محاكمة شاملة لأداء السلطة السياسية بكل ما يتعلق بالأموال العامة منذ 1993 حتى اليوم. تلك هي
-
أن مسألة القاعدة الاثنتي عشرية مسألة دستورية، فقانون المحاسبة العمومية يكتفي بتذكير مقتضب بالمادة الدستورية،
-
وأن النص الدستوري الذي أوجد هذه القاعدة ورد فيه صراحةً انها صالحة لشهر واحد فقط، دون إمكانية التمديد والا استلزم ذلك تعديل الدستور،
-
وأن القاعدة الاثنتي عشرية مرتبطة عضوياً بقيام رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء لزوماً بالدعوة لعقد استثنائي حتى آخر شهر كانون الثاني،
-
وأن إخلال الحكومة ورئيس الجمهورية إن بموجب إرسال مشروع الموازنة في الموعد الدستوري أو بموجب دعوة مجلس النواب إلى عقد استثنائي يؤدي إلى شلل الدولة، وهذا ما اعتقد المشترع الدستوري أن لا الحكومة ولا رئيس الجمهورية يمكنهما الإقدام عليه، في حين أن إخلال المجلس النيابي بإقرار الموازنة قبل نهاية شهر كانون الثاني يؤدي، إذا احتاطت الحكومة وأرسلت مشروع الموازنة ضمن المهل، إلى إصدار الموازنة بمرسوم، وإلا إلى حل المجلس النيابي بقرار من الحكومة ومن رئيس الجمهورية.
كل ما عدا ذلك هو باطل وغير دستوري ويرقى إلى وضع اليد على المال العام دون مسوغ شرعي. أمام هذا الوضوح الساطع، تعاملت الحكومات بخفة ظاهرة بل بتدرج نحو الأسوأ.
-
حتى شباط 2006، دأبت الحكومات على الإخلال بالموجب الدستوري لناحية تقديم مشاريع الموازنات ضمن المهل الدستورية، وجاراها مجلس النواب بأن أصدر، مع كل موازنة باطلة ومتأخرة، قانوناً يمدد مهلة تطبيق القاعدة الاثنتي عشرية خلافاً للدستور. آخر مثال على ذلك صدور القانون رقم 717 المنشور في 3 شباط 2006، أي في التاريخ ذاته الذي نشر فيه قانون موازنة سنة 2005 ورقمه 715، مدّعياً "الإجازة للحكومة اعتبارا من أول شباط 2006 ولغاية صدور قانون موازنة 2006 جباية الواردات كما في السابق وصرف النفقات على أساس القاعدة الاثني عشرية"، (أي إلى الأبد لو شاءت الحكومة ولأن سنة 2006 مرت ولن تعود إلا بأعجوبة، أو، إذا اعتمد التقويم الهجري، بعد 571 سنة، هجرية، أي 553 سنة شمسية فقط).
-
مع الحكومة التي ترأسها السيد نجيب ميقاتي، تم الاستغناء حتى عن ورقة التين التشريعية هذه لمخالفة الدستور، فتوقفت الحكومة عن إرسال مشاريع الموازنات نهائياً، بعد التخبط الذي طغى على فترة الحكومتين اللتين ترأسهما السيد فؤاد السنيورة، وإجهاض محاولات ترميم الانتظام العام التي شهدتها فترة الحكومة التي ترأسها السيد سعد الحريري.
التمادي في استخدام السلف بشكل غير قانوني
لا تدخل سلف الخزينة في عداد الصيغ التي تبرر الإنفاق، فهي إجراءات مؤقتة يستعان بها في شروط محددة ولفترات محددة بانتظار الاستحصال على المسوغ الشرعي للإنفاق النهائي.
انسجاماً مع هذه المبادئ، يفرد قانون المحاسبة العمومية فصلاً كاملاً للسلف يتضمن جزءاً عن السلف الدائمة، وجزءً عن السلف الطارئة وجزءاً مخصصاً للأحكام المشتركة بين الفئتين من السلف. في جميع الحالات:
-
على كل سلفة قيّم مسؤول عن حسن أدائها على أمواله الخاصة، والقيم على السلفة مسؤول شخصياَ على امواله الخاصة عن قيمتها. (المادة 108)،
-
المهلة القصوى لتقديم الأوراق المثبتة لتسديد السلفة نهائياً لا يتجاوز 31 كانون الثاني من السنة التالية على أبعد حد (المادة 104).
من الواضح أن اعتماد صيغة تبرير الإنفاق العام من خلال السلف كان اضطرارياً، إلا أن الاقتراح كان مشروطاً من جهة بتثبيت مسؤولية القيم، ومن جهة أخرى بالطابع المؤقت والمحدود في الزمن للسلف جميعاً. في الممارسة، تم تحويل هذه الصيغة إلى حيلة للالتفاف على الدستور، وقد اتخذ مجلس الوزراء مجموعة من القرارات مدد من خلالها مهل استعمال السلف وتسديدها وأوعز إلى كل من وزارة المالية وديوان المحاسبة بمخالفة قانون المحاسبة العمومية.
مفاعيل استبدال النظام الدستوري المفترض بالنظام الواقعي المفروض
المفاعيل المالية والاقتصادية
كل الجباية التي حصلت منذ 2005 (هذا إذا غُض الطرف عن عدم دستورية إقرار موازنة 2005 في مطلع سنة 2006 التي تلت نهاية فترة صلاحيتها)، هي جباية غير دستورية وغير قانونية. ويجدر لفت النظر إلى أن القانون رقم 238 المنشور في 22 تشرين أول 2012، وإن اعتبر بمثابة موازنة تكميلية برغم غياب موازنة أصلية، لم يجز للحكومة الجباية، وحتى لو أجازها، لا يمكنه أن يصلح لأبعد من نهاية سنة 2012، تحت طائلة مخالفة المادة 83 من الدستور.
وبما أن الدين يعني أعباء ضريبية مؤجلة (معظّمة بحكم تراكم الفوائد)، فإن مجموع ما تمت جبايته عن غير وجه حق ومراكمته كدين عام عن غير وجه حق منذ نهاية سنة 2005، وبالتالي تحميله للبنانيين دون مسوغ شرعي، بلغ 135 ألف مليار ليرة (أي 90 مليار دولار أميركي)، أنفقت بدورها دون وجه حق.
يبلغ رصيد حساب الدولة الدائن لدى مصرف لبنان 16 ألف مليار ليرة، وهي أموال يدفع عليها المكلفون الفوائد دون حاجة إليها لتمويل الدولة. وهي تضاف إلى أكثر من ثلاثين ألف مليار من شهادات الإيداع التي أودعتها المصارف لدى مصرف لبنان، وتدفع عليها الفوائد أيضا. مبلغ 46 ألف مليار ليرة هذا، أي ما ما يوازي 30 مليار دولار، يكلف بين مليارين ونصف وثلاثة مليارات دولار سنويا من الفوائد. أي ما يمثل مرة ونصف أرباح المؤسسات المصرفية مجتمعة.
في المقابل تتخلف الدولة عن تسديد المتوجبات عليها للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فتدفعه إلى الإخلال بموجب تأمين التغطية للمضمونين الاختياريين، وإلى استخدام أموال نهاية الخدمة لتغطية عجز صندوق المرض والأمومة، وتسطو على أموال البلديات التي تقوم وزارة الاتصالات بجبايتها لصالحها، ولا تقوم بالاستثمارات الحيوية في الكهرباء والماء، فتعطل الحياة الاقتصادية وترغم اللبنانيين على دفع مبالغ مضاعفة لأصحاب المولدات والحاويات، ولا تستكمل المشاريع المنفذة فتحول الاستثمارات إلى هدر: شبكات صرف صحي دون محطات تكرير ومحطات دون شبكات ومستشفيات دون تجهيز وعاملون فيها دون أجور. ويبقى الجيش دون عدة وننتظر الهبات بينما عناصره وضباطه يقتلون ويخطفون.
ليست المصارف المحلية والمؤسسات المالية العالمية هي الدائنة الوحيدة للدولة، بل الدائن الأول للدولة هو المواطن، هو الذي يتوجب على الدولة أداء خدماتها إليه وهو الذي يرتضي أن يكلف على أمواله لقاء تأدية الدولة لتلك الخدمات. استبدال النظام الدستوري المترض بالنظام الواقعي المفروض يؤدي إلى التمييز بين دائني الدولة على حساب الدائن الأول، المواطن.
تبين نظرة سريعة إلى الحصيلة الإجمالية للإدارة المالية خلال عقدين أن الإيرادات المحصلة من المواطنين بلغت 120 مليار دولار امريكي، وأن قيمتها تساوي مجموع قيمتي الإنفاق الجاري غير خدمة الدين (105 مليار دولار) والإنفاق الاستثماري (15 مليار دولار). علما أن قيمة الدين اليوم، 70 مليار دولار، تساوي بدورها مجموع ما دفع من فوائد على خدمته. فمن أين أتى الدين؟
لا بد من التذكير بأن ليرة واحدة صرفت أو لم تجبَ عن غير وجه حق في سنة 1993 تحولت اليوم إلى 15 ليرة من الدين العام، وفي سنة 1995، تحولت اليوم إلى 10 ليرات من الدين العام، وفي سنة 2000، تحولت اليوم إلى 5 ليرات من الدين العام.
الدين إرث غير مبرر، أتى نتيجة لخيارات سياسية ولسوء الإدارة عبر مرحلتين:
-
خطأ اول عنوانه التوسع بالإنفاق بين 1993 و1997، أشبه ما يكون بالرشوة، كان وليده الدين،
-
ادعوا تصحيحه بخطأ ثان، عنوانه الانكماش الانتقائي ووقف التوظيف والاستثمار وتجميد الأجور، بدءا من 1997، بما يشبه الابتزاز بعبء الدين.
هكذا تم تدجين المواطنين وتعطيل الانتظام الدستوري للدولة.
المفاعيل المؤسسية على الانتظام العام
أمام هذا التخبط المتمادي، والتفلت في استخدام المال العام من الضوابط
متوفر من خلال: