ببابيْن رابعيْن، في مؤشّر على عبثيّة صياغته. أُصلحتْ بعض الأخطاء اللغوية والإحالات الخاطئة، كما تمّ تدارك تكرار الفقرة المتعلّقة بحالة التمديد في مدّة البرلمان، التي تكرّرت في نسخة 30 جوان حرفيا في فصلين مختلفين. أمّا التناقض الصريح بين فصلين بخصوص الأغلبيّة المطلوبة للمصادقة على قانون المالية، فقد حُلّ عبر حذف شرط الأغلبية المطلقة. حاول الرئيس في خطابه التقليل من شأن الأخطاء، معتبرا أنّها “أمر معهود في نشر سائر النصوص القانونية”، حيث “تتسلل الأخطاء لأي عمل بشريّ”. لكنّ حجم الأخطاء الذي بلغ حسب تعديلات الرئيس 26 موضعا على الأقلّ، غير معهود أبدا في نصّ قانوني. فما بالك بمشروع دستور، ويعكس تسرّعا واضطرابا في صياغته، كي لا نقول لا حرفية من صاغَه.
تعديلات مضمونيّة لطمأنة بعض المخاوف
استغلّ الرئيس الأخطاء المادّية، كي يفتح باب تعديل مضامين مشروعه تفاعلا مع الانتقادات الكبيرة التي أثارتها. شمل تعديل المضامين ما لا يقلّ عن 20 موضعا، منها ما يمكن أن يندرج في إطار توضيح بعض الصياغات، أبرزها جندرة حقوق الانتخاب والترشّح تفاعلا مع تعبير جزء من الحركة النسويّة عن مخاوف من الصياغة كما وردتْ في مشروع 30 جوان. لكنّها تعدّت ذلك في اتجاه تعديلات جوهريّة. من ذلك حذف هدف “الآداب العامّة” من الفصل 55 الذي يحدّد الضوابط التي يمكن وضعها للحقوق والحريات، وإعادة شرط “التناسب” مكان شرط “التلاؤم” الأخفّ، وربط شرط الضرورة بما “يقتضيه نظام ديمقراطي”، في الفصل ذاته. كما أضيفتْ عبارة “في إطار نظام ديمقراطيّ” إلى الفصل الخامس الذي أثار جدلا واسعا، والذي يحمّل الدولة “وحدها” واجب العمل على “تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف من حفظ النفس والعرض والمال والدين والحرية”. هذه التعديلات موجّهة مباشرة إلى رأي عامّ “حداثي” كان في جزء كبير منه مساندا لسعيّد ومساره بناء على موقف معادٍ للإسلام السياسي، وامتعض كثيرا بعد اكتشاف نسخة مشروع الدستور التي تراجعت كثيرا عن مكاسب دستور 2014 في مجال علمانيّة الدولة، على الرغم من حذفها الإشارة إلى الإسلام باعتباره دينا لتونس أو للدولة، حسب تأويل الضمير الغائب. لكنّ سعيّد واصل في تنكّره لمفهوم مدنيّة الدولة، الذي كان يسمح بتحييد أيّ تأويل ديني ممكن. فقد جاءتْ مدنية الدولة في دستور 2014 بمدلول علماني، حيث تقوم على “المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون”، أي كلّ ما يناقض الدولة الدينيّة. أمّا الإشارة إلى نظام ديمقراطي، فليست كافية لتبديد المخاوف من تأويلات خطيرة ذات مرجعيّة دينيّة.
بعض التعديلات استهدفت “الحداثيين” المؤيدين لسعيّد والذين امتعضوا من نسخة 30 جوان
تراجع عن البناء القاعدي؟
وفي سياق التفاعل مع المخاوف، أعاد سعيّد الإشارة التي اختفت في مشروع 30 جوان حول انتخاب رئيس الجمهوريّة على دورتيْن، والتي فهمها البعض كتمهيد لتنقيح القانون الانتخابي في اتجاه انتخاب الرئيس بالأغلبية البسيطة منذ الدّور الأول. كما أضاف الإشارة التي سقطت في مشروعه بالمقارنة مع دستور 2014، بعدم جواز الجمع بين مسؤوليات رئيس الجمهورية وأيّ مسؤولية حزبيّة، وهو ما لا يطرح أي إشكال لمن يؤمن بانتهاء الدور التاريخي للأحزاب.
لكنّ التعديل الأبرز، فقد تمثل في التراجع عن حذف شرط الانتخاب المباشر بخصوص مجلس نواب الشعب. غياب هذا الشرط كان يعني فتح الباب أمام تطبيق مشروع البناء القاعدي القائم على فكرة التصعيد من أسفل، في الغرفة البرلمانية الأولى. لكنّ هذا التنازل لا يعني بالضرورة تراجع سعيّد عن المشروع الذي يحمله منذ السنوات الأولى للثورة، وذلك لسببين على الأقلّ:
أوّلا، لا يزال تطبيق المشروع ممكنا في الغرفة البرلمانية الثانية، أي مجلس الجهات والأقاليم. هذا الأخير حامل لفلسفة البناء القاعدي، إذ يمثّل “الجهات” بغضّ النظر على وزنها الديمغرافي، وذلك بهدف إحداث التوازن التنموي بين الجهات الساحلية والجهات الداخليّة الأضعف ديمغرافيا. كما لم ينصّ دستور سعيّد على انتخاب المجالس الجهويّة انتخابا مباشرا، مما يعني أنّ هذه الأخيرة قد تتشكّل عبر التصعيد من مجالس محلّية، تتكوّن على مستوى المعتمدية كما في البناء القاعدي، على قاعدة انتخابات على الأفراد في كلّ عمادة. ولعلّ تسرّب عبارة “مجالس محلّية” في الفصل 75 مؤشّر على ذلك.
ثانيا، وهذا هو الأهمّ، حسَمَ سعيّد أمره بخصوص نظام الاقتراع في الانتخابات القادمة منذ أشهر، وصرّح أنها ستتم وفق الاقتراع على الأفراد في دورتين، كما في البناء القاعدي. ومن الوارد جدّا، تماشيا مع مقترحات سعيّد منذ 2011، أن تكون المعتمدية هي الدائرة الانتخابية، وهو ما يحيلنا مرّة أخرى على فلسفة البناء القاعدي، أي إقصاء المساواة بين المواطنين مقابل اعتماد المساواة الترابية، التي تعني تمثيل المعتمدية التي تعدّ 4000 ساكن كالمعتمديّة التي يقطنها 160 ألف ساكن، بنائب واحد. أي أنّ التنازل عن الانتخاب غير المباشر لا يعني بالضرورة تراجعا عن البناء القاعدي، لكنّه يبقى مثالا على تعديلات مضمونيّة جوهريّة لا يمكن أبدا تصنيفها ضمن “الأخطاء التي تسرّبت للنصّ” فوجب إصلاحها.
نصّ جديد يحافظ على فلسفة القديم
يبقى أنّ التعديلات التي طرأت على الفصل 124 كافية في حدّ ذاتها لاعتبار نصّ 8 جويلية مشروعا جديدا قائما بذاته، وليس مجرّد تدارك لأخطاء مشروع 30 جوان. فقد أضاف سعيّد في هذا الفصل ما لا يقلّ عن أربعة حقوق أهملها في مشروعه، وهي الحقّ في محاكمة عادلة في أجل معقول، والمساواة أمام القضاء، وحقّ التقاضي والدفاع، والإعانة العدلية لغير القادرين ماليّا. فقد كان هذا الفصل مقتصرا على مبدأ علنية جلسات المحاكم، في حين جاء باب “الوظيفة القضائيّة” في نسخة 30 جوان خاليا من هذه الحقوق، وطغت على صياغته هواجس الرئيس للسيطرة على القضاء وعلاقته المتوتّرة معه، خصوصا في علاقة بنقلة زوجته. في المقابل، تضمّن المشروع تراجعا عن حقّ التقاضي على درجتين، إذ خفّف سعيّد صياغة الفصل 132، من “يضمن القانون” إلى “تعمل الدولة على ضمان”.
أمّأ تعديل الفصل 120 المتعلّق بتسمية القضاة، فلم يتعرّض لمكمن الإشكال، ألا وهو صلاحية الاختيار التي أعطيت لرئيس الجمهورية، مقابل إلزامه بالرأي المطابق للمجلس الأعلى للقضاء في دستور 2014. اقتصر التعديل على تعويض “بمقتضى ترشيح”، بعبارة “بناء على ترشيح”، من مجلس القضاء المعني. بقيت خيارات باب الوظيفة القضائيّة، التي تمهّد لقضاء خاضع للرئيس، على حالها.
في المقابل، طرأ تدقيق على صياغة الفصل 125 الخاصّ بتكوين المحكمة الدستورية، الذي أثار تساؤلا حول حرف “من” الذي سبق عبارة “أقدم القضاة”، إن كانت “من” البيانيّة أم التبعيضية، أي التي تسمح للرئيس باختيار من يريد من بين أقدم القضاة في الأقضية الثلاثة، العدلي والإداري والمالي. حُسِم السؤال لصالح التأويل الأوّل. لكنّ هذا التدقيق لا يكفي لتبديد الانتقادات بخصوص تركيبة المحكمة الدستوريّة وطريقة تعيينها. فقد حافظ الرئيس على صلاحيته في تسمية القضاة التي تسمح له بالتحكم بطريقة غير مباشرة في تعيين أعضاء المحكمة الدستوريّة. كما أنّ تكوينها حصرا من قضاة يصعب أن يفرز محكمة مستقلة أو جريئة. والأهمّ، أنّ المحكمة الدستورية في دستور سعيّد منزوعة الصلاحيات، تراقب القوانين ولكن ليس لها أي صلاحية لإيقاف خرق الدستور من طرف رئيس الدولة.
خيارات النظام السياسي و”الوظيفة القضائيّة” بقيت بمنأى عن أيّ تعديل
صلاحيات الرئيس ولا مسؤوليته، فوق أي تعديل
لئن حاول الرئيس، عبر تعديلاته، الإجابة على بعض الانتقادات التي طالت مشروعه، فإنّه تجاهل أهمّ الانتقادات وأكبر المخاوف، أي تلك المتصلة بنظامه الرئاسوي. إذ لم يتغيّر شيء في العلاقة بين السلط، ولا في صلاحيات الرئيس النافذة، التي تتجاوز احتكار السلطة التنفيذية إلى التدخّل في العملية التشريعية عبر صلاحية المبادرة والمراسيم، وعبر إمكانية حلّ البرلمان في حالة توجيهه مرّتين لائحة لوم ضدّ الحكومة، وكذلك عبر اللجوء المباشر إلى الاستفتاء التشريعي وحتى الدستوري. كما لم يرجعْ الرئيس الهيئات المستقلة، ولم يضمن طريقة ديمقراطية لتعيين أعضاء هيئة الانتخابات، بما يفتح له المجال لتعيينها كما مع الهيئة الحالية.
لكنّ الأهمّ والأخطر، في نظام سعيّد، هو اللامسؤولية المطلقة للرئيس. فلا جزاء ممكنا على الخرق الجسيم للدستور، على عكس دستور 2014 ومشروع الهيئة الاستشاريّة. هذه الإمكانية شرط لأي نظام ديمقراطي، وتحديدا الأنظمة الرئاسيّة. وهي مسؤولية جزائية، أي أنّها لا ترتبط بسياسة الرئيس، وإنما بأفعال خطيرة ترتقي إلى مرتبة الخرق الجسيم للدستور، لذلك تكون الإدانة بها بقرار من المحكمة الدستورية بأغلبية الثلثين، بعد لائحة اتهامية من البرلمان بأغلبية الثلثين أيضا. حذف هذه الامكانية يعني فتح الباب أمام الرئيس ليفعل ما يريد، بلا رقيب أو حسيب. فهي كافية لوحدها لاعتبار دستور سعيّد يؤسس لدكتاتورية صريحة، بغضّ النظر عن بقيّة أحكامه.
وما يؤكّد هذا التوجّه، هو الفصل 96، الموافق للفصل 80 في دستور 2014، المتعلق بالحالة الاستثنائيّة. فقد عدّله سعيّد بإضافة شرط توجيه بيان إلى الشعب عند إعلان الحالة الاستثنائيّة، لكنّه لم يمسّ بأخطر ما فيه، وهو غياب أي إمكانيّة رقابيّة على الحالة الاستثنائيّة. فإذا كانت المحكمة الدستورية تنظر وفق دستور 2014 في تواصل الحالة الاستثنائيّة من عدمها، وذلك بعد شهر من إعلانها وبطلب من رئيس البرلمان أو 30 نائبا، فإنّ هذه الامكانية حُذفت تماما في دستور سعيّد. أي أنّ تجربة الانفراد بالسلطة عبر الحالة الاستثنائيّة قد أعجبته وقرّر الحفاظ عليها واستعمالها متى شاء، من دون أي امكانيّة لردعه أو إيقافه.
إنّ قواعد النظام السياسي وتوزيع السلط أو “الوظائف” في الدستور لا معنى لها في وجود رئيس فوق المحاسبة. أمّا الحقوق والحريات، فلا تكفي لحمايتها النصوص، مهما كانت جميلة ومهما تعزّزت ضماناتها، وإنما تبقى الضمانة الأولى ضدّ التسلّط والاستبداد هي في الفصل بين السلط وتوازنها، وفي استقلالية القضاء.
لئن كانت التعديلات التي أدخلها سعيّد على مشروع الدستور قد حافظت على جوهره، وهو التأسيس لدكتاتورية رئاسية، فإنّها مسّت المضامين ولم تقتصر أبدا على إصلاح الأخطاء. يعني ذلك أننا أمام مشروع جديد، وإن كان في جوهره قديما، بما يحتّم تأجيل الاستفتاء، تحت طائلة الخروج على الإجراءات والآجال التي ضبطها القانون الانتخابي. فهو مشروع دستور جاء خارج الآجال، أجبرت الأطراف المشاركة في الحملة على اختيار موقفها منه قبل الاطلاع عليه. فإذا كان المسار التأسيسي باطلا منذ البداية، بما أنّه تأسّس على انقلاب على دستور 2014 باستعمال القوة المسلحة وعلى استفراد بجميع السلط، ثم على مسار انفرادي تحكّم في جميع قواعده وتفاصيله الرئيس وحده من دون أن يكلّف نفسه حتى عناء احترامها، فإنّ نشر النسخة الجديدة دليل إضافي على عبثيّة التمشي وافتقاره لأي شرعيّة أو مشروعيّة. وهي نبذة بسيطة عمّا ينتظرنا في ال(لاّ)جمهوريّة القيسيّة الجديدة.
نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة