الحكومة تهوّل على اللبنانيين للقضاء على الإهراءات: حجج ساقطة للهدم وتخدير بنصب تذكاري


2022-04-13    |   

الحكومة تهوّل على اللبنانيين للقضاء على الإهراءات: حجج ساقطة للهدم وتخدير بنصب تذكاري
الأهالي في المرفأ وتبدو الاهراءات مدمّرة في الخلفية (تصوير فراس عبدالله)

تدخل إهراءات القمح في حلبة نزاعٍ بين سلطةٍ تنتهج “الهدم” أسلوباً لمعالجة كوارثها، وبين مجتمعٍ يسعى للحفاظ عليها كجزء من مسرح الجريمة التي ارتكبت بحق اللبنانيين في الرابع من آب وشاهداً عليها.   

والإهراءات ليست مجرّد “كتلة باطونية” كما تتعامل معها السلطة، بل هي رمز لمفاهيم عدّة، هي رمز الحياة حين كانت مخازن للقمح، وهي “الحرز” الذي حمى غرب المدينة من الدمار وأنقذ مئات الأرواح حين وقع الانفجار، وهي “مدفن” الأشلاء التي لم يستطع أحد لملمتها، والأهم هي “الشاهد” على فظاعة ما ارتكب، وعليه فبقاؤها ضروري ليبقى الرابع من آب حيّاً في ذاكرة الأجيال المقبلة.  

وكانت الحكومة قد اتّخذت قرار “الهدم” بحجة الحفاظ على السلامة العامة تارةً، وعلى الأمن الغذائي طوراً، متذرعةً بما جاء في تقريرٍ وضعه المهندس الاستشاري إيمانويل دوران الذي يبيّن فيه أنّ الإهراءات تميل تدريجياً وهي مهدّدة بالسقوط بعد حين. إلاّ أن الحكومة قررت الإسراع في اتخاذ قرارها بالهدم، من دون الأخذ بآراء هندسية مختلفة. فغفلت على سبيل المثال عن دراسة المهندس يحيى تمساح، مساعد عميد كلية الهندسة في الجامعة العربية، التي أجراها بُعيد التفجير، واستبعد فيها تمساح هبوط القسم الشمالي من الإهراءات في المدى القريب. وعلى الرغم من مباشرته (أي تمساح) قبل أسابيع بتطوير دراسته وتحديثها، لتحديد “دقة” احتمال انهيار “القسم الشمالي” أو الفترة الزمنية التي سيحتاجها (في حال ثبت احتمال هبوطه)، إلّا أنّ الحكومة لم تكلّف خاطرها عناء انتظار النتيجة. بل سارعت إلى تكليف شركة “خطيب وعلمي” الاستشارية للدراسات الهندسية، لدراسة “طريقة الهدم”، ولم تكلّف نفسها مناقشة البحث في خياراتٍ بديلة كـ “التدعيم” على سبيل المثال لا الحصر، أو الإبقاء على القسم الجنوبي (الثابت) منها، بحسب تقرير دوران.  

وبالتوازي مع أسلوب الترهيب والتحذير الذي تنتهجه الحكومة في محاولتها إقناع الرأي العام وأهالي ضحايا تفجير المرفأ بضرورة هدم الإهراءات، تسعى أيضاً إلى “برطلتهم” وإرضاء خواطرهم بنصب تذكاري “ضخم” يحمل أسماء الضحايا. وهو ما أعلن عنه وزير الثقافة محمد مرتضى الجمعة في 8 نيسان 2022، خلال زيارةٍ لمحترف النحات رودي رحمة، أنّهم “في صدد إنشاء معلم عالمي في بيروت ملاصق للمرفأ، هو عبارة عن حديقة عامة تحتضن نصباً تذكارياً للحدث”، وهذا النصب التذكاري الذي هو من تصميم رحمة، سيجسّد الإهراءات ومأساة الانفجار، أما الحديقة فستجمع أسماء الضحايا وصورهم. والملفت أنّ مرتضى الذي سبق أن أدرج الإهراءات على لائحة الجرد للأبنية التاريخية وحماها مؤقتاً من قرار الحكومة بهدمها، عاد وشدد في الزيارة على أنّ الإهراءات غير قابلة للتدعيم أو الترميم، لذا ينبغي هدمها وبناء مبنى جديد مكانها، معتمداً على آراء فنية غير معروفة المصدر. وكان الوزير قد أشار في تصريح في 25 آذار إلى أنّ لا مانع من رفع المبنى من لائحة الجرد شرط تأمين بديل ثقافي يحفظ الذكرى كإقامة نصب.

