في 2009، نشر نزار صاغية وسامر غمرون، وهما من مؤسسسي المفكرة، دراسة بعنوان: “التحركات الجماعية في لبنان” ضمّ توثيقا لتجارب منسية من تحركات القضاة في فترة (1969- 1982). وقد نشرت هذه الدراسة ضمن كتاب “حين تجمع القضاة” ضم أعمال مؤتمر انعقد في بيروت في 2008 بحضور أكاديميين وقضاة عرب تحدثوا فيه عن تجارب تحركات قضائية في المنطقة العربية، وتحديدا في مصر والعراق وتونس والمغرب والجزائر. وقد لاحظ الكاتبان في مستهل دراستهما أن “مراجعة الخطاب الاصلاحيّ للقضاء في زمن ما بعد الحرب تظهر بوضوح تركيزا على الإصلاحات التي تضعها الدولة أو مؤسّساتها الرسميّة فيما يظهر القاضي دوما محلا لإصلاح يتلقّاه دون أن يكون له أيّ دور فاعل فيه. والواقع أن هذا التوجه لم يكتف فقط بتهميش “التحرّكات القضائية الجماعيّة” كآليّة من شأنها الإسهام في إصلاح القضاء، إنما أيضا –وهنا الغرابة- بطمس ذاكرة القضاء بهذا الشأن، وتحديدا بما يتّصل بالتحرّكات الواسعة التي شهدها في العقود السابقة للطائف”.
منذ نشر هذه الدراسة، تغيرت الأمور كثيرا في المنطقة العربية، وخصوصا في المغرب وتونس، حيث نجح القضاة هنالك، بفعل تحركاتهم الجماعية الحاصلة بعد 2011، في فرض إشكالية استقلال القضاء في الخطاب العام، وفي انتزاع قوانين تعزز ضماناته إلى درجة كبيرة في هذين البلدين.
ومع انخراط القضاة اللبنانيين في أطول اعتكاف في تاريخهم في تموز/آب 2017، عادت التحركات القضائية، بما تستدعيه من أسئلة، لتطفو على السطح، وخصوصا أن السبب الأساسي لاعتكاف اليوم هو الدفاع عن أهم مكاسب التحركات القضائية الحاصلة في فترة (1969-1982)، وهو صندوق تعاضد القضاة وما يتيحه للقضاة من ضمانات اجتماعية في مجالات الصحة والتعليم والسكن.
وعليه، ارتأت المفكرة القانونية أن تعيد نشر فصول هذه الدراسة في سياق مساهمتها في دعم استقلال القضاء وإعادة إحياء ذاكرته، على أن تستكملها بتوثيق مجمل تحركات القضاة في فترة ما بعد الطائف.
ويلحظ أن الأوراق المنشورة تباعا ستعتمد تعريفا واسعا للتحرّكات الجماعيّة بحيث يشمل أيّ تحرّك يقوم به عدد من القضاة بصفتهم تلك بما يتجاوز ما تفرضه عليهم وظائفهم المحددة قانونا. وتاليا، هو يشمل ليس فقط إنشاء جمعيات أو التجمع، لكن أيضا توقيع البيانات والعرائض. وهذا التوسع في التعريف يسهم برأينا بتكوين فكرة أوضح عن شروط هذه التحركات ولا سيما لجهة مدى حاجة القضاة إليها أو مدى استعدادهم للقيام بها (المحرر).
حلقة الدّراسات القضائية
تأسّست “حلقة الدراسات القضائية” على شكل جمعيّة لا تبتغي الربح في بداية العام 1969[1] بمبادرة من القضاة نسيب طربيه ويوسف جبران وعبد الله ناصر وعبد الباسط غندور. وفيما أبرز مؤسّسوها أهدافا علميّة كالقيام بأبحاث ودراسات وتنظيم مؤتمرات بشأن القضاء بما يعزّز المناخ الصّالح للاضطلاع بالرّسالة القضائيّة[2]، فإنّهم بدوا واثقين من أهميّة إنشاء الجمعيّة في تعزيز المؤسسة القضائية بحدّ ذاتها. ف “إنشاء هكذا جمعيّة مفتوحة للقضاة ورجال القانون للمرّة الأولى في لبنان، يعدّ بحدّ ذاته حدثا ذا شأن في تاريخ القضاء اللبناني، حدثا من شأنه حث القضاة على العمل، ليس فقط على تحقيق كمال أعمالهم الفردية، إنما ايضا على تحقيق كمال المؤسسة التي فيها يعملون”. والواقع، أن تاريخ إنشاء الجمعية في أواخر الفترة الشهابية، وبعيد فترة قصيرة من “تطهير قضاة” بحجة عدم أهليتهم دون محاكمة، إنما يجيز التساؤل عمّا إذا كان إنشاء الجمعية ردّا قضائيّا على امتهان القضاء.
وقد انتسب إلى الجمعية في السنة الأولى حوالي 90 قاضيا[3]، وأصدرت نشرة تحت تسمية “الحلقة” (4 أعداد) كما نظمت عددا من الندوات والمحاضرات حول استقلالية القضاء ودوره في المجتمع، أبرزها المحاضرة التي ألقاها السيد موسى الصدر في 7/2/1969 بعنوان “القضاء الرسالة”[4] والمحاضرة التي ألقاها القاضي نسيب طربية حول “التشكيلات القضائية” في 1971. كما عملت على دراسة مشاريع من شأنها تحسين الأوضاع المادية للقضاة. وفيما أجازت وزارة العدل في بداية السبعينات للجمعيّة إشغال غرفتين في مبناها، فإن علاقة الجمعية بالسلطة التنفيذية تأزمت بعد محاضرة “نسيب طربيه” حول التشكيلات القضائية، مما أدى الى احالته الى المجلس التاديبي والى ابطاء عمل الحلقة، الذي استمر انما بشكل محدود، دون أي وهج.
