في حلقة حزيران 2015 من برنامج “مذيع العرب” الذي يتسابق فيه أصحاب مواهب عرب ليغنموا فرصة بدء مسيرة مهنية في التلفزيون، أجرت متسابقة مقابلة مع سيدة لبنانية عن تجربتها كضحية للعنف الأسري[1]. ووصفت السيدة في شهادتها المتلفزة التي بثّت على قناة “أبو ظبي” الفضائية تعنيف زوجها لها جسدياً وكيف أثّر ذلك بعمق على ابنها الذي كان شاهداً على ذلك. وفي تقييمه لأداء المتسابقة، قدّم المذيع اللبناني طوني خليفة خطاباً محموماً أدان فيه الجمعيات التي تُعنى بحقوق المرأة وثقافة الإفصاح العلني التي اتهم الجمعيات بتعميمها واستغلالها تجارياً:
أرفض رفضاً قاطعاً تصويرنا كمجتمع ذكوري دائماً وكأننا شعب عربي ليس لدينا عمل إلّا ضرب المرأة وإهانة المرأة والإساءة إلى المرأة. المرأة هي أمّنا، أختنا، إبنتنا. ما أعترض عليه في هذا الموضوع هو استغلال معاناة المرأة – وهنا أتوجّه إلى جمعيات المجتمع المدني – بهدف بناء مؤسسات تجارية تستغل هذه المعاناة، فتذهب إلى الخارج لجمع الأموال من خلال كل فيلم تعرض فيه معاناة المرأة (وسط تشجيع وتصفيق الجمهور).
مدام، الإهانة لإبنك والمأساة لإبنك هو أن يسمع حديثك اليوم على مرأى من ملايين المشاهدين، وليس من اعتداء زوجك عليك أمامه (يقف ويكمل حديثه وقوفاً). ابنك اليوم حين يسمعك تتحدثين أمام الملايين تخبرين كيف كان والده يضربك أمامه، هذه إهانة له، وليس حين ضربك والده أمامه (يعلو التشجيع والتصفيق مجدداً).
تعرّي هذه المداخلة على قناة تلفزيونية عربية الهواجس الأخلاقية والاعتراضات التي يثيرها الخطاب العام حول العنف الأسري. فأولاً، انتقد خليفة الاستغلال التجاري لحقوق المرأة، وهو موضوع خلافي ضمن نقاش اجتماعي أوسع حول اتخاذ الحركات الاجتماعية طابع المنظمات غير الحكومية. ثانياً، أدان خليفة التصوير السائد للمجتمعات العربية على أنها مجتمعات ذكورية بطبيعتها والنساء العربيات على أنهنّ ضحايا هذه الثقافات. ولكن كيف يمكن لرجل مثل خليفة، بنى كامل مسيرته في التلفزيون على برامج حوارية تقوم على الإثارة والفضيحة، أن يتّهم امرأة بالمبالغة في مشاركة أمورها الشخصية؟
وفي تعليقه الاتهامي، يشير خليفة إلى الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تنتج وتعمّم خطاب العنف ضد المرأة. فعلى مدار عقد من الزمن، أنتجت هذه الجمعيات مواد إعلامية وتوعوية انتشرت على منصات إعلامية مختلفة في إطار حملاتها لتحقيق إصلاحات قانونية لحماية المرأة وضمان حقوقها. وقد استخدمت هذه المنظمات قصصاً وشهادات شخصية لجذب انتباه الجمهور وإثارة تعاطفه وتوعيته على مشاكل اجتماعية مثل العنف الأسري والاستغلال الجنسي. وهذا ما يعارضه خليفة بشكل قاطع: الكشف العلني عبر الإعلام عن المعاناة الشخصية والخاصة للمرأة.
