“
داهمت المديرية العامة لأمن الدولة صالونا للتجميل في فردان في 18 تشرين الأول 2018 وأوقفت أحد العاملين فيه ومساعده لإجرائهم عمليات وشم (تاتو) وهم يحملون فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV) وذلك بناء على إشارة المدعي العام الاستئنافي في بيروت الذي قرر أيضاً إقفال المركز بالشمع الأحمر. لم يكشف عن القضية وتفاصيلها إلى حين أطلّ الإعلامي جو معلوف الإثنين 29 تشرين الأول في حلقة جديدة من برنامجه “هوا الحرية” على قناة “أل.بي.سي.” ليعرض الملف. أشار معلوف إلى أنه قرر التطرق للقضية لأنها “حساسة جداً” ولأنها شغلت الرأي العام في الفترة الماضية. بحثنا عن مدى انشغال الرأي العام في الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي ولكننا لم نعثر على أية معلومة. حتى أن مديرية أمن الدولة انتظرت حتى انتهاء حلقة معلوف لإصدار بيانها الأول حول القضية.
الأولوية: السكوب للإعلام
عنون معلوف فقرة برنامجه: “هل نحن أمام قضية إرهاب بيولوجي لنقل فيروس أتش أي في (HIV) لعدة ممثلات وسيدات مجتمع وفنانات بسبب أحد أشهر خبراء التجميل؟[1]” التهمة إذا جاهزة وخطيرة. الموقوف تعمّد نقل الفيروس. والضحايا نساء لهن مكانة وحيثية في المجتمع، ما يزيد “الجريمة” فداحة.
بدأ معلوف بطرح سلسلة من الأسئلة على المشاهدين: “كيف لازم نتعاطى مع هيك قضية حساسة جداً؟ شو لازم نحكي للناس عالتلفزيون؟ قديش خطير الخبر لنقل هيدا الفيروس لعدد من زبونات هيدا الصالون يلي هني كلن سيدات مجتمع؟” حاول أن يوحي بأن الفيروس انتقل إلى رواد الصالون وأنه هنا لطمأنتهن عبر استضافة أخصائيين للحديث عن المرض وعلاجه.
انتقل معلوف بعدها لعرض تقرير عن تفاصيل المداهمة والتوقيف. تبيّن مرة أخرى، بعد قضية الممثل زياد عيتاني، أنه تمّ تسريب محاضر التحقيق للإعلامي وأنه حصل على الحق الحصري بنشرها. حرص معد التقرير على عدم ذكر إسم الموقوف “لحماية خصوصيته” وهو الأمر الذي كرره معلوف مراراً خلال الفقرة. الإيجابي هنا أنه بدأ يدرك عواقب التشهير بالناس، ولو أنه على يقين بأن هوية الشخص ستنتشر فور انتهاء حلقته. شدد معلوف على أهمية الحفاظ على سرية هوية الموقوف “لأن بالنهاية هيدا إنسان ونحنا بلبنان منخاف سريعاً وما عنا ثقافة كتير بهيدا الموضوع ورح نخربله كل حياته اذا بتنكشف هويته”. حتى أنه ذهب لحد التمني على الأجهزة الأمنية والقضاء بعدم ذكر إسمه “لأن عم نقضي على حياة شخص يمكن ينبذه المجتمع أو حدا يقضي عليه. ممكن يتعرض لـ100 شغلة اليوم”.
الموقوف: سوري، حامل فيروس الHIV ومثلي الجنس
لكن معلوف، الحريص على هويات “المتهمين” ومستقبلهم، لم يتردد في الكشف عما جاء في محضر التحقيق المفترض أن يكون سرياً. فقد نقل معد التقرير أن الشاب اعترف أن الزبائن لم يكونوا على علم بإصابته بالفيروس”. وتبيّن أن الموقوف كان يعمل من دون ترخيص قانوني من وزارة الصحة أو أي جهة أخرى. وقال أنه يدرك مدى خطورة العمل الذي يقوم به وإمكانية نقل الفيروس “لكلّ الفنانات والشهيرات والسيدات اللواتي يزرن الصالون الخاص فيه”. واعترف الموقوف بعلاقته المثلية بمساعده في الصالون والذي تبيّن أنه قد نقل له الفيروس.
إذاً وبكل “فخر”، أطلع معد التقرير الرأي العام على ميول الشاب الجنسية وعلى إصابته بالفيروس وأظهر خوفاً شديداً على “الفنانات وعارضات الأزياء والشهيرات والسيدات زبائن الصالون” فكشف أن القضاء قرر “إصدار بيان ودعوة لهؤلاء لإجراء فحوصات لفيروس HIV تخوفاً من إصابتهم بسبب هذه الحادثة وبناء على معطيات التحقيق”. علم المشاهدون من الإعلامي أيضا أن الجهاز الأمني الذي يجري التحقيق سيصدر بيانا وأن النساء زبائن الصالون مدعوات لإجراء فحوصات مخبرية، كل ذلك عبر الاعلام.
ولإثبات مدى خطورة الوضع، قابل معد الحلقة محافظ بيروت القاضي زياد شبيب الذي شدد على ضرورة “حماية صحة الناس”، وبالتالي على وجوب إقفال الصالون نهائياً لأن “القصة مش قصة حقوق وحريات بس ونحنا أكيد منحترمها. القصة قصة صحة عامة وسلامة عامة وما فينا نتهاون فيها أبداً”. فجأة، أصبح مريض الـHIV يشكل خطراً قومياً على كل من صادفه. تلوث الهواء والماء، أزمة النفايات، زحمة السير لا تستوجب هذه التدخلات الجذرية واتخاذ تدابير احترازية فورية.
استقبل معلوف بعد انتهاء التقرير الدكتور روي نسناس، رئيس قسم الأمراض الداخلية والجرثومية في مستشفى اللبناني الجعيتاوي والناشط الحقوقي إيلي بلان وهو من حاملي فيروس الـHIV. عبّر معلوف عن حرصه على نقل الصورة كما هي، لاسيما أنه لا يريد تخويف المشاهدين، خاصة في ظلّ غياب التوعية الكافية حول المرض. لكنه في ظلّ حرصه هذا، وضع المشاهدين وضيوفه أمام احتمالين فقط: “يا إما عنده مشكلة نفسية (الموقوف) والقضية هي قضية bioterrorism وهوي قصداً عم ينقل المرض؛ يا إما في حدا مبلغ أو مخبر إنه هيدا الشخص عم يعملها قصداً ونحنا أمام حالة أخرى”. جزم معلوف إذاً أن خبير التجميل تعمّد إلايذاء وافترض أن هذا الأخير قام بعمل خطير كالتخطيط عن سابق تصور وتصميم على نقل المرض لزبائنه. طبعاً، لا دليل على هذه الاتهامات. الاعلامي اكتفى بتبني ما تمّ تسريبه من مديرية أمن الدولة.
لكن ولحسن حظ المشاهدين، فإن ضيوف معلوف هذه المرة أتوا لدحض هذه الفرضيات. أصر الدكتور نسناس على أنه لا يمكن نقل الفيروس من خلال التاتو وشرح الأسباب للرأي العام. لكن معلوف لم يكتفِ بالإجابة. فسأله: “بس إذا محلّ مش مرخص وما عم يتمّ الاشراف عليه، ما بيعرفوا القواعد، ما بيعرفوا كيف يتعاطوا، ممكن هالشي يصير”. رفض نسناس هذه النظرية لاسيما أن الإبر المستخدمة للتاتو تكون جديدة وتفتح أمام الزبون. “يعني ولا ممكن يكون حدا بالصالون التقط هالفيروس”. رضخ معلوف لمطالعة نسناس ومن ثم بلان، فانتقل للدفاع عن قرار القاضي واجراءات أمن الدولة. “بس بتوافقوا معي أنه ما فينا نجي نقول للناس ما تعملوا نهائياً panique أو للقضاء أو لأمن الدولة ما تعملوا هيدي التدابير. هيدي شغلة جديدة على كل المجتمع”. ما هو الجديد هنا؟ أن يمارس شخص حامل فيروس الHIV عملاً ما؟ أن يكون مثلي الجنس؟ أن لا يفصح عن مرضه أمام زبائنه، “سيدات المجتمع”؟
اعترض نسناس على إجبار أي شخص على إجراء الفحص، خاصة بعدما علم أن الموقوف أخضع لفحص في المديرية. عاد معلوف للدفاع عن إجراءات أمن الدولة: “إلا بحالات إذا صار في معلومات عن قضية خاصة. أنا إذا جيت وقلت إنك عم تنقل الفيروس قصداً، رح يجوا يوقفوك الأجهزة الأمنية ويطلبوا منك تعمل الفحص ليتأكدوا إنك حامل هيدا الفيروس”. بدا لوهلة وكأنه الناطق الرسمي بإسم المديرية.
لكن الفقرة لم تجنح حيث أراد معلوف أخذها، إذ تمسك ضيوفه برفضهم الكامل لتوريط الموقوف بتهمة نقل الفيروس عن قصد وشرحوا بإسهاب طبيعة الفيروس وكيفية انتقاله وبالتالي انعدام الخطر على زبائن الصالون. استدرك معلوف الأمر فتوجه لضيوفه بالقول: “انتو معنا اليوم لنخفف من الـpanique. وبالنهاية الموقوفين بشر ونحنا واجباتنا نوقف حدّن طالما ما تبيّن بعد بالتحقيقات إنه نقلوا هالفيروس قصداً”. لا ندري كيف يفسر معلوف وقوفه إلى جانب الشابين بعد كل الذي كشفه عنهما.
انتهت الفقرة. للمرة الثانية، يطالعنا معلوف بمحاضر التحقيق مباشرة على الهواء. يكشف تفاصيل قضية قبل صدور أي بيان رسمي من الجهات المحققة والقضاء ويحاول إصدار الأحكام غير آبه بمصير الموقوفين وعائلاتهم. انكشفت إذاً القضية في حلقة “هوا الحرية”، فأضحى واجباً على مديرية أمن الدولة الدخول على الخط.
مديرية أمن الدولة تتحدى وزارة الصحة: الأمراض اختصاصنا أيضا
تبعاً لذلك، أصدر قسم الاعلام والتوجيه والعلاقات العامة في المديرية في اليوم التالي على بث الحلقة بياناً لشرح مجريات القضية. ذكر البيان الإسم الأول للموقوف ولقبه وحرص أيضاً على إطلاع الرأي العام بأنه سوري الجنسية، استكمالا لتثبيت “الجرم” على خبير التجميل. هكذا إذاً، قام “قسم الإعلام” بالتشهير بالموقوف متجاهلاً عدم صدور قرار قضائي بعد في حق الموقوف وزميله. وكشف البيان أن الموقوف “خضع لفحوصات طبية والتي تبين بنتيجتها صحة إصابته بالفايروس المذكور”. لم يذكر إن كان الفحص قد تمّ بموافقته أم لا، وإن كان يحق للمديرية إجراء هذا الفحص في الأساس. واختتم بدعوة الزبائن إلى “إجراء الفحوصات المخبرية اللازمة حرصا على صحتهم وسلامتهم”. على ماذا استندت المديرية لخلق هالة الهلع هذه لدى الرأي العام؟ لا جواب. ولماذا سربت القضية إلى الإعلام وبأي هدف؟ لا جواب على هذا السؤال أيضاً.
وعلى الفور، ردّت وزارة الصحة على بيان المديرية فأكدت أن “لا قانون ينظم مهنة الوشم وليس ما يمنع المصاب بفيروس فقدان المناعة المكتسب من ممارسة هذا العمل”. عدد بيان الوزارة الطرق التي تؤدي إلى انتقال الفيروس وشدد على أنه لا يمكن أن ينتقل “بطرق أخرى أو أن ينتشر بسرعة كالأمراض الانتقالية الأخرى”. أبطلت إذاً الوزارة في بيانها إتهامات أمن الدولة، إن من جهة وجوب الحصول على رخصة للصالون لإجراء الوشم أم من جهة منع شخص يحمل الفيروس من إمكانية العمل في هذا المجال. وهو ما أكده أيضاً وزير الصحة غسان حاصباني في تقرير ضمن نشرة أخبار قناة “الجديد” إذ أشار إلى “أن لا إطاراً قانونياً لمراكز الوشم، وهي لا تحتاج إلى ترخيص وأن لا مهنة ممنوعة على مريض الإيدز وأن هناك سرية لحماية المريض”. يحسب للوزارة أنها أعادت تصويب النقاش حول القضية وأنها خففت من وطأة التهويل الذي سعى أمن الدولة لخلقه ليوحي بأنه حقق إنجازٍ ما.
لكن تبيّن أن المديرية قد أصدرت حكمها في القضية غير مكترثة بالآراء العلمية التي رفضت نظرياتها. تحوّل عناصر الجهاز فجأة إلى خبراء في الصحة والأمراض المعدية. ففي التقرير عينه، صرّح العقيد بسام أبي فرح، مدير بيروت في جهاز أمن الدولة أنه “إذا كان هذا المريض مجروحاً، وقد يكون عن غير قصد، سينقل العدوى مباشرة إلى الشخص الآخر”. لم يطلع العقيد على بيان وزارة الصحة وبدا كأنه لا يهمه الأمر. ولتصديق خطورة “التهمة”، ذكر أبي فرح المشاهدين بأن هذا الأخير “مصاب بالعدوى من شاب صديقه “يتعاطى معه اللواط”. وعندما سؤل العقيد عن الأسباب القانونية التي سمحت بالإبقاء على الموقوف محتجزاً لدى المديرية لمدة 12 يوماً وهو ما يعتبر مخالفاً للقانون حيث أن مدة التوقيف لا يمكن أن تتجاوز ـ4 أيام، برر بأنه موقوف بناء على إشارة القضاء وأن المديرية لا تحتجز أحداً بل تلعب دور الضابطة العدلية وتنفذ أوامر القضاء. ورأى العقيد أن دعوة الزبائن لإجراء الفحوصات أمر طبيعي لأن الموقوف “لديه مرض معد”. أوحى العقيد بأن أي شخص مصاب بمرض معد معرض للملاحقة لمجرد أنه سمح لنفسه بممارسة عمل يتطلب احتكاكا مباشرا مع الناس.
تفاعلت القضية بشكل كبير بعد صدور بياني أمن الدولة ووزارة الصحة وثار سخط الناشطين والحقوقيين على قرار التوقيف وعلى كشف هوية الموقوف. ما اضطر المديرية إلى إصدار بيان توضيحي في 31 تشرين الأول أكدت فيه حرصها على “مرضى الأيدز الذين بحاجة لرعاية صحية خاصة”. وأصرت على أن “الأعمال التي تستدعي استعمال أدوات طبية كالإبر والآلات الحادة، يلزمها موافقة خاصة لهذه المهنة”، على الرغم من بيان وزارة الصحة. ولم تكتفِ المديرية بهذا القدر بل ذهبت حد الكشف على أن الموقوف كان قد خضع لعملية إزالة الشعر بواسطة اللايزر دون أن يصرّح بأنه مصاب بالمرض. وكأنّ هذا التفصيل يشكل منعطفاً في مجريات التحقيق ويثبت خطورة الرجل. ورأت أنه “من حقوق صاحب العمل أن يعرف أن الذي يمارس هذه المهنة عنده هو مصاب بهذا الفيروس كي يأخذ جميع التدابير الوقائية اللازمة لعدم انتقال هذا المرض”، متجاهلة هنا أيضاً بيان وزارة الصحة وتصريحات الدكتور نسناس لبرنامج “هوا الحرية”.
أتى الرد على أمن الدولة هذه المرة من “شبكة الجمعيات العاملة على السيدا في لبنان” التي اعتبرت أن البيان “يخرج عن المنطق” و”أن التعايش مع الفيروس ليس بتهمة أو جناية”. ورأت الشبكة أن “التعامل مع هذه القضية لا يمتّ لا للعلم ولا لحقوق الإنسان ولا للقوانين بأي صلة، إنما هو عمل تمييزي يكرّس التنميط والوصم بامتياز، إذ إنه يصوّر HIV كفزاعة ويحوّله إلى قضية وطنية تهدّد الأمن القومي والاجتماعي في لبنان”.
في الخلاصة، الشابان موقوفان لدى أمن الدولة منذ 18 تشرين الأول دون توجيه أي تهمة في حقهما حتى الآن. وبالتالي هما محتجزان تعسفياً ولا ندري ما الذي حلّ بهما طوال هذه المدة. يكفي أن نستذكر ما كشفه زياد عيتاني عن معاملة المحققين له أثناء توقيفه لدق ناقوس الخطر والدعوة إلى التحرك في قضية الشابين والإفراج عنهما أو تحويلهما إلى القضاء المختص. انتظرت المديرية 14 يوما لتكشف عن القضية من خلال وسيلتها المفضلة: الاعلام. تبيّن أن قضية زياد عيتاني لم تدفع أمن الدولة إلى إجراء مراجعة لأدائه ولا حتى إلى محاسبة العناصر الذين أوقفوا عيتاني ظلماً وسربت محاضر التحقيق معه وحوّلته إلى عدو اللبنانيين الأول. تعيد المديرية السيناريو ذاته اليوم. هذه المرة بحق شخص مستضعف، ذنبه أنه مواطن سوري، حامل فيروس الـHIV وبأنه مثلي الجنس. وتلجأ للإعلام ذاته الذي أصدر حكمه فوراً وحاول تجييش الرأي العام إلى جانبه دون الالتزام طبعاً بأي من قواعد وأخلاقيات المهنة. ويبقى السؤال: لماذا أوكل التحقيق في هذه القضية لأمن الدولة فيما بات واضحاً أنه لا يمكن أن يكون الشاب قد خطط لنقل الفيروس لزبائنه، حسب البيانات التي ردت على الجهاز؟ هل يبحث هذا الأخير عن بطولات وهمية جديدة بعد فضيحة عيتاني؟ وإن كان الأمر كذلك، من المستحسن أن لا تكون تشبه هذه البطولات تلك التي زعمت وزارة الداخلية حصولها عندما قررت مكافحة عبدة الشياطين منذ سنوات. فهذه كارثة جديدة، تحسب لرصيد أمن الدولة.
[1] جو معلوف. هوا الحرية. ال.بي.سي. 29 تشرين الأول 2018
“