وقد ردّ الأهالي على مبادرة مرتضى بالرفض، حيث اعتبرتها الناطقة باسم لجنة أهالي الضحايا، ماريانا فودوليان، شقيقة الضحية غايا فودوليان، محاولة لإسكات الأهالي وإلهائهم، ليصار بعدها إلى تدمير الإهراءات، معتبرةً أنّ لا مجسّم يرمز إلى هول الفاجعة أكثر من مبنى الإهراءات ذاته، داعيةً الوزير إلى إبراز الدراسات الفنية التي يعتمد عليها.  

في هذا التحقيق سنعرض ما جاء في تقرير دوران الذي تعتمد عليه الحكومة للتسويق للهدم، بالإضافة إلى رأي المهندس تمساح، وسنحاول دحض ادّعاءات الحكومة التي تقول بأنّ الإهراءات ستسقط بينما القسم الشمالي فقط مهدّد بالسقوط، وأنه حتى لو أظهرت الدراسات الجارية إمكانية هبوطه فإنّه يمكن الإبقاء عليه كرمز. أبعد من ذلك، وبخلاف ما تدّعي الحكومة، سنحاول أن نتثبت من إمكانية الحفاظ على القسم الجنوبي كما هو حتى لو تمّ تدمير القسم الشمالي. كذلك سنعرض آراء الوزراء وتبريراتهم، ومواقف أهالي الضحايا والمجتمع المدني المتابع لهذه القضية. 

كرونولوجيا الهدم واللاهدم 

الشرارة الأولى لملف هدم الإهراءات كانت بعد إعلان وزير الاقتصاد والتجارة، أمين سلام، في تصريحٍ لصحيفة الجمهورية في 9 شباط 2022، عن بدء استدراج عروضٍ لمناقصة تنفيذ مشروع هدم إهراءات القمح، “كونها باتت خطيرة وآيلة للسقوط مع هبوب رياح قوية”، رافضاً ربط هدم الإهراءات بقضية التحقيق بمرفأ بيروت، على حدّ قوله، وبناء عليه قامت شركة “خطيب وعلمي” بوضع دراسة للهدم. ويقول نقيب المهندسين السابق، جاد تابت في مقابلةٍ مع “المفكرة” إنّ شركة “خطيب وعلمي” وضعت دراسة الهدم لأنّه طلب منها دراسة عن ذلك تحديداً، ولو طُلب منها دراسة للتدعيم لفعلت ذلك، “الشركات الهندسية بيشتغلوا حسب الطلب”.

أثار تصريح وزير الاقتصاد حفيظة أهالي ضحايا تفجير المرفأ الذين سارعوا إلى تنفيذ وقفةٍ احتجاجيةٍ عند تمثال المغترب في 21 شباط، محذّرين من المساس بالإهراءات قبل انتهاء التحقيقات، باعتبارها جزءاً من مسرح الجريمة. وتوالت المواقف الشعبية الرافضة للأمر، قبل أن يتراجع وزير الاقتصاد والتجارة عن موقفه، رامياً الطابة في ملعب القضاء، مصرّحاً في 25 شباط أنّه “لن يصار إلى اتخاذ قرار الهدم من دون حل قضائي”. على إثره أخرج وزير العدل، هنري خوري من جعبته ردّاً للمحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ، طارق بيطار موجّهاً إلى النيابة العامة التمييزية في تاريخ 2-12-2021[1]، (أي قبل شهرين من تصريح وزير الاقتصاد بشأن هدم الإهراءات إلى صحيفة الجمهورية وقبل ثلاثة أسابيع على كفّ يده وتجميد التحقيق)، اعتبر أنّه “لم يعد من داعٍ للمحافظة على ما تبقى من مبنى إهراءات القمح بالنظر للمرحلة التي قطعها التحقيق العدلي”.