قد لا يكون لدينا الدلائل الكافية لتقييم ما إذا كانت الإصلاحات القانونية والحملات التوعوية تحسّن حياة النساء في لبنان، ولكن الأكيد أن هنالك لغة جديدة ذات طابع حقوقي بشكل أساسي قد طُوّرت وعُمّمت على مدار العقد الماضي للمطالبة بالعدالة للنساء. أما المراقب الأكثر تهكماً أو تشاؤماً، مثل خليفة، فسيعتبر ذلك دليلاً على تسليع معاناة المرأة. وهنا يجدر السؤال: هل تعكس هذه التحوّلات في خطاب النساء تغيّرات في السلطة الأبوية بشقّيها الخاص والعام؟
الخاص والعام
تكمن أهمية الخطاب النِسوي هذا، في مضمونه وشكله، في تحدّيه الحدود بين “الخاص” و”العام”، التي تكرّس التمييز في النظام المدني اللبناني وتشرّع مكانة المرأة الهامشية فيه. هذا النموذج من التنظيم الاجتماعي يفترض مجالين منفصلين: المجال المنزلي/العائلي المؤنث من جهة، والمجال العام للسياسة من جهة أخرى. في لبنان، كما أظهرت أستاذة العلوم الاجتماعية سعاد جوزيف[2]، إن الخط الفاصل بين الخاص والعام هو أيضاً ما يفصل بين قانون الدولة المدني والقانون الديني. فوجود نظام قانوني ثنائي – مدني/علماني وخاص/ديني – يضمن تنظيم الحياة الاجتماعية في مجالين منفصلين. ويعود هذا الفصل بين الخاص والعام إلى الفترة الاستعمارية لتأسيس الدولة اللبنانية. ولهذا الترتيب القانوني والاجتماعي تداعيات واسعة النطاق على طبيعة المواطَنة اللبنانية. فعبر تنظيم الحياة الخاصة للمواطنين حسب انتمائهم الديني، تعيد الدولة إنتاج الطائفية من خلال العائلة اللبنانية.
هذا أحد أشكال ترسيخ الانقسام والفصل بين الحياة الخاصة والعامة. فهنالك أيضاً آليات أخلاقية تفرض هذا الفصل، وأهمّها مراقبة وتأديب الكلام والتواصل والتعبير في العلن. فلا يجب نشر الغسيل في العلن: الكلام عن بعض الأفعال والممارسات الخاصة غير محبّذ، قد يخدش الحياء ويخلّ بالأخلاق العامة، قد يشكّل “جرصة” للبعض، أو فضيحة تلطّخ سمعة العائلة. كما يذكّرنا خليفة، من المعيب التحدث عن العنف المنزلي. فهو يؤذي سمعة الشخص كما أنه يهين قدسية العائلة. وبالتالي، تملي الأعراف والقوانين التي تحكم الخطاب العام ما يجب أن يبقى مكبوتاً في المساحة الخاصة، خارج نطاق التداول العام. بحسب هذا المنطق، العنف المنزلي هو “فضيحة”، لا مسألة تخص الشأن العام أو المصلحة الجماعية، ولا هو هاجس مشترك. فتصبح المحافظة على هذه الأعراف واجباً أخلاقياً لمنع تآكل الحياء وانهيار النظام الأخلاقي.
وفي هذا السياق بالذات، تكتسب شهادات النساء عن تجاربهنّ الشخصية مع الأزواج المعنّفين والانتقاميين والمهملين، معنى اجتماعياً. فقصصهنّ ليست فقط وقوداً للأحكام القانونية حول العنف ضد النساء، بل إنها متوفرة لمن يريد الإصغاء. فبالنسبة إلى كثيرين، هذه الشهادات تشكّل دليلاً ضرورياً ومشروعاً لاستغلال الرجال للسلطة لاسيّما في المجال الأسري. ولأنها تلمس جوهر الفصل بين الخاص والعام، وبالتالي تهدّد النظام الأخلاقي، قد يشعر أشخاص من أمثال خليفة بالهلع من انتشارها. فهذه الشهادات، حتى لو لم تؤدِ إلى أية إصلاحات قانونية، تتحدّى أسس النظام بمجرّد وجودها.
الأمومة ليست جريمة
تبقى الأمهات أسيرات السوط الأبوي وأحكام القوانين الدينية التي تحكم الحضانة. في لبنان، يطبّق 15 قانوناً للأحوال الشخصية على مختلف المذاهب الدينية. وبالتالي تختلف حقوق الأم في الحضانة من مذهب إلى آخر. ففي المذهب الشيعي، للوالد الحق في حضانة الأولاد بعد عمر السنتين (بعد أن تفطمه أمّه) وبعد عمر السنوات السبع للبنات. وفي السنوات القليلة الأخيرة، نجحت قصص أمهات خسرن حضانة أطفالهنّ بسبب قرارات للمحاكم الجعفرية في جذب اهتمام الرأي العام. ففي تشرين الثاني 2016، أوقفت فاطمة حمزة لمدة يومين لدى مخفر الغبيري لرفضها تسليم ابنها إلى والده بناء على قرار المحكمة التي حكمت بمنحه الحضانة. وأثارت قضية فاطمة سلسلة من التظاهرات أمام المجلس الشيعي الأعلى وتم تعميمها عبر حملة على الإنترنت حملت وسم #مع_فاطمة_ضد_المحكمة_الجعفرية. وفي أيار 2017، أوقفت ريتا شبلي في السجن لرفضها التخلّي عن أطفالها بعد أن منحت المحكمة حضانتهم لأهل زوجها المتوفّي. وفي حزيران 2018، نشرت ميساء منصور فيديو مصوّراً بالهاتف يظهر القوى الأمنية تقتحم شقتها في رأس النبع برفقة طليقها، وتأخذ عنوةً ابنها الباكي الذي كان يرفض الرحيل مع والده. في تشرين الثاني من العام نفسه، حكم على ريتا شقير بالسجن لرفضها تسليم ابنها الذي رفض تركها والذهاب مع والده. وقررت شقير أن تعمّم قضيتها في الإعلام من خلال إطلاق وسم #الأمومة_مش_جريمة انتشر بسرعة كبيرة على تويتر وفيسبوك. وشكّلت الحملة الإلكترونية نقطة تحوّل إذ حازت على تغطية إعلامية مكثفة حيث عبّر الناس عن تضامنهم مع الأمهات وانتقدوا القوانين التي تفصلهنّ بالقوّة عن أطفالهنّ. وبعد أسبوع، اقتحمت فرقة من قوى الأمن الداخلي منزل المحامية فاطمة زعرور وانتزعت ابنها البالغ من العمر عامين ونصف العام من حضانتها تنفيذاً لحكم قضائي. وفي أيار 2019، أوقفت خديجة نايف في مخفر الغبيري لرفضها تسليم وثائق سفر بناتها الثلاث لمنع طليقها من السفر بعيداً معهنّ. وكان الطليق أخذ البنات منها قبل بضعة أشهر، ومنعها من رؤيتهنّ. لذلك كان الاحتفاظ بجوازات سفرهنّ السبيل الوحيد لممارسة ضغط عليه للسماح لها برؤيتهنّ. وفي حزيران من العام الجاري أيضاً، وبعد أن منحتها محكمة عراقية حضانة أطفالها الثلاثة (طليقها مواطن عراقي)، خسرت هناء عواضة حضانتهم في لبنان بعد قرار مناقض من المحكمة الجعفرية. وفي الشهر التالي، توجّهت غدير الموسوي إلى مخفر الدامور مع طليقها إثر نزاع بينهما على الأوتوستراد على حضانة أطفالهما. وتمّ تسريب فيديو صوّر في سيارة الموسوي بُعيد ذلك يظهر زوجها السابق يطاردها ومن ثم يحاول اقتحام سيارتها من أجل أخذ طفليها.
يرى البعض أن النساء اليوم أقل تردداً في الحديث بشكل علني عن معاناتهنّ الشخصية مع العنف الأسري والتحرّش الجنسي والطلاق والحضانة. فهنّ يستخدمن الإعلام بطرق عديدة لتوثيق الانتهاكات لعرض وجهة نظرهنّ من القصة وحشد التأييد العام. وبذلك، يبتكرن أشكالاً مختلفة من التدخّل في الفضاء العام. بعض القصص تنجح في تحريك مشاعر الجمهور وإقناع الناس بالتعبير عن تضامنهم مع ضحية الظلم، وحتى في حثّهم على التعبير عن غضب جماعي تجاه القوانين المجحفة. إنّ قرار النساء هذا بالبوح ليس فقط تعبيراً عن إرادتهنّ لتحصيل حقهنّ بأيديهنّ، بل هو نابع أيضاً عن إحساس بواجب أخلاقي لفضح الظلم. من هنا، ولنفهم لماذا أصبحت الحضانة قضية رأي عام اليوم، علينا أن نفكّر في الهيكلية التكنولوجية والإعلامية التي مكّنت النساء من التكلّم في العلن. فلا يمكن فهم الواجب الأخلاقي للبوح بمعزل عن المشهد التكنولوجي الأوسع والوضع الاجتماعي السياسي الذي يعطي هذا الخطاب شكله ومعناه.
ومن المثير للاهتمام تبنّي الأمومة كموقع لمخاطبة الآخر: فشقير وزعرور والموسوي يتوجّهن إلى الجمهور كأمهات. وما يوحّد هؤلاء النساء – ما يجعل محنتهنّ جماعية، هو إدانتهنّ المشتركة لقوانين الأحوال الشخصية، ليس كنسويّات أو كمدافعات عن حقوق النساء، بل كأمهات. وفي بعض الحالات، ساعدت شهرة الأشخاص المعنيين في تسليط الضوء على قوانين الحضانة بشكل عام. ففي قضيتي زعرور والموسوي مثلاً، لاقى تورط الآباء – وهم شخصيات سياسية رفيعة المستوى – اهتماماً إعلامياً واسعاً.
الشهادة الشخصية والدليل البصري
حين سُرّب فيديو المطاردة بين غدير الموسوي وطليقها إلى الجمهور، فضح ما كان سيبقى حكماً خفياً على المشاهد. فغدير هي ابنة العضو في حزب الله والنائب السابق عن الجنوب نواف الموسوي. كانت تخوض معركة حضانة مريرة مع زوجها السابق الذي حاول في تلك الليلة اعتراض سيارتها أثناء قيادتها مع طفليها وشقيقتها على الأوتوستراد الساحلي بين بيروت وصيدا.
صوّرت شقيقة غدير المطاردة بهاتفها، ملتقطة حالة الخوف والهلع داخل سيارة أختها ومحاولة الزوج اقتحامها. الصورة التي شاهدناها وثّقت ما رأته شاهدة عيان. فمن موقع الأخت، نرى طليق غدير وهو يغادر سيارته في منتصف الأوتوستراد ويمشي باتجاه سيارة زوجته السابقة. تنخفض الكاميرا عند وصوله إلى شباكها وهنا تهتزّ الصورة كثيراً قبل أن تصبح سوداء بالكامل. ونسمعه يهدد “عم تصوّري؟ عم تصوّري!” وهنا تفضح الصورة، بمشاهدها الظاهرة والمخفية، عنف الزوج عبر عدسة هاتف بين يدي الشقيقة المرتجفتين. وهنا بإمكاننا أن نسأل: لماذا كانت تصوّر؟
أصبحنا جميعاً على اطلاع على هذه اللحظات الخاصة بين الزوجين السابقين: معركة على الأوتوستراد انتهت بمرافقة دورية للشرطة لهما إلى أقرب مخفر. قبل نشر الفيديو، كنا قد علمنا بقصة غدير من خلال تسريب الإعلام لمذكّرة من المخفر ذكرت أنّ والدها حاول اقتحام المخفر مع عشرين رجلاً مسلحاً لمهاجمة صهره السابق. وبعد فترة وجيزة، تم تسريب فيديو المطاردة للجمهور. على تويتر، استخدم البعض القصة كفرصة لإدانة وتشويه سمعة حزب الله، وتصوير الموسوي على أنّه “بلطجي”. غير أن الغالبية أعربت عن تضامنها مع الموسوي، مشيدة بدفاعه الصّارم عن ابنته. وسرعان ما أصبح وسم #متضامن_مع_نواف_الموسوي الأكثر انتشاراً في لبنان مكرّساً بذلك الموسوي رجلاً مثالياً. نتيجة لذلك، قد تكون صورة الأب الحامي قد غطّت على صورة الأم المظلومة. فقد رأى كثيرون في هذه القصة درساً أخلاقياً في رعاية الأب التي شكّلت تصرّفات الموسوي مثالاً لها. واستخدمها آخرون لطرح مسألة الامتيازات الذكورية والدعوة إلى إصلاحات قانونية. بالطبع، جذبت قصة غدير انتباه الجمهور على نطاق واسع بسبب والدها، الشخصية البارزة والمثيرة للجدل. ولكن المعنى الأوسع لما رأيناه على الشاشة وقرأناه في التعليقات في وسائل الإعلام كان قد تجلّى لنا في قضايا سابقة شبيهة.
حين انتشرت قضية غدير ووصلت إلى الرأي العام، كان الناس قد سبق لهم أن رأوا وسمعوا قصص نساء واجهن أحكاماً بالسجن لرفضهنّ التخلّي عن أطفالهنّ. وبالتالي كانت قصتها واحدة من هذه القصص. فغدير كانت تخوض معركة طويلة مع زوجها السابق حسن المقداد الذي جرّدها من حضانة طفليها عبر حكم من المحكمة الجعفرية. ولكن قضيتها ازدادت تعقيداً حين انتشر خبر بأن والد طليقها هو مدير مكتب الوكيل الشرعي لآية الله خامنئي في لبنان. إذاً لم تكن غدير تواجه المحكمة الجعفرية فحسب، بل كانت معركتها مع حلفاء عشائريين وجيوسياسيين أيضاً، حلفاء لا يمكن لحزب الله أن يزعزع علاقته بهم. وكما حصل في حالات أخرى لنساء شيعيات، تمّ تبنّي قصّتها ونشرها من قبل الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية.
نظمت هذه الحملة التي أسستها زينة إبراهيم عام 2013، حين كانت هي نفسها تخوض معركة حضانة، عدداً من التظاهرات أمام المجلس الشيعي الأعلى للمطالبة بحق الأمهات في الحضانة والدعوة إلى رفع سن الحضانة من عامين إلى 7 أعوام للصبيان ومن 7 إلى 9 للبنات. وفي ظهور تلفزيوني عام 2018 في برنامج حواري محلّي[3]، أكدت إبراهيم أن “الكثير من النساء يجرؤن على الكلام، الكثير من النساء استطعن تحصيل حقوقهنّ ربما لأن الإعلام يقف معهنّ، وهن يضغطن إعلامياً ويتحدثن في العلن. ولكن هناك مئات ومئات من النساء اللواتي يجلسن في بيوتهنّ بصمت ولا أحد يصغي إليهنّ”.
فبالنسبة إلى إبراهيم، لا تمثل القضايا القليلة التي يغطّيها الإعلام النطاق الأوسع للظلم اللاحق بالنساء. ولكنّ القلائل اللواتي يتحدثن يحملن قضية من لا يسعهن ذلك.
فمثلاً، في تشرين الثاني 2018، انتشر على منصات الإعلام الاجتماعي فيديو يُظهر عناصر مسلّحة من القوى الأمنية يقتحمون منزل المحامية فاطمة زعرور لانتزاع رضيعها. يُظهر الفيديو، الذي التقط بكاميرا هاتف، رجالاً بزي عسكري يشقون طريقهم في ممر طويل ويدفعون سيّدتين تعترضان طريقهم ليصلوا أخيراً إلى غرفة يُسمع فيها صوت طفل يصرخ طالباً والدته. ثم نراهم يحملونه بعيداً خارج الشقة وعلى الدرج.
الفيديو صادم. انتشر سريعاً ومعه انتشر خبر مفاده أن والد الصبي – زوج زعرور السابق – ليس سوى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. وبُعيد تسريب الفيديو الأول، بمساعدة زينة إبراهيم، نشرت زعرور فيديو آخر من تسع دقائق تتوجّه فيه إلى الجمهور، صرحت فيه: “أنا لا أحب السوشيل ميديا، ولا أستعملها. وسبق أن تعرّضت لضغوطات ولم أتكلّم (…) الفكرة التي أريد إيصالها اليوم هي أنّ ابني ليس معي ولا أعرف أي شيء عنه”.
التفاوض مع السلطة
أرادت زعرور الضغط على زوجها من خلال مخاطبة الجمهور. وقد نشر الفيديو الذي سجّلته على صفحة “الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية” على فيسبوك. وتتميّز صفحة الحملة التي تحظى بـ22 ألف متابع بنشاطها وتفاعل متابعيها معها، تجمع الروايات والتقارير الإعلامية المتعلّقة بقضايا الحضانة كما تنتج محتوى خاصاً بها.
فإبراهيم تشدد على النطاق المحدود لحملتها التي تستهدف بشكل خاص المحكمة الجعفرية، لأن النساء الشيعيات يعانين أكثر من غيرهنّ بسبب قوانين مذهبهنّ القاسية. الحملة ليست ضد قوانين الأحوال الشخصية الدينية بشكل مطلق، بل هي مع إصلاحات محددة يمكن تطبيقها استراتيجياً داخل الطائفة الشيعية. فمن خلال مفاوضته مع السلطات الدينية، لا يشكك خطاب الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية في الولاية الدينية على قوانين الأحوال الشخصية. عوضاً عن ذلك يدعو إلى الإصلاح من الداخل، ويحصر مطالبه برفع سن الحضانة ويحدّ نطاق ضغوطه بالجهات التشريعية والقضائية داخل الطائفة الشيعية. الحملة إذاً تتحدث باسم النساء الشيعيات: #حضانتي_ضد_المحكمة_الجعفرية. وفي هذا السياق، سيكون من المفيد مقارنة خطاب الحملة بخطاب صفحة “ثورة إمرأة شيعية” على فيسبوك التي تدعو أيضاً إلى إصلاحات قانونية تستهدف المرأة الشيعية. إذاً، التركيز على السلطات التشريعية والقضائية الشيعية بشكل حصري يشكّل نوعاً من التفاوض مع السلطة من دون التشكيك بشرعيتها. وقد يلعب ذلك في صالح الحملة لأن نهجها الإصلاحي يستقطب جمهوراً أوسع من دون أن يتطلب منه موقفاً ضد السلطة الطائفية.
بالإضافة إلى استخدام الإطار الطائفي في الخطاب حول الحضانة كوسيلة ضغط، تستخدم النساء الأمومة كموقع بلاغي ضاغط. من خلال انتشارها على وسائل التواصل الإجتماعي، تعطي أصوات الأمهات بعداً جماعياً لتجارب شخصية وخاصة، ومنحى عاطفياً للمطالبة بالعدالة. فغالباً ما تختار هؤلاء النساء مخاطبة الأمهات الأخريات. إذاً، من خلال التمسّك بدورها الإنجابي كامرأة، تستطيع الأم أن تتكّلم، مسيّسةً بذلك هويتها وقضيتها. وهذا ما قد يفسّر أيضاً الدعم الواسع الذي تلقّته هؤلاء الأمهات. فمطالبهنّ لا تتحدّى الأدوار الجندرية النمطية، لا بل تحافظ على الفصل الجندري في الأدوار حيث النساء مسؤولات عن إنجاب الأطفال وتربيتهم والاعتناء بهم. لذلك، لا يهدّد خطاب الأمهات القيم والمعتقدات السائدة، بل ينطلق منها. إذاً لا تتوجّه هؤلاء النساء بصفتهن نسويّات إلى الدولة والمحاكم الدينية والرأي العام. مع ذلك، مطالبهنّ تشكّل تحدياً للنظام القانوني الأبوي من خلال تعريتهنّ لظلمه.
هذا النهج، القائم على العمل من خلال الأعراف الاجتماعية والقانونية السائدة وضدّها في آن معاً، يشكّل تحدياً للخطاب النسوي الذي ينتقد ويدعو إلى تفكيك الأنماط والأدوار الجندرية. فعلى المستوى الخطابي، يُثبت هذا النهج وجود خطابات أخرى تعتمدها النساء لطرح مطالبهن سياسياً. أما على المستوى الأيديولوجي، فهو يَكشف المنطق النمطي – حيث تتبنّى النساء دورهنّ الإنجابي – الذي قد يحكم مطالب النساء الاعتراضية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأمومة قد أثيرت في معارك قانونية أخرى مثل حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي”. فبصفتهنّ أمهات، تطالب النساء بحقهنّ في المساواة في منح الجنسية.
في الخلاصة، فإن ما تتحدّاه النساء بخطابهنّ العلني هو تحديداً هذا التوزيع للسلطتين المدنية والدينية. فخطاب النساء عن الحضانة والردود عليه، يحوّل القضايا الخاصة إلى قضايا عامة، جاعلاً منها موضوعاً للنقاش والتشريع. من خلال خروجهنّ إلى العلن، والتشديد على أن الأمومة ليست جريمة بل هي حقّ، تعلّمنا الأمهات عن تكويننا السياسي عند تقاطع العائلة والدولة، والأبويّة والطائفية.
*ترجمة لمياء الساحلي
- نشر هذا المقال في العدد | 63 | آذار 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
أربع جبهات للنساء ضدّ التمييز والعنف
[2] Suad Joseph (1997), “The Public/Private: The Imagined Boundary in the Nation/State/Community: the Lebanese Case,” Feminist Review (57), pp.73-92.