التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (1): تغيَّر الراوي، تغيًّرت الرواية

،
2022-12-14    |   

التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (1): تغيَّر الراوي، تغيًّرت الرواية
رسم رائد شرف

بعد سنوات من صدور قانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017، كان الرأي العامّ على موعد مع رواية قضائيّة مختلفة كليّا عن التعذيب لدى الأجهزة الأمنية، رواية تجدها في بيانات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام لكن قلّما تجد من يرويها داخل القضاء. هذه الرواية تمثّلت في القرار الاتّهامي الصادر بتاريخ 29/11/2022 عن قاضية التحقيق لدى المحكمة العسكرية نجاة أبو شقرا في قضية وفاة المواطن السوري بشّار عبد السعود في أثناء التحقيق معه من قبل جهاز أمن الدولة في منطقة بنت جبيل (تبنين)؛ وقد انبنى على التحقيقات التي قام بها مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة فادي عقيقي والتي أثبتت تعرّض معظم الموقوفين في نظارة المخفر للتعذيب. فعلى نقيض الروايات القضائية السابقة التي نفتْ واقعة التعذيب أو جهدتْ في نفي طابعه الممنهج في اتجاه تفسيره على أنه مجرّد خطأ فرديّ نتج في الغالب عن حالة انفعال أو غضب من جراء استفزاز الضحية، توسّع القرار الاتّهامي في عرض وقائع التعذيب والذي بدا بمثابة طقس يلازم التحقيقات الحاصلة في المخفر المذكور. 

ورغم أهميّة هذه الرواية وطابعها الانقلابي على التمشّي السائد، يبقى أن القرار الاتهامي يقبل الانتقاد على خلفية تأكيده على صلاحية القضاء العسكري في النظر في قضايا التعذيب المرتكبة من الأجهزة الأمنية في إطار التحقيق في الجرائم الداخلية ضمن هذه الصلاحية. وعليه، بدا أن القفزة إلى الأمام التي حققها القرار الاتهامي في مجال تثبيت التعذيب وملاحقته تلازمت مع قفزة رجعيّة قوامها تعزيز مرجعيّة القضاء الاستثنائي الذي طالما شكّل الباب الأساسي لتهميش ضحايا التعذيب الذين ليس لهم أصلا أن يتمثلوا أمامه وإحاطة القوى العسكرية والأمنية بامتيازات قضائية تمهيدا لإفلاتِهم من العقاب. وما يزيد من قابلية هذا التلازم للانتقاد هو أن قاضية التحقيق خلصتْ إليه انطلاقا من تفسير ملتبس للنصوص القانونية وفي تعارض واضح مع القراءة الحقوقيّة لها والتي تمثلت في البيان الصادر عن عدد من الجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية في هذا الشأن في أيلول 2022. 

وبالنظر إلى ازدواجية هذا القرار، سنعمد في حلقة أولى إلى توضيح أهمية الرواية التي تضمّنها لنناقش في حلقة ثانية الحجج التي وردت فيه لإعلان صلاحية المحكمة العسكرية ومدى ملاءمتها.

وقبل المضيّ في ذلك، يجدر لفت النظر إلى صدور القرار الاتهامي بعد أيام قليلة من نشر المذكرة الصادرة عن المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان والتي منح فيها عناصره إمكانية الاستيلاء على صلاحيات النيابة العامة وضمنا توقيف المشتبه بهم لأيام معدودة من دون إشارة منها. فكأنما القرار يؤول بما أثبته من أعمال تعذيب خطيرة إلى إبراز دور الهيئات القضائية في مراقبة أداء الأجهزة الأمنية وتاليا إلى إعادة ترتيب العلاقة بينها وبين القضاء، بعدما شهدت هذه العلاقة اختلالا كبيرا أدى للانتقاص من الوظيفة القضائية. 