وقد اطّلعت “المفكرة” على الرد حيث يتبيّن أنه أخرج من سياقه إذ تبيّن أنّ بيطار كان يردّ على ما ورد إليه من إحدى الوزارات عبر النيابة العامة التمييزية بأنّ الخبير دوران أبلغ السلطات اللبنانية المختصّة بأنّ صوامع الكتلة الشمالية من المبنى مالت 7 سنتم منذ شهر تموز الماضي، وأنّه يتوقع سقوطها نهاية السنة الجارية بسبب العوامل الطبيعية في فصل الشتاء.

وبحسب تقرير للصحافية لارا الهاشم نشر في موقع Mediafactorynews، فإنّ الرد أيضاً جزء من مراسلات بين بيطار ووزارة الأشغال العامّة والنقل التي تشير في كتاب آخر (لم تتمكن المفكرة من الاطلاع عليه) إلى أنّ مدير المرفأ طلب من الدفاع المدني إخلاء مركزه، وأنّ رئيس الميناء أوقف الملاحة وتم تعطيل الرصيف رقم 10 لأنّ العاصفة المرتقبة قد تتسبّب بخطر على الأرواح، كذلك تم إعلام المحقق العدلي بوجوب اتخاذ إجراءات السلامة لـ72 ساعة.

والمفارقة أنّ ردّ المحقق العدلي لم ينشر في حينها، ولم يُخرج إلى التداول سوى بعد اعتصام الأهالي الذين طالبوا بالحفاظ على الإهراءات لحين الانتهاء من التحقيقات، ما أوحى للرأي العام أنّ المحقق العدلي يوافق الحكومة هدم الإهراءات، في حين أنّ جواب بيطار اقتصر على التوضيح بأنّه لم يعد بحاجة للمحافظة على الإهراءات كمسرح للجريمة أي بهدف حماية الأدلّة في إطار التحقيق، وهو لا يفترض ضرورة هدم الإهراءات، بحسب ما صرّح الأهالي لـ”المفكرة”.

وفي 9 آذار أصدرت نقابة المهندسين بياناً دعت فيه إلى تدعيم المبنى الذي يمثل جزءاً من الذاكرة الجماعية للمدينة، مؤكّدة أنّه “من الناحية العلمية والهندسية، كلّ المنشآت المتضرّرة يمكن تدعيمها وترميمها مهما بلغ حجم الأضرار الإنشائية التي تعرّضت لها، لذا فمن الضروري العمل على تدعيم الإهراءات المتضررة”. كذلك نظمت نقابة المهندسين الثلاثاء في 5 نيسان ندوة تحت عنوان “مستقبل الإهراءات بين واقع الهندسي والذاكرة الحية للمدينة”، تناولت الإهراءات من زاويتين، زاوية تقنية تتعلّق بمدى إمكانية ترميمها من الناحية الهندسية، ومن زاوية أهمّية الحفاظ عليها نظراً لرمزيّتها.

وفي 12 آذار، أقرّت الحكومة هدم الإهراءات، بناءً على توصيات اللجنة الوزارية التي كلّفت دراسة الملف، والمؤلفة بالإضافة إلى سلام وخوري، من وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية، ووزير الدفاع الوطني العميد موريس سليم، ورئيس مجلس الإنماء والإعمار نبيل الجسر. 

ولاحقاً في 18 آذار، وفي خطوة تنقض قرار الحكومة، أعلن وزير الثقافة إدراج الإهراءات على لائحة الجرد للأبنية التاريخية وإعلان عدم جواز القيام بأي عمل من شأنه تغيير وضعها الحالي، إلّا بعد موافقة وزير الثقافة المسبقة على الأعمال المراد إجراؤها والوسائل والمواد المنوي استعمالها، ونشر هذا القرار وإبلاغه ممن يلزم”.

وأوضح الوزير في بيان ملفت أسباب ذلك وهي أنّه “من بالغ الأهمية المحافظة على هذه الأهراءات التاريخية واعتبارها من التراث الإنساني لكونها تجسّد صورة مدينة نكبها الانفجار بشراً وحجراً بحيث يقتضي إبراز هذه الصورة وحفظها وتوريثها للأجيال المستقبلية”، وكذلك لأهميتها كمعلم عمراني وكشاهد على “التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها  بيروت على مدى أكثر من نصف قرن” وكرمز من بعد الرابع من آب أجمع عليه اللبنانيون.

