“
بتاريخ 19 نيسان 2018، تقدم قاضي التحقيق في الشمال جناح عبيد بصفته مواطناً طرابلسياً، بإخبار لدى النيابة العامة الإستئنافية في لبنان الشمالي، طالباً إجراء التحقيقات اللازمة في موضوع كارثة النفايات المتفاقمة في مدينة طرابلس والمتمثلة بمكب النفايات وكل الآثار المترتبة عليه منذ العام 2010 ولغاية اليوم.
جاء إخبار عبيد في وقت تعيش فيه مدينة الفيحاء مأساة بيئية كارثية: فمكب النفايات مهدد بالإنفجار في أي لحظة وهذا الأمر لا يهدد بانتشار المزيد من السموم وحسب وإنما بوقوع العديد من الضحايا من جراء ذلك.
نشوء المكب
قبل العام 1998 كان مكب طرابلس مشاعاً ترمى فيه النفايات على نحو عشوائي إلى أن اندلعت الحرائق فيه ذات نهار، وانتشرت الرائحة لتملأ مدينة طرابلس وتمحي من الوجود أيّ أثر لرائحة الليمون التي تمتاز بها. عندها قررت الحكومة وضع خطة طوارئ على خمس سنوات قوامها أن يتم انشاء سور حماية لجبل النفايات وتنشأ محطة شفط الغاز وحرقه كما تنشأ محطة صغيرة لتكرير العصارة التي تنتج عن النفايات وتقوم بمعالجته على أن يتم البحث عن حلّ بديل خلال السنوات الخمس القادمة. في العام 2000، انتهت الأشغال. وفي العام 2005 وفي ظل ترؤس رشيد جمالي لبلدية طرابلس، تقرر التجديد للمكب خمس سنوات إضافية، على خلفية أن المكب ما زال يحتمل المزيد من النفايات.
بدأ عهد رئيس البلدية نادر غزال في العام 2010 ولم يكن قد عُثر على مطمر بديل. وفي العام 2013 ظهرت أولى بوادر الأزمة والتي تمثلت بتشققات في حائط الدعم. كما أن محطة تكرير العصارة “الليتشية” تعطلت، ومحرقة الغاز التي كانت تحرق الغاز الناتج عن تحلل النفايات العضوية تعطلت أيضاً وحصلت مشاكل تهدد بانهيارات. كما أن شركة “باتكو” التي كانت تستلم إدارة المكب أرسلت كتابا حينها رفعت فيه مسؤوليتها “إذا حصلت أي مشكلة”.
في ذلك الوقت، قدم الدكتور جلال حلواني رئيس قسم الصحة والبيئة في الجامعة اللبنانية، وكان عضو مجلس بلدية طرابلس ورئيس لجنة البيئة، اقتراحاً لثلاثة مشاريع بشأن ثلاث ثلاثة مواقع في مناطق مختلفة موجودة داخل طرابلس وخارجها. ورأى حلواني أن من شأن ذلك ضمان “الانتقال إلى منظومة جديدة في معالجة إدارة النفايات”. والقصد هو أن يتم الانتقال من منظومة المكبّ العشوائي، إلى إرساء “منظومة إدارة متكاملة للنفايات الصلبة تشمل فرزاً حديثاً وتوليد طاقة عن طريق التخمير اللاهوائي، إضافة إلى مطمر صحي للعوادم”. يتطلب تنفيذ اقتراح حلواني مساحة لا تقل عن 80 ألف متر مربع، على أن يستغرق التنفيذ نحو عامين. لكن تمت عرقلة هذه الحلول لأسباب سياسية، وفق حلواني.
تبلغ مساحة المكبّ اليوم نحو 60 ألف متر مربع. وقد ارتفع بين 2000 و2018 من 15.9 متراً إلى 37 مترا. ويستقبل مكب طرابلس فضلاً عن نفايات المدينة نفايات من منطقة البداوي والقلمون فضلا عن المجمعات السياحية في الصيف والمسلخ ومخيم البداوي.
في العام 2000، كان معدل النفايات اليومي التي يستقبلها المكب هي نحو 256 طن. أما حالياً فهو يستقبل 462 طن، ويقول رئيس لجنة الصحة في البلدية الدكتور عبد الحميد كريمة أنه “منذ ستة أشهر عندما انتشرت رائحة النفايات وملأت مدينة طرابلس اكتشفنا أن الشركة لم تعد تضع رمالا وذلك لأنها تخشى أن يتفسخ الجدار من الأسفل ويصب في البحر”.
كريمة ذكر أن”اتحاد بلديات الفيحاء” كلّف ثلاث شركات بالقيام بدراسة حول واقع المكب. حددت الشركات خطر ارتفاع المكب وعدم معالجة الغازات التي تتكدس داخله من الناحية الصحية، وأشار خبراؤها إلى أنه “إذا انفجر المكب سيطال مساحات شاسعة، ويخلف وراءه العديد من الضحايا وينشر السم في الجو. وقد ذكر الخبراء أن المناطق السكنية القريبة من المكب باتت متأزمة صحياً فمعظم الناس يعانون مشاكل في التنفس والأطفال ومشاكل ربو وغيرها”.
ويلفت رئيس مختبر مايكرو بيولوجيا الصحة والبيئة التابع للمعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا وكلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانية، الدكتور منذر حمزة إلى أن”جبل النفايات الحالي ينتج العصارة التي تسيل تدريجيا نحو البحر ولا يمكن لأهم المختبرات في العالم أن تحدد جميع الملوثات والسموم التي تحتويها. وهي تتجه فورا نحو الأسماك والكائنات البحرية وتترسب في لحمها وخاصة المعادن الثقيلة مثل الزئبق، وبالتالي كل ذلك يتركز في داخل الأسماك التي نقوم باصطيادها لأكلها، فضلاً عن تلويث المياه الجوفية ومياه البحر”.
ويرى “أننا بدأنا تدريجيا نحصد ما زرعناه خلال الثلاثين سنة من كوارث صحية بدأت تتراكم داخل أجسادنا وأجساد أولادنا”.
أما الأضرار التي يخلفها تلوث الهواء في المدينة نتيجة انبعاث الغازات فهي تتضمن “تأخير نمو الدماغ عند الأطفال ما دون الخمس سنوات، انخفاض كفاءة الرئتين مما يسمح بانتشار الأمراض الصدرية، ارتفاع معدلات السرطان نتيجة تنشق الهواء، أمراض تنفسية مزمنة وأمراض تتعلق بالأوعية الدموية والقلب وجلطات دماغية”.
معدل الأعمار لن يتجاوز 35 سنة
يتحدث عضو مجلس بلدية طرابلس باسم بخاش عن سعي الجامعة اللبنانية الفرنسية ulf لإيجاد حل لمعالجة جبل النفايات وتوليد طاقة كهربائية..يقول إن”الجامعة تواصلت مع شركة ويسكنسون وجاء مندوب من أميركا وقاموا بدراسة وضع جبل النفايات الحالي وأصدروا تقريراً بيئيا يقول أن ثمة إشعاعات على مدار 1 كيلومتر لسمّ مسرطن في كل هذه المنطقة في حالة الطقس الطبيعي. أما في الشتاء فإن الغازات المسرطنة بإمكانها أن تصل إلى نحو 1500 متر او ألفي متر. وعليه، وفي حال استمرار هذا الوضع، فإننا نتجه إلى معدل عمري لا يتجاوز 35 سنة “.وبعد نحو شهر على إخبار القاضي عبيد وبالتنسيق معه ومع ناشطين من أبناء المدينة، وضع الدكتور يحيي الحسن، وهو أحد أبناء طرابلس أيضاً، تقريراً علمياً صحيا وبيئيا بين يدي المدعي العام البيئي في الشمال القاضي غسان باسيل.
ويذكر الحسن في تقريرهالأخطار الجسيمة للمكبّ سواء في المرحلة الحالية أو في المستقبل في حال عدم إطلاق خطة طوارئ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ويرى الحسن أن “المطمر الحالي هو عبارة عن بركان سموم مهدد بالإنفجار في أي لحظة والتسبب بكارثة بيئية ، قلّ نظيرها في العالم، على مدينة طرابلس وجوارها”.
ويشدد على الخطر المتمثل بانهيار المكب الذي سينتج عنه سقوط ملايين الأطنان من النفايات غير المعالجة في البحر والأراضي المحاذية في طرابلس، مع ما تشكله من تلوث للبيئة وحمل الأمراض والروائح وانتشار الحشرات والقوارض”. كما يعتبر أن هذا الانهيار” سيؤدي إلى انفلات الغاز المضغوط تحت أكوام النفايات مما يتسبب بحرائق ودخان وروائح ستغطي مدينة طرابلس وضواحيها مع ما تحمله من سموم وأمراض لن يزول أثرها لعشرات السنوات القادمة مما يجعل المدينة فعليا وعمليا غير قابلة للسكن”.
أما الآثار البيئية فتتضمن ظاهرة الاحتباس الحراري، القابلية للاشتعال، الإختناق، انتشار السموم. وانخفاض المحاصيل الزراعية، سوء نوعية التربة والمياه والهواء، زيادة نفوق الحيوانات والأسماك.
ويشير الحسن ختاما إلى أن “البيئة والصحة متلازمتان لا مجال لفك الواحدة عن الأخرى، فتسميم البيئة: هواء، مياه، تربة، غذاء، كائنات حية سينعكس حتما على الصحة العامة للأفراد على اختلاف أعمارهم وخاصة للصغار. ومن هنا فإن حماية البيئة مدخل لحماية صحة الناس”.
- نشرت هذه المقالة في العدد 55 من مجلة المفكرة القانونية، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا: مناطق الموت في لبنان