منذ عدّة أسابيع أصدر وزير الداخلية والبلديات اللبناني، قراراً قضى بإغلاق شركتي غاز في محلّة الجناح، وذلك من ضمن الإجراءات التي تتخذها السلطات اللبنانية لتأمين الإستقرار الأمني بعد موجة التفجيرات التي شهدها لبنان، وبالإستناد إلى ما تناهى لهذه السلطات من اعترافات بعض الموقوفين في قضايا هذه التفجيرات، ومن معلومات أشارت جميعها إلى تخطيط الإرهاب لاستهداف شركتي الغاز المنوّه عنهما.
وقد أثار هذا القرار،امتعاض واستياء أصحاب هاتين الشركتين كما والعاملين فيهما،على اعتبار أنه من شأن هذا الإجراء أن يقطع عليهم لقمة عيشهم ودخلهم، وقد أدى ذلك إلى موجة من السخط لديهم تجلّت على شكل مظاهرات واعتصامات، خاصّة بعد المشادة الكلامية التي حصلت بين وزير الداخلية وأحد مالكي الشركتين، وقد صرّح وزير الداخلية بشأن التدبير المتخذ فوجد أن القرار مشروع ومبرّر "لأن المصلحة العامة تعلو على مصلحة الأفراد".
ومن هنا أثير التساؤل: هل أن المصلحة العامة تفرض على أحد أفراد المجتمع أن يتحمّل منفرداً ثقل حماية المجتمع ككل؟ وهل من الواجب على هذا الفرد أن يتحمل تدابير بهذه القساوة دونما تعويض عما قد يخسره من جرّائها؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال المقالة الراهنة على ضوء القواعد التي ترعى مسؤولية الدولة في الميدان الإداري.
ومن هذا المنطلق، فمن المسلّم به أن الأصل العام لمسؤولية الإدارة بالتعويض، إنما تقوم على أساس الخطأ أي الخطأ المنسوب إلى المرفق العام والمرتبط به الذي كان سبباً أو مصدراً لضرر الآخرين ويدخل في هذا الإطار الضرر الناجم عن القرارات الإدارية غير المشروعة([1]).
لكن الإجتهاد الإداري قد سلّم بأنه في بعض الحالات يمكن أن تقوم المسؤولية الإدارية من غير خطأ الإدارة، وهذه المسؤولية ما هي إلا تعبير عن عقد اجتماعي تتعهد من خلاله الدولة بتغطية الأضرار التي تقع في سبيل المنفعة العامة، ما يعني أن هذه المسؤولية قائمة على فكرة التضامن الإجتماعي والتي تستند في أحد أوجهها على أساس المخاطر وفي وجهها الآخر على مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة([2]).
وعليه، فإذا كان من غير الممكن من حيث المبدأ، الحديث عن مسؤولية الدولة- وزارة الداخلية،على أساس الخطأ، بشأن قرارها بإقفال شركتي الغاز،على اعتبار أن ما أملى هذا القرار هو الإضطرابات الأمنية التي عصفت بالوطن والتي ربما تجاوزت قدرة وإمكانيات القوى الأمنية والعسكرية، فضلاً عن اعترافات بعض الموقوفين في قضايا التفجيرات الذين أدلوا في التحقيق معهم بأنهم قد خططوا لاستهداف هاتين الشركتين، ما من شانه أن يجد تبريراً للقرار المنوه عنه بالنظر لدوره في حماية السلامة العامة وسلامة المارّة والقاطنين قرب هاتين الشركتين.
بيد أن التبرير الذي ينطوي عليه هذا القرار،لا يمكن أن يعفي الإدارة من موجب التعويض في حال سبب القرار المنوّه عنه أية أضرار، إذ أن التعويض عن الأضرار التي تسببها الأعمال الإدارية المشروعة يبقى مستنداً إلى مسؤولية الإدارة بدون خطأ وتحديداً المسؤولية المبنية على انعدام المساواة بين المواطنين أمام الأعباء العامة.
فمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة يؤلف بحد ذاته قاعدة قانونية، وهو واجب التطبيق حتى في غياب النص،إذ اعتبرت قاعدة المساواة أمام الأعباء العامة مبدأ ذات جذور دستورية باعتباره جزءاً لا يتجزأ من مبدأ المساواة أمام القانون. وهذا المبدأ يلعب دوراً أساسياً في إطار مسؤولية الإدارة بدون خطأ، فهو يشكل الأساس الحقيقي لمسؤولية أشخاص القانون العام، خصوصاً عندما يفرض على بعض الأفراد في سبيل المصلحة العامة أعباء باهظة أو غير عادية، وهذا ما يؤدي إلى انعدام المساواة بين أفراد المجتمع الواحد. ومن هنا كانت أهمية هذا المبدأ عن طريق دفع تعويض مناسب لأولئك الذين يتحملون الأعباء لوحدهم، مما يساهم في إعادة تحقيق المساواة من جديد، إذ أن الأضرار قد جاءت كنتيجة طبيعية وحتمية لبعض الأوضاع والتدابير التي تتخذها السلطة العامة تأميناً للمصلحة العامة، فينجم عن ذلك أعباء وتضحيات قد تثقل كواهلهم وتفوق إمكانياتهم وقدراتهم،وبالتالي فإنه لقيام هذه المسؤولية يجب أن يكون الضرر خاصاًspécial وغير اعتيادي anormal([3]).
وقد شدد الإجتهاد على هذين الشرطين الأخيرين، فوجد أن المسؤولية لا تترتب على الدولة بالإستناد إلى مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة إلا متى كان العبء مسبب الضرر قد فرضته السلطة العامة على الأفراد، ويكون الغرض منه تحقيق النفع العام، وكان الضرر الذي نتج عن هذا العبء جسيماً وغير عادي إذ أن الضرر الذي يتعدى الحالات الفردية ويشمل عدداً كبيراً من المؤسسات والأشخاص لا يمكن وصفه بالضرر الخاص وبالتالي لا يمكن التعويض عنه في إطار مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة([4]).
وبالعودة إلى قرار وزارة الداخلية بإقفال شركتي الغاز، يتبين أنه يشكل ضرراً خاصاً إذ شمل هاتين الشركتين فقط من مجمل الشركات الموجودة في الجمهورية اللبنانية، على الرغم من أن التفجيرات قد طالت العديد من المناطق الأخرى لا سيما في الهرمل وطرابلس. كما ان هذا التدبير لم يشمل أية مؤسسة تجارية أخرى في المنطقة نفسها غير هاتين الشركتين. أما لناحية الطبيعة غير الإعتيادية للضرر فهي ثابتة أيضاً إذ أن إقفال شركتي غاز وقطع مداخيل مالكيها والعاملين فيها يعتبر ولا شك ضرراً جسيماً وغير مألوف، ما يستنتج منه أن قرار إقفال شركتي الغاز قد فرض على أصحابهما والعاملين فيهما أعباء وتضحيات باهظة وغير عادية أثقلت كواهلهم وفاقت إمكانياتهم وقدراتهم. وقد صحل ذلك في سبيل تحقيق المصلحة العامة المتمثلة بأمن الوطن والمواطنين، الأمر الذي نجم عنه وبصورة بديهية وحتمية أضرار جسيمة بهؤلاء، لم تنزل بأفراد المجتمع الآخرين الذين استفادوا من هذه التدابير، ما جعلنا أمام انعدام في المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا ما يلقي على الإدارة متخذة القرار موجباً بأن تدفع تعويضاً مناسباً للذين تحملوا هذه الأعباء بمفردهم،بما يساهم في إعادة تحقيق المساواة من جديد.
وفي مجال الحديث عن التعويض المناسب، فلا بد من التذكير في هذا الصدد، أنه وفقاً للمبادئ العامة يجب أن يكون التعويض معادلاً تماماً للأضرار المادية والأدبية المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بصورة أكيدة بالمتضرر([5]) بما لا يسفر عن فقر هذا الأخير ولا يؤدي إلى إثرائه. كما أن هذا التعويض وبحسب ما أقره القانون الإداري، وعلى خلاف ما هو عليه الحال في القانون المدني، يجب أن يرتدي حتماً شكل التعويض المالي النقدي ولا يمكن أن يكون عينياً([6]).
ومن هنا يقتضي القول، أن الدولة ملزمة بالتعويض على أصحاب شركتي الغاز والعاملين فيهما بما يوازي الضرر الذي لحق بهم، بحيث تكون مخيّرة بين أن تدفع تكاليف إنشاء شركتين جديدتين في مناطق غير معرضة للمخاطر الأمنية إضافة للتعويض عن عنصر الزبائن والربح الفائح وجميع الخسائر التي تكبدها هؤلاء، وإما أن تدفع لهم مبلغاً موازياً لمتوسط ما كانوا يجنونه في السابق من مداخيل وأرباح صافية وذلك طيلة فترة إقفال الشركتين.
أما عن السؤال الذي يبقى مطروحاً، حول السلطة الصالحة لإلزام الدولة بدفع هكذا تعويضات، فإنها ولا شك السلطة القضائية المتمثلة بجهة القضاء الإداري- مجلس شورى الدولة، بعد استصدار قرار رفض صريح أو ضمني من الدولة "ربط نزاع" وفق ما تفرضه المادة 68 من نظام مجلس شورى الدولة([7])، هذا مع الإشارة إلى أن شروط منح المعونة القضائية للمتضررين خاصة عمال الشركتين تبدو مرجّحة في الحالة الراهنة.
وأخيراً، وبعد هذا العرض نأمل أن نكون قد سلطنا الضوء على ما يجب أن تكون عليه دولة القانون والمؤسسات، التي وإن أقفلت بيد "القوة والقانون" بعض المؤسسات في سبيل تحقيق المصلحة العامة، فإنها يجب أن تحمل في اليد الأخرى وبموجب القانون أيضاً رسالة وروح الرعاية ورفع الضرر عمن طالتهم تبعات تلك القوة.
(
[1])–يراجع في هذا المجال، تقرير المستشار المقرر لدى مجلس شورى الدولة الرئيس مارون روكز، في قضية المحامي أديب زخور/الدولة- وزارة الداخلية- المديرية العامة للأمن العام، المراجعة رقم 14275/2007،منشور على الموقع الإلكتروني للمفكرة القانونية بعنوان «قضية محام منعه الأمن العام من ممارسة مهنته أمام شورى الدولة اللبناني: التضحية بمبادئ المحكمة العادلة والسبب "حساسية
"»، إذ ورد في الصفحة 13 من التقرير المذكور ما حرفيته:«وبما أن صدور قرار قضائي بإبطال قرار إداري يشكل الأساس القانوني لمسؤولية الإدارة الذي برر المطالبة بالتعويض عن الضرر المنسوب تولده إلى القرار المقضي بإبطاله،كما هي الحال في المراجعة الحاضرة.
وبما أن مسؤولية الإدارة تكون، والحال ما تقدم ثابتة، الأمر الذي يرتب عليها موجب التعويض عن خطئها في حال توفر شروط الإستجابة لذلك، ولا سيما العناصر الأخرى للتعويض…».
كما أكدت على ذلك مطالعة حضرة مفوض الحكومة المعاون الرئيسة هدى الحاج في المراجعة نفسها والتي وجدت في الصفحة 2 منها أن: «رجوع الإدارة عن موقفها الخاطئ ولو بعد فترة وجيزة يمكن أن يرتّب عطلاً وضرراً للمستدعي صاحب العلاقة…».
(
[2])–يراجع لطفاً:د.فوزت فرحات،القانون الإداري العام،الكتاب الثاني،القضاء الإداري- مسؤولية السلطة العامة،الطبعة الأولى،2004،ص:313-315.
(
[3])–المرجع السابق نفسه:ص:332-333.
(
[4])–مجلس شورى الدولة،قرار رقم 280/2009-2010،تاريخ 15/2/2010،شركة إيشتي ش.م.ل/الدولة- وزارتي الداخلية والدفاع الوطني،منشور في مجلة العدل،العدد 2،العام 2010،ص:594 وما يليها.
(
[5])–المادة 134 من قانون الموجبات والعقود.
(
[6])–د.فوزت فرحات،القانون الإداري العام،الكتاب الثاني،مرجع سابق،ص:285.
(
[7])–تنص المادة 68 من نظام مجلس شورى الدولة،على أنه:«إذا لم تكن السلطة قد أصدرت قراراً فيتوجب على ذي العلاقة أن يستصدر مسبقاً قراراً من السلطة المختصة،ومن اجل ذلك يقدم إلى السلطة طلباً قانونياً،فتعطيه بدون نفقة إيصالاً يذكر فيه موضوع الطلب وتاريخ استلامه.وإذا لم تجبه السلطة إلى طلبه خلال مدة شهرين اعتباراً من تاريخ استلامها الطلب المقدّم منه اعتبر سكوتها بمثابة قرار رفض…».