طبعاً هذا القرار تلقّاه الأهالي بحذر، وقال ويليام نون شقيق الضحية جو نون، في حديث لـ “المفكرة” بأنّ “السلطة حالياً حائرة بكيفية هدم الإهراءت بعد أن فشل مخطّط تفجيرها، وأنّ قرار وزير الثقافة هو بمثابة إبرة بنج للأهالي”.     

ولم تمض أيام حتى خرج الوزير مرتضى بتصريح لإذاعة لبنان في 25 آذار يناقض مضمون بيانه السابق قال فيه إنّ “واجبه الوظيفي يجبره على وضع مبنى الإهراء على لائحة الجرد، لكن لا مانع برفعه شرط تأمين بديل ثقافي يحفظ الذكرى كإقامة نصب، وفي حال كان المبنى فنياً غير قابل للاستمرار على حاله”، وأنّ “مرجعاً دولياً أبلغه أن مبنى الإهراءات غير قابل للترميم”. حاولت “المفكرة” التواصل مجدداً مع الوزير للوقوف عند هوية “المرجع الدولي”، والدراسات الهندسية أو الإنشائية التي استند إليها، إلّا أن مرتضى لم يرد على الأسئلة التي أرسلتها “المفكرة” إلى مستشاره الإعلامي.

ويبدو أنّ البديل الثقافي الذي يتحدّث عنه مرتضى بدأ يتأمّن عبر النصب الذي يعمل عليه النحّات رودي رحمة كما أشرنا في المقدمة.

الإهراءات كما تبدو من شقة مدمّرة في شارع باستور (تصوير داليا خميسي)

ولكن ما الذرائع التي تتمسّك بها الحكومة لاتخاذ قرارها بالهدم؟ 

تستخدم السلطة اللبنانية بشكل أساسي أسلوب “التهويل” للترويج لفكرة الهدم حيث تحذّر من خطر الحفاظ على الإهراءات بذريعة  تهديدٍ السلامة العامة، والأمن الغذائي للبلاد. 

أولاً: حجة تهديد السلامة العامة

يستند الوزراء المؤيدون لقرار الهدم بالدرجة الأولى إلىتقرير المهندس الفرنسي إيمانويل دوران لتبرير اتخاذهم قرار الهدم، ودوران هو أحد أعضاء لجنة تشكلت مباشرةً بعد التفجير ضمّت ممثلين عن وزارات الدفاع والاقتصاد والتجارة، والجامعتين الأميركية واليسوعية، وممثلين عن السفارتين الألمانية والفرنسية. وفي هذا الإطار تطوّع دوران لأخذ قياسات ثلاثية الأبعاد لمبنى الإهراءات على فترات زمنية متباعدة ، وزرع أجهزة استشعار تبيّن نسبة حركة الإهراءات وميلانها، وآخر تلك القياسات كانت في آذار 2022.

في المقابل أعدّ المهندس يحيى تمساح مساعد عميد كلية الهندسة في الجامعة العربية، دراسة بُعيد التفجير، وهي دراسة هندسية حقلية إنشائية للإهراءات نشرت في دورية علمية من الفئة الأولى هي ENGINEERING STRUCTURES، استبعد فيها هبوط القسم الشمالي من الإهراءات في المدى القريب.

بعد تواصلنا مع تمساح واطلاعنا على تقرير “دوران”، يتبيّن لنا ما يلي: 

  • تدعو الحكومة إلى ضرورة هدم “كامل” مبنى الإهراءات كونه “آيل للسقوط”، والحقيقة بحسب دوران أنّ القسم الشمالي من الإهراءات وحده يميل بمعدل 0.85 ملم في اليوم، أما الجزء الجنوبي فهو “ثابت”. 

من جهةٍ ثانيةٍ لم يدع دوران إلى تدمير الإهراءات ولا حتى القسم الشمالي منها، بل ترك الأمر للسلطة اللبنانية والشعب اللبناني لتقرير مصيرها. 

  •  بحسب الوزراء فإنّ الإهراءات يمكن أن “تسقط في أي لحظةٍ”، أما تمساح فاعتبر أنّه على الرغم من أنّ القسم الشمالي من الإهراءات هو مبنى “غير مستقر”، وهو بحسب قياسات دوران يميل تدريجياً، إلّا أن هذا لا يعني بالضروره سقوطه في غضون أسابيع. ويستشهد تمساح بمثالٍ عن برج “بيزا” المائل في إيطاليا والصامد منذ عقود، وهو برأيه الهندسي منشأ ضعيف جداً نسبة لمنشأ الإهراءات.

  • لم يرفض دوران في تقريره مبدأ تدعيم الإهراءات “كما تفترض السلطة”، إنما اعتبره خطراً على أرواح العاملين، فالتدعيم  يتطلّب وجود عنصر بشري في المكان ما سيشكل خطراً على أرواحهم عدا عن التكلفة المالية العالية. أما تمساح، فاعتبر أنّ جميع المنشآت قابلة للترميم والتدعيم وهذا ما تحكمه الميزانية المرصودة، مشدّداً على ضرورة التمييز بين التدعيم بهدف إعادة استعمال الإهراءات كمخازن للقمح، وهذا مستحيل بحسب تمساح، وبين تدعيمها بهدف تركها كمعلم رمزي، تاركاً حسم الإجابة لحين الانتهاء من تحديث دراسته.
  • أسقطت الحكومة من حساباتها فرضية الإبقاء على القسم الجنوبي الثابت، وكانت حجّة مدير عام الحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد، جريس برباري، أنّه في حال تدمير القسم الشمالي فإنّ الجنوبي سيبهط بشكلٍ تلقائي، كونهما مرتبطان ببعضهما البعض، وأنّ أساساتهما قد تضررت في التفجير، بحسب قوله. لكن إضافةّ إلى قياسات دوران التي تؤكد ثبات القسم الجنوبي، وتمساح الذي يعتبر أنّه يجب إخراج “الجنوبي” من دائرة النقاش كونه “منشأ سليم قائم ويحمل وزنه الذاتي”، أكّد المهندس المشارك في بناء إهراءات القمح، غابريال آستون، لـ “المفكرة” أنّ القسمين الشمالي والجنوبي منفصلين عن بعضهما البعض، وهبوط الأول لا يعني هبوط الثاني، وأنّ الأساسات متينة جداً.
  • تحذر السلطة من مغبّة انهيار الإهراءات من تلقاء تفسها وإلحاق الضرر بالأحياء المجاورة، إلّا أن دوران أوضح في تقريره أنّ خطر انهيار الإهراءت سينعكس على المتواجدين في المكان، وليس على المدينة، حيث أنّها ستهبط على ذاتها، لذلك أوصى دوران بضرورة فرض منطقة محظورة لمسافة معيّنة يمنع فيها دخول أحد.
  • ختم دوران تقريره باقتراح الإبقاء على القسم الجنوبي، مقترحاً تدمير القسم الشمالي لكن بطريقةٍ هادئةٍ تراعي الإبقاء على الردميات كجزء من العمل الفني للشاهد الرمزي، وعبر استحضار ماكينات خاصّة تقوم بتكسير الشوائب المتدلية، مؤكّداً على الأهمية الرمزية للمكان الذي ليس مجرّد كتلة باطونية، بل هو بحسب دوران “رمز لتجربة قاسية عانى منها اللبنانيون، وأن على الجميع المشاركة في مناقشة مسألة هدمها من إبقائها”. 
  • من جهةٍ ثانيةٍ، رفض دوران وتمساح وكذلك الجيش اللبناني اعتماد “التفجير” طريقةً للهدم، كونه بحسب مصدر عسكري سيعيد إلى الذاكرة ما عايشه السكّان في الرابع من آب، وسيلحق مزيداً من الضرر المادي بالمباني”، ليبقى السؤال ما هي الطريقة التي سيتم اعتمادها لهدم الإهراءات في حال أصرّت الحكومة على موقفها؟

ثانياً: حجّة الأمن الغذائي

تصرّ السلطة على هدم الإهراءات متذرّعةً بضرورة توفير منشآت للمخزون الاستراتيجي، ويعتبر مدير عام الحبوب والشمندر السكري برباري في تصريحه لـ”المفكرة” أنّ الدولة اللبنانية “لا تملك ترف المساحات”، وأنّ الأمن الغذائي مهدّد في ظلّ الغلاء المتزايد لسعر القمح وعدم وجود منشآت لتخزينه. إلّا أنّ هذه الحجة تعتريها عدد من علامات الاستفهام، إذ تشدد الآراء الهندسية (دوران وتمساح ونقباء المهندسين) على استحالة بناء إهراءات جديدة مكان الحالية، ويفسر غابرييل آستون هندسياً أنّ الإهراءات قائمة على حوالي 2600 وتد باطوني مثبتة داخل الأرض، وتغطيها طبقة إضافية من الباطون المسلّح تفوق سماكتها متر ونصف المتر، لذا فإنّ إزالتها شبه مستحيل ومكلف جداً. من هنا لا بد من طرح السؤال، لماذا الهدم طالما البناء مستحيل؟ إلاّ أن برباري أجاب على سؤال “المفكرة” مفسراً أنه “سيتم بناء الإهراءات في مساحة أخرى وتحويل المكان إلى مرآب لتفريغ وتنزيل البضائع”. 

من جهةٍ ثانيةٍ يعتبر نقيب المهندسين السابق، جاد تابت، أنّه قبل اتخاذ قرار الهدم لا بد من التوافق على نوع الإهراءات ووظيفتها؟ “هل نريد إهراءات مركزية أم لا مركزية؟”، وعلى تحديد “هوية” المرفأ والدور الإقليمي الذي سيلعبه في المرحلة المقبلة ودراسة دوره الجيوسياسي، وعلاقاته بالمرافئ الثانية، في ظل انطلاق ورشة ترميم مرفأ حيفا بعد الاتفاقات الإسرائيلية مع الخليج، وتوجّه روسيا نحو مرفأ اللاذقية، “بدنا نشوف أي مرفأ بدنا”، هل نريد مرفأ ترانزيت بين الغرب والداخل العربي؟ أو مرفأ كونتياينر، وإلّا ليه لنهبّط ونعمل أرض فاضية؟”.

وفي اتصالٍ لـ”المفكرة” مع وزير الزراعة، عباس الحاج حسن، اعتبر أنّه في البداية يجب أن يكون هناك خطة لتشجيع الإنتاج المحلّي للقمح والتخفيف من كمية الاستيراد، مفسّراً بأنّ تجربة الإهراءات المركزية أثبتت فشلها مع تفجير المرفأ، وأنّ الإهراءات يجب أن تكون غير مركزية وموزّعة على الأقلّ على المناطق الكبرى والمحافظات. وأضاف أنّه في الوقت الحالي يتوافر أكثر من مكان لتخزين القمح، منها مصلحة الابحاث العلمية الزراعية التابعة لوزارة الزراعة التي تستوعب 200 ألف طن وتتوافر فيها شروط التخزين، علماً أنّ القدرة الاستيعابية للإهراءات على المرفأ هي 120 ألف طن. من جهةٍ ثانيةٍ قال وزير الأشغال، علي حمية،  في الأوّل من آذار إنّ لبنان يطمح إلى بناء ثلاث صوامع لتخزين القمح في البلاد من أجل الحفاظ على الأمن الغذائي، منها داخل مرفأي بيروت وطرابلس كذلك في منطقة البقاع.

والملفت هو إصرار الحكومة على الإسراع في اتخاذ قرار الهدم على الرغم من أنّ المخطط التوجيهي لإعادة إعمار المرفأ، الذي توكّلت به شركة هولندية، لم ينته بعد. وفي حين يعتبر برباري أنّ الحكومة لا تتدخل في المخطط، يبقى معرفة هل سيراعي المخطط التوجيهي وجود مبنى الإهراءات الحالي؟ أم هل تريد الحكومة استباق هذا المخطط لوضع الجميع أمام الأمر الواقع؟ كذلك ما هي المساحة التي تمّ تخصيصها لبناء إهراءاتٍ جديدةٍ وما هي سعتها؟ أسئلة ربما تساعد الإجابة عنها في ايجاد تبريراتٍ للخيارات كافة.

الوزراء لا يقرأون وإن قرأوا اجتزأوا وحوّروا 

بدا ملفتاً من خلال سلسة الاتصالات والمقابلات التي أجرتها “المفكرة” مع المسؤولين المعنيين بملف هدم الإهراءات، أنّهم عرفوا بتفاصيل الملف بالتواتر و”القيل والقال”، وليس من خلال البحث العلمي والتعمّق في دراسة المعطيات كافة، وسارعوا إلى اتخاذ قرارهم بالتخلّص منها كأسرع الحلول. 

