بعد حدوث الأزمة السياسية في ليبيا سنة 2014، وتبعاً لعدد من الجولات الحوارية، توصّل أطراف النزاع السياسي وأحزاب ومستقلون لصيغة إتفاق سياسي نهائي بتاريخ 16. 12. 2015. وكانت الأزمة قد أدت إلى عودة المؤتمر الوطني العام رغم انتهاء ولايته في طرابلس، بالتزامن مع بداية ولاية مجلس النواب المنتخب المنعقد في طبرق؛ كما أدت إلى تأزم الحالة السياسية في البلاد. وفي إثر ذلك، قادت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا حواراً دام لسنة ونصف السنة بين أطراف ليبية عدة. وعقدت جولات هذا الحوار بين غدامس الليبية وجنيف والجزائر وتونس والصخيرات المغربية. وانتهت هذه الجولات إلى الاتفاق المعروف باتفاق الصخيرات، الذي أدى إلى تشكيل مجلس رئاسة مجلس الوزراء مكوّن من رئيس وخمسة نواب للرئيس وثلاثة وزراء دولة. وقد جاء التعيين والأسماء في صلب الإتفاق السياسي وتحديدا في الملحق رقم 1 تحت عنوان "أسماء المرشحين لعضوية مجلس رئاسة الوزراء".
بقراءة الإتفاق السياسي وبالتمعن في نصوصه[1]، يتضح جليا أن عدة ألفاظ قد استخدمت في مسألة اجرائية تتعلق بالتوقيع عليه ودخوله حيز التنفيذ، وهي مسائل هامة يقتضي تناولها بالتفصيل:
1. الإجراءات واجبة الاتباع لدخول الاتفاق حيز التنفيذ (المادة 12):
تنص المادة (12) من الاحكام الاضافية على أنه "تستمد كافة المؤسسات المنصوص علیھا في الاتفاق السیاسي اللیبي شرعیتھا من الإعلان الدستوري وتعدیله الملحق بھذا الاتفاق، بعد إقراره واعتماده كاملاً وتوقیعه ودخوله حیز التنفیذ…".
وهذا الأمر يعني أن الإتفاق السياسي يمرّ بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: إقرار الإتفاق وإعتماده كاملاً،
المرحلة الثانية: التوقيع عليه،
المرحلة الثالثة: دخوله حيز النفاذ.
ورغم أن المرحلة الأولى وما شملتها من ألفاظ لا تعني في الحقيقة شيئا استنادا إلى القانون. إلا أن المرحلة الثانية وهي التوقيع تشكل فعلا وإرادة تُنتج أثرا قانونيا. والمرحلة الثالثة هي مرحلة إجرائية تجعل من الاتفاق ناجزاً وجزءاً لا يتجزأ من المنظومة القانونية الوطنية. فلا يكفي لإبرام العقود وجود إرادة، بل يلزم أن تتخذ هذه الإرادة شكلا أو مسلكا يعبر عمّن صدرت عنه وفقا للقانون.
كما وأن نصوصاً أُخرى في الإتفاق السياسيّ فرّقت ما بين عملية التّوقيع وعملية الدّخول حيّز التنفيذ. فعلى سبيل المثال نصت المادة 14 على ”بدخول الاتفاق حيز التنفيذ، فإن كافة القرارات والقوانين التي تتعارض مع بنود هذا الاتفاق بملاحقه، والتي تم اعتمادها في الفترة ما بين 4. أغسطس 2014 ودخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ، تعتبر لاغية ويجب التعامل معها وفقا للآليات التي يبينها الاتفاق وعلى وجه يراعي المصلحة الوطنية ومصالح الدولة الليبية والتزاماتها وروح التوافق التي سادت الحوار“.
2. التزامات تترتب على إجراء التوقيع فحسب:
ورغم أن المادة 12 من الأحكام الختامية قد بينت مراحل دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وهي بالتالي اشترطت دخوله حيز التنفيذ بعد التوقيع عليه، إلا أن الاتفاق لم يتطلب في بعض المواد ولم يشترط لترتب التزامات ناشئة عنها سوى إجراء التوقيع.
فنصت المادة 38 من الأحكام الختامية على أن ”يدخل اتفاق وقف اطلاق النار الشامل والدائم حيز التنفيذ في جميع أنحاء ليبيا ابتداء من تاريخ توقيع هذا الاتفاق“.
كما نصت المادة 8 من الأحكام الإضافية على ما يلي " تنتقل كافة صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية والأمنية العليا المنصوص عليها في القوانين والتشريعات الليبية النافذة إلى مجلس رئاسة الوزراء فور توقيع هذا الاتفاق ويتعين قيام المجلس بإتخاذ قرار بشأن شاغلي هذه المناصب خلال مدة لا تتجاوز عشرين (20) يوما وفي حال عدم اتخاذ قرار خلال هذه المدة، يقوم المجلس باتخاذ قرارات بتعيينات جديدة خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما، مع مراعاة التشريعات النافذة".
ورغم أن الاتفاق السياسي نص على تصرفين قانونيين لإعتباره نافذا، ألا وهو توقيع أطرافه (وهو ما كان يوم 16 . 12. 2015)، ثم دخوله حيز التنفيذ (وهو ما لم يحدث بعد)، إلا أنه جاء في نصوص أخرى ورتب التزامات بمجرد التوقيع عليه وفرق بين هذه الالتزامات التي تنشأ عن التوقيع وبقية الالتزامات التي تنشأ عن دخول الاتفاق حيز التنفيذ.
والمسألتان المبينتان أعلاه، سواء من حيث المبنى اللفظي والتفرقة بين لفظي "التوقيع" و"الدخول حيز التنفيذ" أو من حيث التفرقة في ترتب الالتزامات الناشئة عن الإجرائين "التوقيع" و"الدخول حيز التنفيذ"، إنما تؤكدان على أنّ الاتفاق السياسي لا يدخل حيز التنفيذ بمجرد توقيعه، بل هو بحاجة إلى إجراء آخر لكي يصبح نافذا.
ولا يقدح في هذا نص المادة 67 من الاتفاق السياسي والتي تنص على "يدخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ فور قيام أطراف الحوار السياسي بإقراره واعتماده كاملا وتوقيعه"، والأصح أن يسبق الإقرار والإعتماد التوقيع وليس العكس، وفي كل الأحوال فإن دخوله حيز التنفيذ يظل من وجهة نظرنا ما بين أطرافه ولا يتعداه لغيره، خاصة وأن المادة 65 من الاتفاق تستوجب تعديل الإعلان الدستوري " وفقا للإجراءات المقررة قانونا" وهو ما يعني الإجراءات الوطنية الداخلية الواجبة الإتباع.
ملاحظات
إن هذا في حقيقة الأمر يبين القصور الكبير الذي وقع فيه الاتفاق السياسي، بأن فرق بين الالتزامات الناشئة عنه، فبعضها يترتب بمجرد التوقيع والآخر بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ.لكن، المعضلة الحقيقية في هذا الاتفاق هي أن المادة 12 نصت صراحة على دخول الإتفاق حيز التنفيذ وأنه يكون بناء على إجراء لاحق على التوقيع عليه.
والبين أن الاتفاق السياسي لم يولِ اهتماما كافيا للمسائل الإجرائية، ووضع نصب عينيه المسائل الموضوعية التي قامت على مطالب أطراف الاتفاق السياسي. كما يبدو لنا، ولأن المسائل الإجرائية تتعلق بالشأن الوطني بشكل محضألا وهو أن دخول الاتفاق حيز التنفيذ إنما يتمّ وفقا للقانون الوطني، فإن هذه المسألة لم تأخذ عناية كافية من الجهة راعية الاتفاق (بعثة الامم المتحدة للدعم في ليبيا).
لقد كان من المفروض أن يولى هذا الإجراء الذي يشكل الميلاد القانوني للاتفاق السياسي ونقطة انطلاق سريانه على الكافة أولوية وعناية خاصة، وأن تتناغم مواد الاتفاق ولا تسبق بعض المواد أخرى من حيث التنفيذ وترتب بعضها إلتزامات ناشئة عن توقيع الاتفاق وأخرى بعد دخوله حيز التنفيذ (رغم امكانية ذلك قانونا استنادا إلى نظرية العقود المدنية، وإن كان هذا الاتفاق ذات طبيعة خاصة)، فالتوقيع على الاتفاق السياسي إنما يرتب التزاما بين أطرافه ولا يتعداه للغير. كما وأن الاتفاق السياسي لا يسري على كامل الدولة والأشخاص المقيمين على أرضها إلا بدخوله حيز التنفيذ.
ودون خوض في تقديم الحلول بالخصوص والتي تحتاج إلى مقال آخر، فإننا هنا نتوقف عند إبراز هذه الملاحظة الإجرائية.
[1] كتب هذا المقال دونما إشارة للتعديل الدستوري للإعلان الدستوري الذي تبناه مجلس النواب في جلسته الأخيرة بتاريخ 25. 1. 2016، لعدم نشره أو الحصول على نسخة معتمدة له. والذي يحتاج في حد ذاته إلى تحليل ودراسة ومعرفة مادار في الجلسة وعدد الأصوات التي نالها التعديل هذا.