هذه هي بخلاصة أبرز ميّزات هذا التحرّك. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه، على ضوء الوثائق والشهادات التي امكننا الحصول عليها .
أهداف التّحرّك ومطالبه:
حدّدت الجمعية أهدافها “بالقيام بأبحاث ودراسات وتنظيم مؤتمرات علمية تتعلق بالرسالة القضائية وتهدف عبر كل هذا، إلى توفير المناخ الصالح لكي يضطلع القضاة برسالتهم النبيلة على الوجه الأكمل والأكثر استقلالا”[5]. ومن البيّن على ضوء ذلك، أنّ الأبحاث العلمية للجمعية “ليست أكاديميّة بحتة” انّما هي أبحاث تهدف الى تحقيق “الهدف الأسمى” الذي هو قيام قضاء قادر و مستقلّ[6]، مع السعي الدائم إلى “إنمائه وتطويره وتحديثه وأنسنته”ّ[7]. وانطلاقا من ذلك، جاز تصنيف أهداف الجمعية ضمن أربعة:
1- الأهداف البحثية في مجال القضاء:
فيما شكل هذا الهدف العنوان الأبرز لأهداف الجمعية وفقا لما يستدل من اسمها، يظهر بوضوح أن سجل الجمعية في هذا الصدد بقي بعيدا عن طموحاتها الأساسية وأن الهمّ العلمي برز لديها كمقاربة أو كمنهجية أو كأسلوب وفي كل الأحوال كطموح أكثر مما برز في انتاجات محققة. وهذا ما أقرت به في عددها الأول من نشرتها الصادرة تحت تسمية “الحلقة” حيث أعلنت أنها تبدأ باصدار نشرة داخلية غير دورية كمدماك أول في صرح النشرة العلمية الدورية التي طمحت أساسا إلى إصدارها على “غرار جمعيات القضاة في البلدان الأجنبية” وما تزال عاجزة عن ذلك من جراء صعوبات جمة[8]. وإلى النشرة، نظّمت الجمعية عددا من المحاضرات والندوات تناولت مسائل قضائية عدّة: فمنها ما تناول استقلال القضاء[9] أو رسالته[10] فيما أن بعضها الآخر تناول “اختيار الخبراء”[11]، علما أن الجمعية سعت إلى إعداد مؤتمر “علميّ” حول موضوع بطء العدالة في لبنان.
2- الهدف “الأسمى”: السعي إلى تحقيق كمال المؤسسة القضائية:
في هذا المجال، نلقى مجموعة من الأهداف التي تعكس تطلّعات الجمعية ورؤيتها بشأن الوظيفة القضائيّة. وقد أبرزت هذه الأهداف ضمنا توجهين اثنين متكاملين، الأول التوجه الآيل إلى تغليب الإصلاح (أو التطوير) الذاتيّ للقضاء كفرد وكمؤسسة، والثاني تغليب الإصلاح الذي يؤدي فيه القاضي دورا فاعلا محوريا فلا يكون مجرد متلقّ لما تصنعه سلطة مركزيّة (أيا تكن هذه السلطة).
وهذان التوجهان يظهران جليا في استعراض “التطلعات” المعلنة في العدد الأول “للحلقة”. فالقضاء الذي تطمح اليه هو القضاء المستقل (أفرادا ومؤسسات)، وهو القضاء العالم (المنفتح بالمعرفة على حاجات مجتمعه ومتطلبات عصره) وهو القضاء اللاطائفي (الذي تقف عند عتبته جميع أمراض مجتمعنا وعلله)، وهو القضاء الذي يوحي بالثقة (بعلمه ومناعته وتحرره) وهو القضاء المهاب (الذي يكون القوي عنده ضعيفا حتى يؤخذ الحق منه) وهو القضاء المطمئن (الذي لا تعقله حاجة ولا خوف) وهو القضاء المنتج (الذي يدرك أن الزمن في طليعة قيم العصر) والقضاء العصري (في تفكيره وتطوّره ووسائل عمله) وهو أخيرا القضاء الذي يوفّر عدالة ذات وجه انسانيّ. وفيما عكست هذه “التطلعات” رؤية خاصّة للوظيفة القضائيّة أكثر انسجاما مع النظريّات الحديثة القائلة بايلاء القاضي دورا رياديّا محوريّا في تطوير المجتمع ومواكبة حاجاته، على نحو يميّزه عن القاضي الكلاسيكيّ الذي ينأى عن مجتمعه ويعمل على “خدمة” القانون دونما توسّع في تأويله، فإن تحقيقها يفترض بالدرجة الأولى جهدا وتطوّرا ذاتيّين مستمرّين على صعيد القضاء كأفراد وكمؤسسة.
كما تظهر التوجهات الاصلاحية المذكورة أعلاه في مجمل مقترحات الجمعية التفصيلية وأعضائها البارزين. وخير مثال على ذلك الاشكاليات التي ركز عليها القاضي نسيب طربيه في محاضرته بشأن التّشكيلات القضائيّة والتي نشرتها “الحلقة” على نحو يوحي بتبنيها والتي جاءت بنفس متميّز قلما نجده في طروحات الآخرين السابقة أو اللاحقة. ففي موازاة القواعد الآيلة إلى تهميش دور السّلطة السياسيّة في التّشكيلات القضائيّة، سعى المحاضر إلى ابراز الاشكاليّات التي من شأنها إعادة الأضواء إلى أسباب وجود التشكيلات القضائية (وهي اختيار الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة) وتاليّا إلى القاضي ووظيفته الاجتماعية. وليس أدلّ على ذلك ما تضمنته المحاضرة لجهة انتقاد العرف الآيل إلى “إجراء تشكيلات كلما أتى رئيس للجمهورية وكأن القضاء كالإدارة أداة تنفيذ”، ف “لا يجوز أن يأتي الحاكم إلى الحكم بقضاته كما يأتي بوزرائه”[12]. فهذا الانتقاد، الذي قلّما نجد مثيلا له في الخطاب الإصلاحيّ الحاليّ، يفترض ليس فقط تعزيز استقلالية القضاء، إنما أيضا تعزيز موقعه ومكانته في النظام الديمقراطي ككل. فالقضاء “سلطة تتميز عن السلطتين الدستوريتين التنفيذية والتشريعية في أنها لا تتبدل أو تتغير ولا تتحزب أو تتسيس بل تبقى في بناء الدولة الديمقراطية العنصر الثابت والأكثر استقرارا كي تتمكن من البقاء سورا منيعا يحمي الحريات والحقوق الأساسية التي لا تتأثر في النظام الديمقراطي الصحيح بتقلبات السياسة وتصارع الأحزاب”.
ومن هذا المنطلق، رأى المحاضر أنّ التشكيلات العامّة، أي إجراء عملية نقل شاملة للقضاة، تبقى أمرا استثنائيا، وتحصل مرة واحدة على أسس سليمة؛ فإذا فرضت الحاجة فيما بعد اجراء تعديلات عليها، تم ذلك بواسطة تشكيلات جزئية بحدود الحاجة الطارئة. فعلى هذا المنوال، يحتفظ القاضي بمركزه لمدة طويلة تمكنه من تطوير الاجتهاد وإرساء أساليب العمل، ويكون فاعلا وليس رهنا لأفعال الآخرين.
وفي الإطار نفسه، آثر المحاضر حصر التشكيلات بمرجع واحد، ولو كان “الشيطان الرجيم”، يبتها في جلسة طويلة واحدة بعيدا عن الإعلام حدّا للتدخلات، متمنيّا أن يكون ذلك المرجع مجلس القضاء “ليبقى غسيلنا النظيف منه والقذر منشوراً على سطحنا”[13]، مؤثرا في الوقت نفسه أن يعدل كيفية اختيار أعضائه، فينتخبوا من القضاة تجاوزا لأي اعتبار طائفي.
كما أن التوجه المذكور بدا واضحا في تركيز “طربيه” على الاشكاليات المتصلة بالأسس السّليمة للتشكيلات، ولا سيما الاشكالية المتصلة بتكوين ملفّات شخصيّة للقضاة. فسواء اتصلت الاشكاليات المطروحة بمحتوى الملفات الشخصية أو بطريقة تنظيمها، فإنها تكرّس دورا ديناميّا ومحوريّا للقاضي كفرد وكمؤسسة في مسألة التشكيلات. فوضع هذه الملفات لتكون “مرآة تنعكس عليها بأمانة جميع نواحي شخصيّة علمه، خبرته، نشاطه، منطقه، رغبته في البحث والتنقيب والجدل وذكاؤه وعمق وشمول نظره وتصرفه في حياته العامة وما يظهر من حياته الخاصة، ومفهومه لمهمته ومناقبيته، ومتانة خلقه ورصيد الثقة الذي يتمتع به في أوساط معارفه” هو “مهمة خطيرة وشاقة ودقيقة”، ولكنها “أرضى وأعمق وأجدى عملية يمكن أن يضطلع بها تفتيش قضائي إيجابي ومنزه ويضطلع بها معه الرؤساء الأولون.. ومجلس القضاء الأعلى”. ويضاف إلى ذلك عدد آخر من الإجراءات الآيلة إلى تغليب الكفاءة على بازارات “الطائفية”، والنفوذ السياسي والصحبة، والحقوق المكتسبة، كأن يعطى خريجو المعهد أولوية في اختيار مناصبهم وفقا لرتبهم.
وهذا أيضا ما نقرؤه في بعض المقترحات حيث بدت الجمعية دوما منحازة للحلول اللامركزية بما يولد دينامية ذاتيّة في كل محكمة، كاقتراح إلغاء هيئة التفتيش القضائي المركزية واستبدالها بهيئات تفتيش عدّة على مستوى كل محكمة استئناف. و كانت الحلقة قد برّرت اقتراحها الأخير هذا بظروف إنشاء هيئة التفتيش، التي “أنشئت أصلا في تشكيلتها الحالية لأسبابٍ طائفيةٍ لا غير”[14]. وفي السياق نفسه، اقترحت اعتماد مرونة أكبر في قانون التنظيم القضائي بحيث تنقل محكمة من منطقة إلى أخرى بقرار لمجلس القضاء الأعلى، و ذلك لسدّ الثغرات بشكل أسهل و أسرع[15].
3- في تحسين الأوضاع الماديّة:
والتوجه نفسه – أي التّركيز على سبل الإصلاح الذاتيّ- نجده في مقاربتها للأوضاع الاجتماعيّة. فبعدما تبيّنت الجمعية أن هذه الأوضاع “ليست في المستوى المطلوب الذي يؤمن للقضاة الحد الأدنى من راحة البال”، سعت، دون نجاح يذكر، إلى تحسين أوضاعهم المالية وزيادة مداخيلهم إنما مع التركيز على طرق موازية للسّلطة المركزية[16]. وقد بنت مقاربتها تلك، على ما يبدو، على اعتقاد بأن الجمعية تشكل إطارا جيدا لمأسسة تضامن القضاة إزاء المخاطر “الحياتيّة” كالمرض والوفاة أو على الأقل بابا لتحسين شروطهم التفاوضيّة في السوق. وهذا ما نستشفه مثلا في مساعيها إلى إنشاء صندوق تعاضد، وهو مشروع تراجعت عنه لاصطدامها بعقبات “مادية لم يتيسر تذليلها”، لتستشرف عوضا عنه فكرة التأمين الاجتماعي على غرار “نقابة المهندسين”[17]. وهذا ما نستشفه أيضا في سعيها إلى توفير قروض ميسرة لشراء مساكن. لكن هنا أيضا، وبعد استفتاء القضاة عن طبيعة المنزل الذي يرغبون فيه وقدرتهم على الدفع والتقصي بالقرب من الشركات، انتهت الجمعيّة إلى إعلان فشلها لارتفاع معدل الفائدة المحلّي والعالميّ. ولعل المطلب الوحيد الذي سجلته الجمعية في نشرة “الحلقة” هو المطالبة بالمساواة في احتساب نسبة التعويض الخاصّ للقضاة (والذي كان يتراوح بين 30 و40% من الرّاتب وفقا للدّرجة)[18]، مما يعكس رؤية ذاتية قوامها المساواة بين القضاة أكثر مما يعكس عملا مطلبيا تجاه السلطة.
4- الدفاع عن القضاء:
وإلى الأهداف التي تقدم ذكرها، برز هذا الهدف عرضا بمعرض الردّ على قرار نقابة المحامين في بيروت بمقاطعة قاضيين على خلفيّة تصرّفات معيّنة أثناء جلسات المحاكمة. ففيما رفضت “الجمعيّة” قرار المقاطعة، أعلنت أنّ اساس موقفها هو الدّفاع عن القضاء وعن الوظيفة القضائية وليس عن قضاة معيّنين، داعية نقابة المحامين إلى تغليب الرّوح المهنيّة على الروح النقابيّة[19]. وفي حين كان هذا الموقف ينسجم عموما مع سائر مواقفها، فإنّ الأمانة العلمية تفرض علينا القول أنه لم يتسن لنا التحقق من القضية من زواياها كافة، وتاليا يصعب الجزم فيما إذا كان موقف الحلقة منزها تماما عن أي بعد نقابي.
وكخلاصة في هذا الخصوص، ساغ القول انّ الجمعية لم تتصرّف كحركة مطلبيّة وأنها غلبت “مفهوم الهدف” بأشكاله المتنوّعة على “مفهوم المطلب” في صياغة مشاريعها أو مقترحاتها، سواء اتّصلت بشؤون القضاة المعنويّة أو المادية. وهذا ما يسمح لنا بالانتقال إلى استعراض أساليب التحرك ووسائله.
أساليب التحرّك ووسائله:
هنا، سنستعرض تباعا الأساليب والوسائل المتبعة في التنظيم الداخلي ومن ثم الأساليب والوسائل في مخاطبة الغير.
1- التنظيم الداخليّ وأساليب اجتذاب القضاة:
اعتمد الأعضاء المؤسّسون للحلقة “الجمعيّة” كإطار قانونيّ لتحرّكهم. ولهذه الغاية، قدموا بيان التأسيس لوزارة الداخلية التي سلمتهم العلم و الخبر رقم 82 الصادر في 26/2/1969. والشّاهد الأبرز على خطواتها التأسيسية هو العدد الأول من نشرة “الحلقة” والتي خصصتها الجمعية لهذا الغرض. فبحسب “الحلقة”، تشاور مؤسسو الجمعية مع عدد من القضاة بشأن قانونها الأساسيّ ونظامها الداخلي. وقد نصّ نظام الجمعية على جهازين: الأول هو الهيئة الإدارية المنتخبة من الهيئة العامة لسنتين، والثاني هو مكتب الجمعيّة المؤلف من امين عام وأمين سر وأمين صندوق. والواقع أن الجمعية بدت في نظامها وأعمالها حريصة على الظهور مظهرا ديمقراطيا. فعدا عن الدعوات المستمرة للقضاة بإبداء آرائهم بشؤون الجمعية، يسجل أن هيئتها الإدارية الأولى[20] قدمت استقالتها في 28/11/1970 على خلفية أن نشاطها لم يرق إلى مستوى طموحاتها وأن الهيئة الإدارية الثانية[21] خلت من بعض أوجه المؤسسين البارزة وعلى رأسهم الأمين العام السابق نسيب طربيه. كما نقرأ في “الحلقة” أن الجمعية العمومية اجتمعت قبل انتخابات 1971 للإستماع إلى البيان المقدم من أمينها العام ولمناقشته وإقرار الخطوط العريضة للنشاطات المقبلة، قبل انتخاب هيئة جديدة سرعان ما وضعت برنامج عمل عرضته على القضاة عبر مجلة “الحلقة”. إلا أنّ معاينة خطاب الجمعيّة وأعمالها يظهر بشكل واضح أن الأوجه البارزة في الجمعية طبعت هذه الأخيرة بأساليبها ورؤاها، وإن كانت متباينة، بدرجة أو أخرى، وفي محلات عدة، عما هي أساليب ورؤى أكثرية الأعضاء.
أما على صعيد العضوية، ورغم أن الجمعية بدت منفتحة لقبول رجال قانون، فإن العضوية انحصرت عمليا على القضاة. وفي هذا الصدد، نقرأ في “الحلقة” أن مؤسّسيها وجّهوا فور تأسيس الجمعية كتباً إلى جميع القضاة لحثّهم على الالتحاق بها، فلبى دعوتهم أكثر من “90 قاضياً” خلال السنة الأولى فقط. ولا شكّ أن الوسيلة الأهمّ في التواصل مع القضاة كانت مجلّة الحلقة التي بدأت تصدر في بداية العامّ 1971. والواقع أن هذه المجلة، التي شكلت بالنسبة إلينا وثيقة أساسية في هذا العمل، أعدّت، منذ البداية، كما سبق بيانه، لتكون “نشرة داخلية غير دوريّة” تتناول بشكل رئيسي نشاطات الحلقة، الفكرية منها ولكن أيضا بعض المناسبات الاجتماعية كتكريم قاض لتعيينه مديرا عاما في وزارة العدل، مما جعلها بمثابة محرك اجتماعي للحلقة[22] أكثر من أي أمر آخر. وقد دأبت الحلقة على حثّ القضاة على إبداء ملاحظاتهم بشان أعداد النّشرة وإستبيانهم بشان بعض المشاريع قيد الدراسة (صندوق التعاضد…)، بواسطة استمارات خاصّة.
وعلى صعيد الخطاب المعتمد لاجتذاب القضاة، جاز القول أنه ينتمي الى فئة “الخطب المثاليّة”، ليس فقط بما يتصل بتحديد أهداف الجمعية انما أيضا بما يتصل بتقويم وجودها بحد ذاته. وليس أدلّ على ذلك من وصف الجمعيّة بال “حلم”، بما يعبر عن شعور بجماليّة التوحّد لتحقيق هدف سام يرقى إلى “الكمال”. وهذا ما نقرؤه بوضوح كليّ في أحد أبرز حجج إقناع القضاة للانضمام إلى الجمعية: فلا يكفي أن يسعى القاضي إلى تحقيق كماله الذاتيّ، بل لا بد من السعي إلى تحقيق “كمال المؤسّسة”. وهذا ما نقرؤه أيضا في تفاصيل أهداف الجمعيّة، سواء بما اتصل بمواصفات القاضي (المتجرد والعالم والانساني والمنتج والذي يوحي بالثقة) أو بمواصفات المؤسسة القضائية (حيث الشخص المناسب في المكان المناسب) والتي تقرب من الكمال بقدر ما تزداد ثقة الناس بها. ومن الأدلّة الأخرى أيضا، سعي الحلقة إلى ابراز تطلعاتها المثالية في مواجهة “الواقعيين” الذين ربما يصفون أعضاءها ب “السذّج”.
وتاليّا، من البيّن أنّ محور هذا الخطاب هو بالدرجة الأولى، استنهاض القضاة ليس لانتزاع الإعتراف بحقّ أو بامتياز ملازم لمناصبهم، إنما لتطوير ذواتهم وأدائهم توقا لما يصبون اليه. ومن هنا، يوحي الخطاب بأن لا مكان من حيث المبدأ لتمجيد الذات (أو الادعاء بانتسابهم إلى عالم الآلهة كما سيكون حال التحركات اللاحقة) ولا للإسراف في التظلم، بل على العكس تماما ثمّة ضرورة، قبل كل شيء، لإعمال النقد الذاتيّ و”القسوة على الذات تجنبا لقسوة الآخرين”. لا بل أن مثالية الأهداف بدت وكأنها تتنافى إلى حد كبير مع مفهومي الهرمية والسلطة. فالخطاب يساوي بين القضاة داخل الجمعية ولا يقر بأيّ مكانة خاصّة لرئيس مجلس القضاء الأعلى أو لأعضائه (وقد وصف المجلس بأنه ضامن لحقوق الملل) أو لهيئة التفتيش القضائي (والتي قيل بأن كيفية تشكيلها جاءت انعكاسا للتوافقية الطائفية كما بينا أعلاه في باب الأهداف). لا بل، ورغم الإشارات المتكرّرة والواضحة لاستقلاليّة القضاء ومكانته الاجتماعيّة البارزة، قلّما نجد إشارة إلى مفهوم “السّلطة القضائيّة”، وهو أمر يعبّر ربّما ببلاغة عن حذر الجمعية إزاء أيّ مفهوم من شأنه إعلاء شأن القضاء بمعزل عن أدائه وثقة الناس فيه دون أن يعني ذلك رضوخا لأيّ من السّلطات الأخرى.
2- الأساليب والوسائل في التّخاطب العامّ:
في هذا المجال، نلحظ بداية توجّهات ثلاثة تنسجم إلى حدّ كبير مع مقاربة الجمعيّة العلميّة وأيضا مع أهدافها المبينة أعلاه. وهذه التوجهات هي:
أولا، انفتاح نسبيّ على القانونيين على نحو يوحي –ولو إلى حدّ ما- بشعور معين بانتماء القضاة إلى مجموعة أوسع هي مجموعة المهن القانونيّة والقضائيّة وإن اقتصرت عضوية الجمعية على القضاة. فإذا كان البحث العلمي (الدراسات القضائية واصدار مجلة ذات مستوى أكاديميّ) هو هدف الجمعية وأحد المواصفات البارزة في القضاء المنشود، فمن البدهي أن تتوجه الجمعية إلى القانونيين من محامين واساتذة جامعيين وطلاب حقوق ألخ.. وقد برز هذا التوجه في أول ندوة علمية نظمتها الجمعية في صالة المحاضرات في نقابة المحامين حيث دُعي نقيب المحامين فؤاد رزق والأستاذ الجامعيّ ادمون نعيم للتحدث عن استقلالية القضاء. كما برز في سياق الإعلان عن مؤتمر علمي حول موضوع بطء العدالة في لبنان، بحضور “كل الحقوقيين في لبنان من قضاة ومحامين وأساتذة وطلاب حقوق[23]“.
إلا أنه يصعب تقويم هذا الانفتاح على ضوء الشهادات والوثائق التي أمكننا الحصول عليها، وخصوصا لجهة العلاقة مع نقابة المحامين. ففيما درجت الجمعية بداية على تنظيم الندوات في صالة محاضرات نقابة المحامين في بيروت (1969)، يظهر أنها اتجهت بعد ذلك إلى عقدها في قاعة محكمة التّمييز كما هو حال استضافة الإمام الصدر أو ندوتي “كيفية اختيار الخبراء” و”التشكيلات القضائية”. وإلى ذلك بدا التشنج بين الجمعية ونقابة المحامين واضحا في معرض مناقشة مشروع قانون تنظيم مهنة المحاماة الذي صدر في 10/3/1970، بحيث تدخلت الجمعية خلافا لرأي النقابة لإلغاء مادة من المشروع كانت تحظر الانتساب إلى النقابة على من تجاوز سنّ الأربعين، وتاليا على القضاة المتقاعدين أو المستقيلين بعد تقادم معين والذين يرغبون بممارسة مهنة المحاماة. كما أن الجمعيّة عبّرت عن “ذهولها” إزاء القرار الذي اتّخذته نقابة المحامين بمقاطعة جلسات قاضيين بسبب إشكالٍ حصل بينهما وبين محامين، إذ لا يمكن لنقابة المحامين أن تقاطع جلسات قضاة وكأنها تنصب ذاتها “قاضياً على القضاة” فتتخذ أحكاما بعزلهم. وفيما بدت مواقف الجمعيّة في هذا الصدد مبرّرة اجتماعيا من حيث المبدأ، فإنّ الحماسة التي أظهرتها بل أيضا بعض العبارات كرفض أن تكون نقابة المحامين “قاضيا على القضاة” توحي بوجود توجّهات نقابية معينة. وما يؤكّد ذلك هو أنّ اعتمادها أسلوب النقد الذاتي تزامن إلى حد ما بل جاء مبررا بحذرها إزاء أي نقد خارجي، وذلك عملا بقاعدة “لنكن أشداء تجاه أنفسنا لئلا يقسو علينا الآخرون” أو أيضا عملا بقاعدة “التستر على الغسيل الوسخ”، وكلها عبارات وردت في محاضرة طربيه بشأن التشكيلات القضائية.
وإلى ذلك، بدا الانفتاح واضحا على الصعيد الدوليّ. فإلى جانب مفاخرة الجمعيّة بالانتماء إلى الاتّحاد العالمي لجمعيات القضاة، فإنّها لم تخفِ تأثّرها بجمعيات القضاة في بعض البلدان الأجنبيّة والتي نجحت –هي- في إصدار مجلات دورية ذات مستوى علمي[24].
أما التوجّه الثّاني، فهو الحذر إزاء وسائل الاعلام الموجّهة إلى العامّةّ. وقد تبدى هذا الحذر في محلات عدة: الأول في المذكّرة التي رفعتها الجمعيّة إلى مجلس القضاء الأعلى بعنوان “القضاء والإعلام” وذلك احتجاجا على تصريحات إعلاميّة أدلى بها مسؤولون يوم حادث اختطاف طائرة إلى لبنان من قبل أحد المواطنين الفرنسيين، والثاني في مطالبة نسيب طربيه حظر وسائل الاعلام عن نشر أي معلومة تتصل بالتشكيلات القضائية قبل صدورها، وذلك للحدّ من بازار التشكيلات وأيضا إعراض أعضاء الحلقة عن الإدلاء بتصريحات إعلامية.
ومردّ هذا الحذر، يتصل بالواقع برغبة الجمعية بحماية القضاء في مواجهة مخاطر معينة، أبرزها الإثارة الإعلامية، ولكن أيضا بطبيعة أهدافها القائمة أولا على مخاطبة القضاة لاستنهاضهم في مشروع مؤسساتي، أكثر مما يتّصل بموجب التحفّظ. وخير دليل على ذلك هو أنّ الحلقة لم تتردّد عن إصدار نشرة خاصة بها وعن تضمينها انتقادات مباشرة وعلنيّة بشأن الأمور القضائيّة ضدّ أيّ كان، مهما علا منصبه، بما فيهم رئيس الجمهوريّة ووزير العدل وأعلى المناصب القضائيّة.
أما التوجّه الثالث فقوامه تغليب الطابع النقديّ في مخاطبة السلطة بما فيه من شفافيّة وصراحة على الطّابع المطلبيّ بما فيه من تملق أو مجاملة أو وعيد. ولربما نلحظ هنا بشكل خاص ما أشرنا إليه أعلاه لجهة مدى تأثير شخصيّة القاضي نسيب طربيه وتوجهاته – والتي قد لا تنسجم مع توجهات أكثرية الأعضاء- على أعمال الجمعية[25]. ولعل أبرز دليل على ذلك محاضرته المشار اليها أعلاه أمام عدد كبير من القضاة (80) وفي مقدمهم رئيس مجلس القضاء إميل أبو خير ورئيس التفتيش القضائي ممدوح خضر، فضلا عن المدير العام لوزارة العدل. فبعدما أبعد طربيه شبح “الواقعية” التي يستلهمها قضاة عدة (بما فيهم أعضاء في الجمعية) على نحو يصوّر تطلّعات الجمعيّة على أنّها سذاجة أو أضغاث أحلام، استرسل في عرض آرائه بصراحة متناهية تكاد لا توفّر أحدا: فتكلّم على “بازار التشكيلات” واصفاً إياه “بالمأساة التي طالما شاهدنا فصولها المفجعة”، حيث “يحتدم صراع المصالح والأهواء” و”يتفرق طلاب المغانم على أبواب الساسة والمقامات”، مطالباً بالسيطرة على “هاجس التشكيلات” عبر “وضع حد للفوضى”، و”إيجاد قواعد وضوابط يلتزم فيها المسؤولون عن هذه التشكيلات أيا كانوا”. وبعدما انتقد آلية حصول التشكيلات حيث تذهب “حصة الأسد لوزير العدل” ويعيّن “الحاكم قضاته” (قاصداً رئيس الجمهورية)، فضح عامل المحسوبيات في إجراء التشكيلات وألعاب القوة والتفاوض بين أركان السلطة الذين عدّدهم بدقّة مع وصف آليات التشكّي السياسية والتدخلات حتى داخل مجلس القضاء الذي يظهر كأنه حارس اقتسام المغانم بين الطوائف.
وفي موازاة هذا التوجّه ورغما عنه، يسجّل أنّ الحلقة قلّما لجأت إلى وسائل الضّغط على السّلطة، فلا مؤتمرات صحفية ولا جمعيات عمومية ولابيانات قاسية ولا إضرابات .. وفيما جاز تفسير ذلك بأن نشاطها لم يهدف أصلا لانتزاع تنازلات أو حقوق من السلطة إنما بالدرجة الأولى إلى استنهاض القضاةّ[26]، فإن ذلك يبقى غير مقنع لفهم “سكون” الجمعيّة إزاء إحالة القاضي طربيه إلى المجلس التأديبيّ، على نحو أظهرها أعجز من الدفاع عن بقائها إزاء أول مواجهة جدية مع السلطة. فلربما، تكون هذه المواجهة الأولى قد أزاحت النقاب عن التوجّه الأكثريّ الميّال إجمالا إلى مهادنة السلطة، وبينت ربما سببا إضافيّا، ولو أقل أهمية من سابقه، لتفسير أسباب إعراض الجمعية عن أي تحرك ضاغط ضد السلطة.
مدى التّفاعل اجتماعيّاً: ردود الفعل ومواقف:
أدّت أساليب عمل الجمعيّة وأهدافها إلى حصر نشاطها العامّ في أطر ضيّقة كما سبق بيانه. وبشكل عامّ، تجدر الإشارة إلى أن ردود الفعل إزاء الجمعية تباينت لدى مجلس القضاء الأعلى والسلطة التنفيذية (بل حتى لدى نقابة المحامين كما سبق بيانه) ما بين عامي 1969 (تاريخ إنشائها) و1972 (تاريخ بدء خفوتها).
ففيما بدت السلطة في بداية الأمر حذرة إزاءها، فإنها اقتبلت وجودها دون أي منازعة في مشروعيتها وذلك بدليل تسليمها العلم والخبر من وزارة الداخلية وأيضا السماح لها بإشغال غرفتين في وزارة العدل بموافقة وزير العدل آنذاك عادل عسيران. ولربما مرد ذلك هو اعتماد الحلقة أسلوباً دراسياً شبه أكاديمي. وقد بدا هذا التقبل واضحا أيضا في مشاركة القاضي عبد الباسط غندور، الذي كان عضواً في مجلس القضاء، كعضوٍ مؤسسٍ فعال في الجمعية ومن ثم كأمين عام لها فضلا عن حضور كبار القضاة كرئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس هيئة التفتيش عددا من ندواتها وأنشطتها. لا بل يسجل أن تدخلها بالقرب من السلطات أدى أحيانا إلى تعديل مشاريع بعض القوانين كقانون تنظيم مهنة المحاماة أو إلى اجراء تعديلات قانونية كما هو حال تعديل التنظيم القضائي على نحو يضمن مرونة أكبر في تعديل عدد الغرف والهيئات القضائية.
ويبدو أن نقطة التحوّل حصلت عقب محاضرة طربيه وما تخللها من نقد مباشر بحيث انتقلت السلطة من موقع الحذر المحايد إلى موقع الاستياء القمعي. وقد أكد لنا القضاة[27] الذين قابلناهم أن رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه استدعى رئيس مجلس القضاء الأعلى وأعضاءه سائلاً إياهم عن كيفية حضورهم محاضرة من هذا النوع وتصفيقهم للمحاضر في نهايتها[28]، داعيا إياهم إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة. وهذا ما تسبب بإحالة القاضي طربيه إلى المجلس التأديبي حيث دافع عنه المحامي نصري المعلوف، وانتهى الأمر بصدور حكم تأديبي بتأنيبه، كل ذلك وسط غياب أي تحرّك احتجاجي للقضاة، بحيث اكتفى معظمهم بالإعتراض “همساً”[29].
في مدى مشروعيّة التحرّك:
وبمراجعة خطاب الجمعيّة، بدا أن هذه المشروعيّة ارتكزت على أمور ثلاثة نستعرضها تباعا من حيث أهميّتها:
– العلم والمعرفة في الشؤون القضائيّة: وقد تبدّى الارتكاز على هذا الوجه للمشروعيّة واضحا في مساعي الجمعية إلى تطوير المعرفة في الشؤون القضائية، بمعزل عن مدى نجاحها في ذلك. فنهجها المعرفيّ هو الذي يميّزها عن سواها ويحدوها دوما إلى استشراف السّبل الآيلة إلى تحسين المؤسسة القضائية، ممّا يجيز لها تقديم نفسها على أنها “ضمير القضاء ووجدانه”[30]. وما يعزز ذلك بالطبع هو شخصية الوجوه البارزة فيها، وأبرزهم على الإطلاق نسيب طربيه وعبد الباسط غندور وإيلي بخاش.
– المشروعية التمثيليّة العدديّة: أساس هذه المشروعية هو إنشاء تجمّع دائم وهي تزداد أهمية بقدر ما يزداد عدد المنتسبين إليه. ف “مجرّد قيام الحلقة واستمرارها يعتبر في حدّ ذاته حدثاً ذا شأن في تاريخ القضاء اللبناني” وتجربة راقية في عالم القضاء والعدالة في لبنان، ذات أهمية عظمى[31]. وإذا صحّ أن الجمعيّة لم تقدم نفسها كممثل للقضاة كافة بل ميّزت دائماً بين نفسها وبين الجسم القضائي، فإنها عمدت دوما إلى نشر عدد القضاة المنتسبين إليها (والذي بلغ 90 في سنتها الأولى) أو عدد القضاة الذين شاركوا في ندواتها او أنشطتها، مع الإعلان عن رغبتها في اجتذاب القضاة كافة[32].
– التّجارب الدوليّة: بدا التأثير الخارجي واضحا منذ بدء أعمال الجمعية. فعدا عن أنها طمحت إلى إنشاء مجلة علمية دورية مختصّة في شؤون القضاء على غرار جمعيات قضاة أجنبية، فإنها لم تخف اعتزازها بقبول انتسابها إلى “الاتحاد العالمي لجمعيات القضاة” لتصبح أول جمعية عربية فيه[33]. ويجدر الذكر أن الجمعية تمثلت بالقاضي طربيه في بعض اجتماعات الاتحاد كما حصل في البرازيل سنة 1971[34].
والى ذلك، نلحظ أن الجمعية فرضت عموما احترامها، أقله قبل محاضرة طربيه، بحيث أن السلطة أحجمت عن التشكيك في مشروعيتها بدليل تسليمها العلم والخبر وأيضا وضع غرفتين في مبنى وزارة العدل في تصرفها. وقد بدا مؤسسو الجمعية واعين طبعا لأهمية هذا المكسب حين أشاروا إلى أن تأسيس الجمعية هو مكسب بحد ذاته وفقا لما أشرنا إليه أعلاه. وهذا ما سيجد بأية حال دعامة إضافية في انتساب الجمعية للاتحاد العالمي لجمعيات القضاة.
[1] مجلة الحلقة، العدد 1،ص. 4
[2] مجلة الحلقة، العدد 1، ص 2
[3] مجلة “الحلقة”، العدد 1، ص. 4
[4] مجلة الحلقة، العدد 1، ص 5
[5] مجلة الحلقة، العدد 1، ص 2
[6] الحلقة، العدد 1، ص 2
[7] الحلقة، العدد 1، ص 5
[8] الحلقة، العدد 1، ص 2
[9] عقدت بتاريخ 9/11/1969 في قاعة نقابة محامي بيروت.
[10] ألقاها السيد موسى الصدر في 7/2/1970.
[11] و قد ألقاها القاضي عبد الباسط غندور في 22/5/1971.
[12] الحلقة، العدد 3، ص 18
[13] الحلقة، عدد 3، ص 16
[14] مقابة خاصة مع القاضي حكمت هرموش، وقد كان عضوا في الهيئة الادارية الأولى للجمعية بين 9-5-1969 و22-1-1971.
[15] الحلقة، العدد 1، ص. 10
[16] الحلقة، العدد 1، ص 5
[17] الحلقة، العدد 1، ص 6
[18] الحلقة، عدد 1، ص 10
(19) الحلقة، عدد 1، ص 11
[20] وهي مؤلفة من جميع أعضائها المؤسسين فضلا عن القضاة ريمون بريدي، ديب درويش، ميشال تركية، ميشال مدكور، فرح حداد، حكمة هرموش و ايلي بخاش. علما أنها انتخبت نسيب طربيه أمينا عاما لها و عبد الباسط غندور أميناً مالياً و ايلي بخاش أميناً إدارياً.
[21] و تألفت على أثرها هيئة إدارية جديدة مؤلفة من : عبد الباسط غندور (الأمين العام)، ريمون معلوف (الأمين الإداري)، محمد البابا (الأمين المالي)، نسيب طربيه، ميشال تركيه، جوزيف جريصاتي، ،وليد غمره، أسعد جرمانوس، إيلي بخاش، معين عسيران و جورجيت شدياق.
[22] مثلا خصصت الحلقة عددا كاملا لاستعراض كيفية تاسيس الحلقة واهم أنشطتها.
[23] الحلقة، العدد 1، ص 9
[24] الحلقة، العدد 1، ص 2
[25] مقابلة مع القاضي السابق أسعد هرموش في /8/2007 “يرى القاضي هرموش أنه كان هناك تياران في الحلقة، الأول يدافع عن منهج تصعيدي تصادمي مع السلطة، و الثاني يتبع أسلوب “إقناع” أكثر هدوءاً فلسفته التغيير على الأمد الطويل، إذ أن “الحلقة ليست حركة ثورية” و “لم يكن هناك خصومة مع الدولة”.
[26] فحتّى عندما استعملت عبارات قاسية لرفض التدخل السياسي في عمل القضاء (محاضرة طربيه)، فان هذا الكلام كان موجّهاً بالدرجة الأولى إلى القضاة بما يشبه النقد الذاتيّ
[27] مقابلة منيف حمدان و حكمت هرموش
[28] مقابلة حمدان، عازار و هرموش
[29] مقابلة هرموش.
[30] الحلقة، العدد 1، ص 2
[31] الحلقة، العدد 1، ص 2
[32] الحلقة، العدد 1، ص 2
[33] الحلقة، العدد 1، ص 7
[34] الحلقة، العدد 1، ص