ففي اتصالٍ لـ”المفكرة” بوزير العدل، هنري خوري، بدا قلقاً من تحميل الحكومة المسؤولية في حال انهارت الإهراءات؟ متسائلاً عن الحلول الأخرى التي تقترحها “الصحافة” عدا عن خيار الهدم، “شو الحل برأيكم؟ مين بيتحمّل المسؤولية إذا انهدوا الإهراءات؟ وبكرا إذا وقعوا لحالهم نحن منتحمل المسؤولية؟”، وبدا واضحاً عدم اطلاعه على كامل وجهات النظر الذي طرحها دوران وغيره من المهندسين.

وفي مقابلةٍ أجرتها “المفكرة” مع وزير الثقافة، محمد المرتضى في 21 آذار عبّر خلالها بوضوحٍ عن عدم تمسّكه بالإهراءات، وأنّ المسؤولين في مديرية الآثار أبلغوه أنّ من واجبه إدراجها على لائحة الجرد، فنفّذ ما هو مطلوب منه كوزير، مضيفاً أنّه لم يطّلع على الدراسات بل قالت له اللجنة المكلّفة إنّ “الإهراءات ستقسط وتشكّل خطراً على المدينة”.

أمّا وزير الأشغال العامة والنقل، علي حمية، فاعتبر خلال مقابلةٍ مع قناة الجديد في 23 آذار، أنّ المستند القانوني الذي يسمح لوزارة الأشغال والدولة باتخاذ قرار الهدم، أصبح واضحاً بعد  قرار القاضي بيطار الذي يقول فيه إنّه لا داعي  للإبقاء على الإهراءات، من جهةٍ ثانيةٍ احتمى حمية بدوران لتبرير الموضوع الفني قائلاً: “دوران قال إنّ الإهرءات مش معروف أيمتى بتنهد”، مضيفاً أنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية كافة قامت بإرسال تحذيراتها لوزراة الأشغال وما مضمونه “أخذ الحيطة والحذر” من مغبة سقوط الإهراءات. 

من إحدى وقفات الأهالي ضدّ إعادة إعمار المرفأ قبل جلاء الحقيقة (تصوير نبيلة غصين)

المجتمع الأهلي يرفض الهدم 

خيار السلطة بهدم الإهراءات تعارضه لجان السكّان المتضررين والجرحى وأهالي الضحايا الذين ما انفكّوا في جميع وقفاتهم الشهرية والاحتجاجية التي تجاوزت الأربعة منذ الإعلان عن توّجه الحكومة إلى الهدم يرفضون المساس بمبنى الإهراءات. وفي لقاء مع “المفكرة” حذر ويليام نون، من المساس بالإهراءات، مخاطباً أصحاب الآليات التي ستتجرأ على الدخول إلى المرفأ من أنّ عليهم مواجهة أجساد الأهالي وانفعالاتهم أولاً، “أي آلية بدها تفوت على الإهراءات بدّا تمرق على أجسادنا وبدنا نكسرها”، مضيفاً أنّ “السلطة حالياً حائرة بكيفية هدم الإهراءت بعد أن فشل مخطّط تفجيرها، وأنّ قرار وزير الثقافة هو بمثابة إبرة بنج للأهالي”.

أما ماريانا فودوليان، رئيسة لجنة أهالي ضحايا تفجير المرفأ، وسيلفانا اللقيس، رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً، والذي يدعم حقوق الأشخاص الذين استجدت لديهم إعاقات جراء تفجير المرفأ، فاعتبرتا في اتصالين مع “المفكرة” أنّ الإهراءات يجب أن تبقى شاهداً وتتحوّل لمتحف تعلّق فيه أسماء وصور الشهداء، بعيداً عن الصفقات. 

بدورها الدكتورة مارلين نصر، من السكان المتضررين من تفجير المرفأ قالت في اتصالٍ لـ”المفكرة” إنّه: “بالنسبة لكلّ البشر مطرح ما الناس مدفونة ممنوع ينمسّ، نحن بدنا نضوّيها بدنا نزرعها ورود بدنا نخليها مثل الجنة”، مشددةً على أنّ الإهراءات باتت توثق لحظة ظرفية وتاريخية، تجسّد ما يحدث في البلاد عندما يتلكأ نظام المؤسسات والإدارات والمسؤولين عن القيام بواجباتهم، “لما يصير في تقصير بيحدث انهيار أمني وقانوني وتشريعي”. 

المجتمع المدني يواجه صفقات السلطة 

رمزية الإهراءات لا تقتصر على المتضررين وأهالي الضحايا، بل على الناجين والناشطين المعنيين، ويعتبر نقيب المهندسين السابق، جاد تابت، أنه يجب المحافظة على الإهراءات لأن المجتمع الذي يقوم بمسح تاريخه ستكرر فاجعته لا محالة، “نحن دايماً منمحي ذاكرتنا، هيك صار بعد أحداث 1860، بعد المجازر وجدنا المتصرفية، وبعد الحرب الأهلية عملنا سوليدير”. ودعا إلى ضرورة الإطلاّع حول ما قامت به اليابان في المكان الذي وقعت فيه القنبلة النووية في هيروشيما، حيث أعيد ترميم أحد المباني التي بقيت صامدة كرمز لتخليد الفاجعة، واليوم سجل هذ المبنى رقم 86 للتراث العالمي في اليونيسكو كرمز حضاري لفاجعة إنسانية. 

بدورها عبير سقسوق، الباحثة والمديرة المشاركة في استديو أشغال عامة، اعتبرت أنّ اعتراض المجتمع على عملية الهدم هو ليس فقط بهدف الحفاظ على الذاكرة، رغم أهمية الأمر، إنما نتيجة وعي وخوف مما سيحل بالمكان بعده، والذي غالباً ما يكون مشروعاً استثمارياً يعزز مصالح النافذين ويؤدي إلى مزيد من انتهاك حقوق الناس، بحسب قولها، معتبرةً أنّ السلطة بقرار الهدم تريد محو كل ما يتناقض والصورة التي تريد عرضها، “ما تفعله السلطة مثلاً من طرد لبائعي السمك من الأرصفة، وملاحقة ناكشي النفايات وإزالة التعديات بهدف تطهير المدينة وتنظيفها، إنّما يعكس همّها بمحو البعد الاجتماعي والسياسي للمدينة”.

وتضيف أنّه منذ ما قبل التسعينيات والهدم هو منهجية الدولة، “تخطيط بيروت، منذ السبعينيات لليوم، تركز على شبكة أتوسترادات هدمت أحياء وأخلت سكاناً وقسمت المدينة طبقياً”. وتفسّر سقسوق من جهةٍ ثانيةٍ أنّه لطالما كانت قوانين البناء تشجع الاستثمار ومنطق الاستثناء بالتنظيم المدني، ما ينتج عنه  تدمير هائل للمباني والنسيج العمراني، من منطق “أنه يللي رح نعمره أعلى وأكبر ومربح أكثر من يلي موجود”. وترى أن القرار يتعلق بكل شخص تضرر من التفجير وبكل شخص معني بالتحقيق، “لم يعر أحد أهتماماً لرأي أهالي الضحايا الذين يطالبون بعدم المس بالمرفا، ولا لرأي السكان الذين سيتاثرون بقرار الهدم وكيفية إعادة البناء، وما له من تداعيات على مستقبلهم من ناحية السكن والمضاربة العقارية”.

المهندس عصام بكداش، مدير عام سابق لمرفأ الإهراءات، اعتبر أنه لا يمكن التعاطي مع الهيكل من زاوية هندسية أو من حاجة إلى تأمين مخزون استراتيجي من الحبوب الذي يمكن حالياً تأمينه خارج الحرم، فهناك فئات ترى ضرورة أن يبقى في موقع الجريمة ما يشير إلى احتلاام الذكريات أخذ العبر، من هنا لا يرى بكداش ضرورة كما يقول البعض أن يبقى كل الهيكل في مكانه ليرمز إلى المعاني كافة، بل يكفي الحفاظ على جزء منه لؤدي الدور المطلوب، مشترطاً عدم إعاقته الحركة المرفئية من حوليه “خاصة أن مساحة الحرم المرفئي ضيقة ومحدودة وكذلك أرصفته البحرية”، على حد قوله. 


 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، تحقيقات ، سلطات إدارية ، حركات اجتماعية ، عدالة انتقالية ، حراكات اجتماعية ، عدالة انتقالية ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني