من جديد، طفت على السطح في تونس مسألة الإساءة إلى المقدسات بعد أن عمد أحد المخرجين المسرحيين مؤخرا إلى عنونة مسرحية له بـ"ألهاكم التكاثر". وقد أثار هذا العنوان -وهو ذات الآية الأولى من سورة التكاثر- جدلا كبيرا امتد تقريبا إلى كل المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة.
ولئن تعددت وجهات النظر إلا أنها تمحورت أساسا حول تصورين: الأول ديني، رفض وبشدة مثل ذلك العنوان واعتبر فيه مسا جسيما بالمقدسات الإسلامية، عبرت عنه بالأساس نقابة الأئمة التي تولت إنذار مخرج المسرحية عن طريق عدل تنفيذ من أجل استبدال العنوان بعنوان آخر قبل اللجوء إلى القضاء وهو ما رضخ له المخرج في نهاية المطاف مكتفيا بعنوان للمسرحية باللغة الفرنسية «Fausse couche».
أما التصور الثاني فقد كان أكثر تحررا، إذ رأى في العنوان ملمحا من ملامح حرية التعبير والإبداع وفي المطالبة باستبداله اعتداء صارخا وغير مشروع على تلك الحرية.
ولكن ما يلفت الانتباه في هذا الجدل هو اعتماد كلّ من الفريقين على الدستور في تبريره لموقفه رغم التباين الواضح بين الطرحين.
فمن جهة أولى، استند المناهضون لعنوان المسرحية على مجموعة من الفصول من بينها الفصل الأوّل الذي يقر بأن تونس دولة دينها الإسلام وعلى ما جاء في التوطئة –التي تشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور حسب الفصل 145 – من تمسك الشعب التونسي بتعاليم الدين الإسلامي كما استندوا خاصة وبالأساس على الفصل السادس الذي يحتم على الدولة حماية المقدسات ومنع النيل منها.
ولكن في المقابل، تمسك الطرف الآخر بفصول أخرى منها تلك المتعلقة بضمان حرية الضمير (فصل 6) وحرية الرأي والفكر والتعبير(فصل 31) وحرية الابداع (فصل 42) ومدنية الدولة (فصل 2).
ويبدو جليا وبالعودة إلى تلك الفصول وجاهة كل من الرأيين المتناقضين ورجاحة أسانيده رغم الاستناد إلى نفس الوثيقة القانونية. وهو ما يؤكد بدوره حجم التناقض في دستور الجمهورية التونسية، والذي يعود بالأساس إلى حجم الاختلاف الذي كان سائدا داخل المجلس الوطني التأسيسي والذي انجرّ عنه دسترة بعض الأحكام المتناقضة في جوهرها سعيا لتجاوز الخلاف والحسم في مسألة كتابة الدستور التي طالت نسبيا وإن كان ذلك على حساب وضوح النص الدستوري.
فدسترة حرية الضمير باعتبارها الحرية التي يرجع بمقتضاها للفرد وحده تقرير "اختياره في مجال الإيمان" وحريته في أن يكون مختلفا عن السائد داخل نفس الدين هي حتما دسترة منقوصة أو محدودة بما أن المشرع الدستوري قد أردفها بواجب محمول على الدولة يتمثل في حماية المقدسات ومنع النيل منها (الفصل 6 من الدستور)، ولا مراء في أن هذا التنصيص الأخير كان بمثابة رد الفعل على العديد من الأحداث التي مرت بها البلاد التونسية طيلة الفترة التأسيسية والتي تشبه إلى حدّ بعيد حادثة مسرحية "ألهاكم التكاثر"، ومن ذلك عرض فيلم للمخرجة نادية الفاني بعنوان Ni Dieu Ni Maitre بإحدى قاعات السينما بالعاصمة تونس أو كذلك بث فيلم آخر على إحدى الفضائيات بعنوان Persepolis احتوى تجسيدا للذات الإلهية، أيضا ما سمي بأحداث "قصر العبدلية" وهو عبارة عن معرض نظمه فنانون تشكيليون تضمن رسوما اعتبر البعض أنها تمس بالمقدسات الإسلامية.
لقد أُفرغت حرية الضمير من محتواها بإقامة حواجز لها تمثلت في "المقدسات"، علما أن مفهوم المقدس هو مفهوم ضبابي قد يختلف من دين إلى دين أو حتى من مذهب إلى مذهب داخل نفس المعتقد. فما يراه المسلم مقدسا لا يراه اليهودي أو المسيحي أو البوذي أو الملحد على ذلك النحو. وما قد يذهب في ذهن السني أنه مقدس قد يكون مدنسا في ذهن الشيعي. وفي غياب أي تعريف قانوني للمقدس فإن النص الدستوري الذي يحمي حرية الضمير سيكون هو نفسه النصّ الذي يضرب بتلك الحرية عرض الحائط.
نفس الأمر بالنسبة لحرية الإبداع التي تقتضي أن يفسح المجال للمبدع للخلق وأن يكون له حيّزه الخاص فيكون سيده وسيد نفسه. فإذا ما وضعنا ضوابط لهذه الحرية "النبيلة"، فإننا حتما نعطّل حركة الإبداع ونقطع مع الجمال الخالص. فالمبدع إذا ما أدرك أن إنتاجه سيجابه بالمنع أو الحظر أو المعاداة، فإنه حسب قول الباحث المغربي عزيز العرباوي "سيمارس على نفسه نوعا من الرقابة الذاتية ويمنع نفسه من ممارسة حريته الكاملة في إبداع يتأثر بمؤشر القمع والمنع فيخرج ناقصا وضعيف البنية". ولعلّ هذه هي حال المخرج التونسي نجيب خلف الله الذي استجاب مُرغماً لدعوات تغيير عنوان مسرحيته. فالمقدس إذن هو حاجز للإبداع، والتعايش بين المفهومين يبدو مستحيلاً. هذا ما ندركه إذا ما عدنا إلى إبداعات العرب القديمة كالشعر الذي غالبا ما تجاوز عتبات المقدس، فبلغنا ما بلغنا من قصائد بشار بن برد وأبي نواس وأبي العلاء المعري وابن الهانئ وغيرهم ممن رفعوا هامة الشعر العربي.
ما من شك أن الدستور التونسي يعد رائدا في مجال الحريات على المستوى العربي لكن المتأمل المتمعن في فصوله، ومن يقف عند مثل هذه الأحداث (المقصود حادثة مسرحية "ألهاكم التكاثر") سيجزم أن عددا كبيرا من تلك الحريات يسلبها الدستور حقها في الوجود تحت تأثير الانتماء الديني والذي عبر عنه الدستور التونسي بكثافة إذا ما قارناه مثلا بدستور غرة جوان 1959.
هذا ما يؤكد أن دستور الجمهورية التونسية لم يكن دستور التوافق كما يروج إلى ذلك. فلئن كان التوافق حاضرا حول بعض الفصول إلا أن الاختلاف يبدو طاغيا على غيرها. وكان الأجدر بالمؤسسين البحث عن صيغ توافقية "قطعية الدلالة" حتى وإن كلفهم ذلك المزيد من الوقت عوض بثّ التناقض في طيات الوثيقة القانونية الأسمى في الدولة، تناقض التطبيق وحده كفيل ببيان مدى خطورته خاصة في غياب محكمة دستورية طال انتظارها كثيرا.