الرواية الجديدة: التعذيب ليس عملا فرديا 

“يفيد تقرير الطبيب الشرعي الصادر في تاريخ 2/9/2022 الذي اطلعت عليه “المفكرة” عن وجود ازرقاق واحمرار في الرأس من جهة الأذن اليسرى. جرح نازف في الشقة السفلى من الجهة اليمنى. بقايا دم في فتحتي الأنف. علامات حروق عدة في أنحاء الجسد. علامات كثيرة تدل على استعمال سوط أو سلك كهربائي في الأطراف العليا، الظهر والبطن والأطراف السفلى من جميع نواحيها حتى القدمين وتورم في الخصيتين”. هذا ما ورد في مقال نشرته المفكرة القانونية بتاريخ 8/9/2022 تبعا لوفاة بشار عبد السعود وادّعاء مفوض الحكومة فادي عقيقي بحقّ ضابط وعناصر من جهاز أمن الدولة. ومجرّد قراءة هذه العلامات على جسده إنما يثير الغثيان حول مدى قساوة التعذيب والأدوات المستخدمة في سياق التحقيق مع بشار لدى أمن الدولة. وهذا أيضا ما أكدته سرعة وفاته التي حصلت في غضون ساعتين من وصوله إلى قسم التحقيق في تبنين، حيث تم ّاستلامه عند الساعة 4:40 فجراً، ليُسلّم إلى مستشفى تبنين جثّة هامدة عند الساعة 7:05 صباحاً.

لم يكتفِ القرار الاتهامي في تأكيد رواية الطبيب الشرعي، إنّما ذهب أبعد من ذلك في اتّجاه وصف منهجية التعذيب الحاصلة في هذا المركز، وإبراز مدى التلازم بين التحقيق والتعذيب الذي بدا بمثابة إجراء ملازم له أو طقس من طقوسه كما نبيّن أدناه. وبإمكاننا الإحاطة بمنهجيّة التعذيب هذه من خلال كمّ من الأدلة الموثقة فيه، أبرزها (1) أدلة على ضلوع المسؤول عن المخفر في أعمال التعذيب، و(2) أدلة على اشتراك عناصر المخفر في أفعال التعذيب بدرجة أو بأخرى، (3) أدلة على تحوّل التعذيب إلى أحد إجراءات الاستجواب، (4) أدلة على استخدام وسائل بصورة متكررة على ضحايا عدة أو لا يحتمل وجودها مصادفة في المخفر، و(5) أدلة على اتخاذ تدابير التغطية على التعذيب، و(6) الاستهتار بأوضاع الموقوفين الذين تعرضوا للتعذيب. وهذا ما سنعمل على تفصيله على طول المقال. 

  • أدلة على  اشتراك المسؤول عن المخفر في أعمال التعذيب:

بيّن القرار الإتهامي دور النقيب من زوايا عدة. فعدا عن ثبوت حضوره لجلسة تعذيب “بشار” وبشكل أعمّ مجمل التحقيقات الحاصلة في المخفر، ثمّة أدلة على أن أفعال التعذيب المرتكبة في المخفر كانت تحصل كلها بعلمه وبالتّنسيق معه وغالبا بتوجيهات منه بل أنّه كان لا يجد حرجا في ممارسة التعذيب بنفسه. هذا فضلا عن أنه كان له دور مركزي في التغطية على التعذيب بعد وفاة بشّار.   

وبالفعل، فقد أكّدت إفادات العناصر وشهادات الموقوفين الذين ثبت تعرّضهم للتعذيب على حضوره في الجلسات التي جرى فيها، من دون أن يتخذ أي إجراء لوقف هذه الأفعال التي كانت تستمر أحيانا لفترات طويلة، كما حصل مع بشار الذي تعرض وفق إفادات العناصر لضرب وركل وجلد متواصلين لأكثر من عشر دقائق. وعند سؤاله عن سبب عدم اتّخاذه أيّ تدبير لوقف التعذيب الحاصل على الضحية “بشّار”، أقرّ بذلك ضمنا مبررا أنّه “لا يمكن أن يصرخ بوجهه (أي العنصر الذي كان يتولى التعذيب) أمام الموقوف حتى لا يفقد التحقيق هيبته” وأنه اكتفى لهذا السبب بأن أومأ له بعينيه ليوقف فعلته. كما أقرّ أنه يكون حاضرا خلال التحقيقات في جميع الأوقات، و”أنه عادة ما يستخدم العناصر المعاملة بالشدة مع الموقوفين” وخاصة في الملفات الخطيرة وأن ذلك يحصل بعلمه. وقد بدا تدخّله بعد وفاة بشار ذات دلالة: فبعدما لزم الصمت أثناء التعذيب مكتفيا بإيماءة من عينيه وفق قوله، أمر “برمي المياه على بشار ظنّا منه أنه يدّعي الإغماء”. 

من جهة ثانية، تضمن القرار معطيّات يستشف منها أنّ أفعال التعذيب المرتكبة داخل المخفر كانت تحصل ليس فقط بعلمه، بل أيضا بالتنسيق معه وبتوجيهات منه. فقد أفاد عدد من الموقوفين بأن النقيب هددهم بالتعذيب إذا استعملوا كلمة “إيه” بدلاً من كلمة “نعم”، وقد أكد أحدهم أنه عندما قال “إيه” عن غير قصد، أمر النقيب بجلده مائة جلدة. كما أدلى أحد الموقوفين أن النقيب وبعد إيقافه في النظارة “أمر الموقوفين معه في القضية عينها بضربه، فقام كلّ واحد منهم بضربه كفاً واحداً”. وبحسب إفادة أحد الموقوفين أنّ النقيب هو من تولى التحقيق معه وأنه كان يوجّه إليه الأسئلة وأنه في حال أعطى جواباً لم يكن يعجبه، كان هذا الأخير يطلب بإشارة منه إلى أحد العناصر أخذه إلى غرفة ثانية وضربه وتلقينه الإفادة حتى يعود ويدلي بها أمامه. كما نقل موقوف آخر أنّ النقيب كان يقدّم له السجائر بعد إدلائه بإفادة مطابقة لما يرغب به المحقق تبعا لتعذيبه على سبيل المكافأة: “شفت كيف صرنا نعاملك منيح بس اعترفت”. 

فضلا عن ذلك، تضمن القرار الاتهامي أدلة على ممارسة النقيب شخصيّا أفعال التعذيب. وهذا ما نستشفّه من الإفادات الصادرة عن عدد من الموقوفين بأنّه كان يمارس التعذيب المعنويّ واللفظيّ لانتزاع الاعترافات، بحيث كان يباشر التحقيق بالتهديد والتلويح بالتعذيب. 

ويتفاقم رصيد النقيب بفعل التدابير التي اتّخذها تبعا لوفاة بشار لتغطية حصولها تحت وطأة التعذيب، وذلك من خلال سعيه لفرض سردية قوامها أنّ بشار توفي نتيجة وعكة صحية نتجتْ عن تعاطيه مواد مخدّرة ثقيلة (كبتاغون). وإذ أدلى خلال التحقيقات أن بشار أقرّ أنه يتعاطى هذه المادة، أصرّ على ذلك رغم أن نتيجة فحص البول أتت سلبية على 12 نوع من المخدرات مدليا أن “هذا المختبر لا يملك خاصيّة التعرف على الكابتاغون”. وإذ أعلمته قاضية التحقيق أن المختبر أجرى فحصا على مادة الأنفيتامين المكونة للكبتاغون، بقي على إصراره متذرّعا “أنه لا يعرف مكوّنات الكبتاغون”. هذا فضلا عن أنه لم يجد حرجا أثناء التحقيق معه على تبرير العنف المرتكب على الضحية بشار من خلال تأكيده أنه هو الذي بادر إلى استخدام أعمال الشدة بوجه أحد الرتباء مما شكّل “إهانة” لهذا الأخير واستوجب منه “ردّ فعل يفترض أن يكون مناسباً دون أي تعسّف”

وعلى أساس هذه الأدلة، خلصت قاضية التحقيق العسكرية إلى أن النقيب أمر عناصره بتعذيب السجناء بحضوره وموافقته، وصولا إلى اتهامه بارتكاب جناية التعذيب. 

  • أدلّة على اشتراك عناصر المخفر في أعمال التعذيب بدرجة أو بأخرى:

يتضمّن القرار الاتهامي أدلّة على اشتراك عناصر المخفر كافّة في التعذيب بدرجة أو بأخرى، الأمر الذي يؤكّد تطبيعهم مع هذه الممارسة وتعاملهم معها على أنها إحدى وسائل مهنتهم التي يجيدون استخدامها متى لزم ذلك. وفي حين كشف القرار الاتهامي دورا متميّزا لأحد العناصر المعروف بعصبيته والذي تولى ضرب وركل وجلد بشار لدقائق معدودة قبل وفاته، تراوحتْ أدوار الآخرين بين مساعدته على تثبيت بشار أرضا أو تكبيله من الخلف أو الاكتفاء بالمشاهدة من دون أيّ تدخل أو اعتراض أو حتى الخروج من غرف التعذيب. وقد بدا الاختلاف بينهم بشأن درجة القسوة شكلا من أشكال توزيع الأعمال ما بينهم وفق استعدادهم للتعذيب. وهذا ما أشارت إليه قاضية التحقيق العسكرية في معرض قراءتها لقانون معاقبة جرائم التعذيب، حيث ورد في قرارها أنه “لا يشترط لتحقق جرم التعذيب أن يكون للمدعى عليهم سلطة لوقف التعذيب، إذ كان بإمكانهم بكل بساطة الاعتراض على ما يحصل وأقله الخروج من غرفة التحقيق”،  وقد انتهت تبعا لذلك إلى اتهام ثلاثة عناصر بجناية التعذيب، بالإضافة إلى النقيب. 

ومن الإفادات ذات الدلالة على اعتياد العناصر على ممارسة التعذيب بصورة جماعية، إفادة أحد الموقوفين بأنه لم يعرف من كان المحقّق معه لأنه كان معصوب العينين ولكن كان يسمع عدّة أصوات فشعر أن هناك 5 أو 6 أشخاص حوله يتقاذفونه من حائط إلى آخر، وهو كان يصرخ بأنه على مشارف الموت فأتى جواب العناصر بأنهم يريدون موته فعلاً. 

كما يلحظ ختاما أن الموقوفين ضحايا التعذيب آثروا عند سؤالهم من قاضية التحقيق عدم التعرف على وجوه العناصر الذين مارسوا التعذيب عليهم، “خوفاً من التعرّض لهم أو لعائلاتهم”، أو أنهم لا يريدون “مشاكل أكثر مع أمن الدولة”، وبخاصة أن هؤلاء كانوا عند الإدلاء بشهاداتهم ما يزالون موقوفين في نظارة المخفر نفسه، ولم يتم نقلهم إلا لاحقا بتاريخ 4/11/2022 (أي بعد شهرين من وفاة بشار وبدء التحقيقات في ظروف مقتله) بناء على الطلب المقدم من القاضية أبو شقرا بتاريخ 26/10/2022 إلى جانب النيابة العامة العسكرية بضرورة نقلهم إلى أيّ سجن آخر وذلك على ضوء ما ورد في إفادات الموقوفين. ولم يعرف السجن الذي نقل إليه هؤلاء؛ إنما من المقلق جدا أن النيابة العامة العسكرية أعطت إشارتها بنقل هؤلاء للمديرية العامة لأمن الدولة، مما يرجح أن هؤلاء ما يزالون في إحدى نظارات هذا الجهاز مع ما يستتبع ذلك من مخاطر على سلامتهم وسلامة التحقيق معهم.    

  • أدلة على تحوّل التعذيب إلى أحد إجراءات التحقيق:

أمر آخر كشفت عنه رواية القرار الاتهامي وهو تحوّل التعذيب إلى إجراء قد يكون مُلازما لأيّ تحقيق. وليس أدلّ على ذلك من عدد الموقوفين الذين ثبت تعرّضهم للتعذيب في نفس المخفر. وهذا ما تمكّن  مفوض حكومة فادي عقيقي من التثبت منه بنفسه عند انتقاله إلى المخفر فضلا عن إثباته بتقارير من أطباء شرعيين. وعليه، من أصل 10 موقوفين فيه، ثبت أن 7 منهم تعرّضوا للجلد.

ويتأكد هذا الأمر في إفادات العناصر الذين أكّد معظمهم أن الضرب أو المعاملة بالقسوة كانت تحصل في مجمل التحقيقات كإجراء روتيني وأن درجة قسوته تفاوتت بحسب خطورة الجرم المُحقّق فيه، من دون إيلاء أي اهتمام لقرينة البراءة. كما يتأكّد ذلك من خلال شهادات الموقوفين الذين أجمعوا على تعرضهم للتعذيب خلال التحقيق معهم من دون استثناء. ولعل أبرز الإفادات في هذا الخصوص، الشهادة التي أدلى بها أحد الموقوفين لجهة أنه “عند وصوله إلى مركز تبنين تمّ إدخاله إلى غرفة النقيب الذي عرض عليه الموقوفين المجلودين، كما عرض عليه الذين لم يتعرضوا للضرب، وخيّره بين الضرب أو الاعتراف من تلقاء نفسه”. ومن شهادات الموقوفين الأخرى ذات الدلالة، أن بعضهم كان ينقل إلى غرفة ثانية لتلقينه ما يجب أن يقول بالإكراه (التعذيب) وأن بعضهم كان يكافئه النقيب بإعطائه سجائر في حال اعترف بعد تعذيبه، قائلاً “شفت كيف صرنا نعاملك منيح بس اعترفت” كما سبق بيانه.

كما يجدر لفت النظر إلى الممارسة المنتظمة والمتمثلة في عدم فتح محضر رسمي عند مباشرة التحقيق. فقد ضبط مفوض الحكومة خلال وجوده في مركز تبنين “محضرا خاليا من الترويسة”، لم يتمّ منحه رقما ولا تاريخا ولا ساعة لفتحه، موضوعه العمل على توقيف بشار السعود، وتضمن المحضر فقط ملاحظة مفادها تعرّض بشار لوعكة صحيّة نتيجة تعاطيه المخدرات بحسب إفادته وتفاصيل مخابرة مفوّض الحكومة وحضور الطبيب الشرعي. وبتبيّن من ذلك أن المحضر لم يُفتح إلا بعد وفاة بشار بمعنى أن إجراءات الاستماع إليه حصلت كلها تحت الركل والضرب بغياب أي محضر رسمي. ويستشفّ من ذلك أن التعذيب شكّل في حالته كما في حالة كثيرين إجراء تمهيديا قبل مباشرة الاستجواب بصورة رسمية، إجراء يُراد منه ضمان الحصول على الإفادة التي قد تتناسب مع الرواية التي يرغب المحقق في فرضها.  

  • أدلة على استخدام وسائل تعذيب بصورة متكررة ومنها وسائل معدة أصلا للتعذيب: 

لم يثبت في القرار الاتهامي حصول ضبط لوسائل التعذيب المستخدمة داخل المخفر، علما أن مفوّض الحكومة انتقل إليه بعد يومين من حادثة الوفاة، أي بعد انقضاء وقت كافٍ لإخفاء وسائل مشابهة في حال وجودها. وفي حين أن العناصر اكتفُوا بالإشارة إلى استعمال شريط شاحن الخلوي في تعذيب الموقوفين، أشارت التقارير الطبية وإفادات الموقوفين إلى استخدام وسائل لا يمكن فهم وجودها في المخفر إلا لغاية التعذيب (أسلاك، سوط…). هذا مع العلم أن بعض الموقوفين تحدثوا عن وجود غرفة ثانية كانوا يُساقون إليها حين يدلون بإفادة لا تعجب ضابط التحقيق، حيث يتعرضون للتعذيب. وتذكر هذه الإفادات بما كان أكده زياد عيتاني (أحد الموقوفين السابقين لدى أمن الدولة بتهمة العمالة وقد ثبتت براءته منها لاحقا) لجهة تعرضه للتعذيب أو لجهة وجود غرفة سوداء مجهزة بوسائل التعذيب في مركز أمن الدولة. 

كما يلحظ أن بعض أنواع التعذيب وآثارها قد تكرّرت في إفادات الموقوفين بما يؤكد وجود نهج أو اعتياد أو طرق متعارف عليها من التعذيب. ومن أهمّها التعليق على باب، استعمال سوط أو سلك، الحرق، الصعق الكهربائي، الضرب على نفس الأماكن (الظهر،الأطراف والصدر)، الجلد، الركل، واللكم، الكفّ، التقاذف كالكرة، إعطاء الموقوفين مسحوق غسيل مذوب بالماء للشرب، معاملة الموقوفين وإجبارهم على ضرب بعضهم البعض، عصب العينين، التكبيل وشدّ الأصفاد.

  • التهيؤ للتغطية على التعذيب:

أمر آخر يستشف منه أن التعذيب منظّم هو تهيؤ المخفر لدفع شبهات التعذيب عند وفاة أحد الموقوفين. وقد برزت مساعي التفلت من المسؤولية في التصرفات الآتية:  

  • محاولة التلاعب بسبب الوفاة (وعكة صحية نتيجة تعاطي المخدرات). وهذا ما يتمثّل في التدبير المتّخذ من النقيب فور التثبّت من وفاة بشار بأخذ عينة بول من جثة المتوفى من دون أيّ إشارة قضائية، وفق ما أشار إليه القرار الاتّهامي. ويستدلّ من ذلك سعيه إلى فبركة سبب آخر للوفاة، قوامه تعاطي بشّار مخدرات ثقيلة. 
  • التشهير بسجلّ الموقوف الجرمي والإيحاء بمدى خطورته (انخراطه في تزوير العملة والإرهاب) أو التشديد على جنسيته (مواطن سوري) بما يثير ذلك من مخاوف وآراء مسبقة. ويُراد من ذلك الإيحاء أن التعذيب ضروري لخدمة المجتمع وحمايته من خطر الإرهاب الذي يتهدده، وأنه تاليا يستحق التقدير وليس المساءلة. وما يؤكد ذلك هو إتفاق إفادات العناصر الذين تم التحقيق معهم على أن قسوة الوسائل المستخدمة غالبا ما تكون وقفا على خطورة الفعل بما يؤشّر إلى اعتبار التعذيب ضرورة اجتماعية في عدد من الجرائم وبخاصّة جرائم الإرهاب. وقد تبلور هذا التوجّه بشكل خاصّ في البيان الصادر عن المديرية العامة لأمن الدولة بعد يومين من وفاة بشار وتحديدا في تاريخ 2/9/2022 في إطار جوابها على المقالات الصحفية التي تناولت الحادثة. ففي هذا البيان، لم تتطرّق  المديرية من قريب أو بعيد إلى حادثة الوفاة أو أسبابها أو ظروفها، إنّما اكتفت بنشر ما ادّعت أنّ بشار اعترف به لجهة انخراطه في تزوير العملة والإرهاب. فكأنما هي تعتبر أن خطورة هذين الجرمين تبرّر بحد ذاتها التعذيب فلا يكون بعد ذلك من حاجة لتقديم أي دليل للتبرؤ منه. ولا نبالغ إذا قلنا أن أمن الدولة لم يجدْ حرجا في مجافاة كل الحقائق والمبادئ عند نشر بيانه، بهدف التغطية على جريمة التعذيب. يكفي إثباتا لذلك أن نذكر تعارض هذا البيان مع واقعة أن محضر الاستجواب لم يُفتح إلا بعد وفاة بشار ولم يدوّن فيه تاليا أيّ من أقواله وأن الإدلاء بهذه الاعترافات إن حصلت فعليا إنّما يشكل خرقا لسرية التحقيق ولقرينة البراءة على حدّ سواء. ويلحظ في الاتجاه نفسه تغيّر لهجة المديرية في بيانها الثاني الصادر في تاريخ 5/9/2022 بعد تثبت مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية شخصيا من تعرّض العديد من الموقوفين للتعذيب وبعد توثيق التعذيب في تقارير أطباء شرعيين. فإذ ذاك، أكدت المديرية على إحالة قضية وفاة بشّار إلى القضاء العسكري للتحقيق، “منتظرةً انتهاء التحقيقات لديه لاتّخاذ الإجراءات المناسبة”، مؤكدة “اتّخاذ أقصى العقوبات بحقّ كلّ من تثبت مخالفته لتعليمات المديريّة الواضحة، بما يختصّ بحقوق الإنسان ومناهضة العنف والتعذيب”،
  • وأخيرا، نشير إلى إفادات عناصر سعت إلى تصوير التعذيب الذي تعرّض له بشّار على أنه خطأ فردي لأحد العناصر المعروف بعصبيته والذي شعر بالإهانة بفعل تعرّض الضحية له ومعاملته بالشدة. وهذا التوجه أيضا ليس منعزلا أو خاصا بهذه القضية إنما يكاد يتكرر في العديد من القضايا التي تبرز فيها شبهة التعذيب. وهذا مثلا ما وثّقناه في  قضية تعذيب رومية. كما كانت “المفكرة” تناولت هذا الأسلوب في اتهام ضحايا الأجهزة الأمنية بالمعاملة بالشدة في عدد من المقالات منها: “دعاوى “معاملة قوى الأمن بالشدّة” ضد متظاهرين أمام المحكمة العسكريّة: هدر للمال العام” ، “جديد “ضربني وبكى، سبقني واشتكى” أمام المحكمة العسكرية“، “وظائف متعددة للقضاء العسكري في لبنان“). 

وقد جاء القرار الاتهامي ليقوّض هذه الحجج كافة، من خلال تشديده على اشتراك عناصر المخفر كافة في أعمال التعذيب ودحض السرديات المغايرة عن أسباب الوفاة أو حتى التعذيب. ومن اللافت أن القرار الاتهامي ذكر صراحة بالمادة 2 من قانون معاقبة أفعال التعذيب التي تنصّ على أنه “لا يجوز لمن يلاحق بجرم التعذيب الإدلاء بأي ذريعة لتبرير فعلته كحالة الضرورة أو مقتضيات الأمن الوطني او أوامر السلطة الأعلى أو أية ذريعة أخرى”.

  • الاستهتار بأوضاع الموقوفين ضحايا التعذيب وترهيبهم: 

الأمر الأخير الذي يجدر لفت النظر إليه هو الاستهتار إزاء أوضاع ضحايا التعذيب وما قد يعانون منه من جروح أو آلام أو ما قد يحتاجون إليه من عناية صحية لدرء أي انزلاق في أوضاعهم الصحية. وهذا ما يتأكد في عدد من شهادات الموقوفين التي تحدثت عن حالات الإغماء والغياب عن الوعي، والنزيف. ومن أكثر الشهادات دلالة في هذا الخصوص، شهادة أحد الموقوفين أنه “كان يتم إدخاله إلى النظارة عند إغمائه ويقوم الموقوفون بغسله وبعد أن يستعيد وعيه تتم متابعة ضربه”. وفي شهادة أخرى، أدلى أحد الموقوفين  أنه عندما “طلب الماء تمّ إعطاؤه ماء فيه مسحوق تنظيف”، وإنه “بقي نائماً لمدة يومين من شدّة التعذيب”، وقد أكّد موقوف اخر على ذلك حينما أدلى أنه “أجبر على شرب مسحوق غسيل مذوّب في الماء، ولم يتمكن من بعدها من الأكل والشرب على مدى 10 أيام، وكان ينزف عند التبوّل” وأنه إثر ما حصل راجع الضابط الذي طلب منه “التحملّ”.

وقد كشفت هذه القضية عن استهتار آخر إزاء ضحايا التعذيب يتجاوز حدود المخفر، وهو أنه تمّ إبقاء عدد من الموقوفين الذين ثبت تعرّضهم للتّعذيب في نظارة المخفر نفسه، ولم ينقلوا إلى نظارة أخرى إلا  بقرار من قاضية التحقيق بعد شهرين من ثبوت تعرضهم للتعذيب. وقد انعكس ذلك على جودة التحقيقات حيث طلب جميع الموقوفين في محضر قاضية التحقيق إعفاءهم من التّعرف على هوية العناصر الذين تعرضوا لهم بالتعذيب، معللين ذلك بأنهم لا يريدون مزيدا من المشاكل مع أمن الدولة وبخاصة أنهم ما يزالون موقوفين في النظارة نفسها. وقد عكس إجماع هؤلاء على هذا الموقف أجواء الرعب التي كانوا يعيشون في ظلها، وهو الأمر الذي دفع قاضية التحقيق إلى سجن آخر.

خلاصة  

وعليه، انتهى القرار الاتهامي استنادا إلى هذه الرواية إلى اتّهام ضابط وثلاثة عناصر عاملين في مركز بنت جبيل (تبنين) بارتكاب جناية التعذيب، والظنّ بإثنين منهم وبعنصر آخر من العاملين فيه بارتكاب جنحة التعذيب. بالمقابل، امتنعت القاضية عن القيام بأي جهد للتحقّق من احتمال تورط ضباط أعلى من جهاز أمن الدولة في ممارسات التعذيب أو التغطية عليها وتحديدا من مدى معرفة قيادات هذا الجهاز بالأساليب المستخدمة في هذا المركز أو أي من المراكز الأخرى التابعة له. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو بيان أمن الدولة في تاريخ 2/9/2022 والذي بدا بمثابة خطاب تبريري للتعذيب على خلفية خطورة الجرم، وأيضا اتصال النقيب بالمدير الإقليمي لمنطقة النبطية لإعلامه بوفاة بشار من دون معرفة ماهية أوامره، هذا فضلا عن بروز إسم هذا الجهاز الأمني وقياداته ووجود غرف تعذيب سوداء لديه في قضايا تعذيب أخرى أشهرها قضية زياد عيتاني، قضايا ما تزال تنتظر التحقيق. ورغم هذه الأسئلة الملحة، آثرت القاضية حصر تحقيقها بالمسؤوليات داخل مركز بنت جبيل (تبنين) في موازاة افتراضها أن أي تعذيب حصل في هذا المخفر إنما تمّ بالضرورة خلافا للأوامر المعطاة لهم من قياداتهم بوجوب مراعاة أحكام القانون وحقوق الإنسان، وصولا إلى الادّعاء على ضابط وعناصر المخفر لهذا السبب أيضا.      

يمكنكم الاطلاع هنا على النسخة المترجمة للغة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، أجهزة أمنية ، محاكم جزائية ، قرارات قضائية ، الحق في الحياة ، فئات مهمشة ، محاكمة عادلة وتعذيب



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني