بتاريخ 2/11/2017، أصدرت محكمة التمييز قرارا مبدئيا في قضية منال عاصي، حكمت فيه على زوجها محمد النحيلي ب 18 سنة سجن على خلفية قتلها قصدا. وقد خلصت المحكمة إلى هذه النتيجة بعدما حجبت عنه امكانية التذرع بالعذر المخفف بحجة حصول الجرم تحت وطأة الغضب الشديد. وقبل المضي في إبداء الملاحظات على الحكم المذكور، يجدر التذكير بأمرين اثنين: (1) أن محكمة الجنايات في بيروت كانت أصدرت بتاريخ 14/7/2016 حكما بمعاقبة هذا الأخير بخمس سنوات سجن فقط، بعدما أفادته من العذر المذكور على الرغم من لجوئه إلى أساليب قتل وحشي استمرت على مدار ساعات؛ (2) أنه فور صدور حكم الجنايات، ساد سخط عارم في الأوساط الإعلامية والمدنية لما اعتبروه بمثابة تهديد واستباحة للنساء بفعل المشروعية المعطاة لمفاهيم "الشرف". ومن أبرز المواقف في هذا المجال هو العدد الذي خصصته المفكرة القانونية لهذه القضية في تموز 2016 تحت عنوان معبر هو: "عوة البطل". آنذاك، تحدثت المفكرة عن مشهدية الدم التي نظمها النحيلي للانتقام من زوجته التي تجرأت على التمرد ضده، وهي المشهدية التي تفهمتها لاحقا محكمة الجنايات لتعيد مشروعية أعذار الشرف ومعها الذكورية في أقسى صورها. وعليه، وإذ جاء الحكم المبدئي ليعيد تصويب الأمور على نحو ينسجم مع موجب الدولة في ضمان سلامة مواطنيها، فإنه يستدعي ملاحظات ثلاث:
الملاحظة الأولى: قرار مبدئي يتجاوز وقائع القضية
لدى قراءة حيثيات الحكم، نتبين أنه يتميز ليس فقط في رفع العقوبة التي كانت حكمت بها محكمة جنايات بيروت من 5 إلى 18 سنة بعد استبعاد عذر الغضب الشديد، بل أيضا في إرساء اجتهاد حمائي في هذا الخصوص. وهذا الأمر يخرج بوضوح كلي عن الحيثيات التي أوردتها المحكمة على طول صفحتين، لتصل إلى نتيجة مبدئية قوامها عدم جواز تطبيق المادة 252 من قانون العقوبات الخاصة بالعذر المخفّف (وهو العذر الذي طبقته محكمة جنايات بيروت لتخفيف العقوبة إلى 5 سنوات) على حالات قتل النساء كافة (وليس فقط منال عاصي) بداعي الشرف. وفي هذا الإطار، ذكرت المحكمة أن المشرع تدرّج في إلغاء المادة 562 من قانون العقوبات الخاصة بجرائم الشرف: فإذ ألغى المشرع في 1999 العذر الذي يعفي من العقاب كليا الجاني الذي يرتكب الإيذاء أو القتل في حال فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حال جماع غير مشروع، مستبدلا إياه بعذر مخفف، عاد في 2011 ليلغي العذر المخفف في أي من حالات إيذاء نساء بداعي الشرف، سواء كن في حال تلبّس أو في حال مريبة. وقد خلصت المحكمة تبعا لذلك إلى القول ب "أن المشرع اللبناني قد اتّبع سياسة جنائية واضحة متدرجة بخصوص هذا النوع من الجرائم حتى وصل إلى مرحلة إلغاء الأعذار المخففة فيها حتى وليس المحلّة فحسب في القتل أو الإيذاء" و"إن المحكمة أمام صراحة ما ابتغاه المشرع في إلغاء نص المادة 562 عقوبات، فإنه يُستقى من روح التشريع وسببه الموجب أن المشرع قد أخذ بعين الاعتبار ردة فعل الزوج أو أي من الأشخاص المذكورين تجاه أي من الحالات المذكورة ومدى تأثير وطأة الغضب الشديد التي يمكن أن تُفقد صاحبها الوعي والسيطرة على الإرادة، فيقدم على قتل المرأة المستهدفة خاصةً بالفعل غير آخذ بالتالي بخطورة الفعل المرتكب وردة الفعل على سلوك المرأة… إذ لم يرد المشترع منحه العذر القانوني المخفف حتى…". وبذلك، تكون المحكمة قد حسمت في هذه الحيثيات الجدل حول مفعول إلغاء المادة 562 عقوبات واضعة حدا للمخاوف من الالتفاف حوله من خلال "إعادة إحياء العذر المبني على الشرف القاتل تحت غطاء الغضب القاتل (الغضب دفاعا عن الشرف)"، مسجلة بفعل اجتهادها الرائد خطوة إضافية في مجال نزع المشروعية عن جرائم الشرف وتاليا في مجال ضمان سلامة النساء.
وهذه القراءة تستجيب بشكل كامل لقراءة المفكرة القانونية في عددها 41 في سياق نقدها لحكم الجنايات حيث رأت في ختام تحليلها لنتائج إلغاء المادة 562 من قانون العقوبات أن "الرسالة التشريعية الموجهة إلى المجتمع مع إلغاء المادة 562 خالية من أي لبْس، ومفادها أن التزام القانون بتأمين المساواة بين الجنسين على صعيد الحماية القانونية يفرض عليه مكافحة مجمل التقاليد والمعتقدات المهددة لها وتاليا إهمال مجمل الأعذار المرتبطة بها… وإذ يعكس هذا التوجه تطورا اجتماعيا، فهو لا يعني بالمقابل أن تكون تقاليد الشرف والأدوار الاجتماعية التي يقوم عليها ويفرضها قد تلاشت تماما، ولكن يعني أن المشرع قرّر أن لا يحميها أو يأخذها بعين الاعتبار، وذلك بهدف مكافحتها وردعها. فالتشريعات تقوم على مبدأ المساواة أو على الأقل تتجه إلى تكريس هذا المبدأ وعليها أن تهدم في مسارها هذا مجمل القيم المبنية على اللامساواة ومن أبرزها جعل الرجل قواما وحارسا على التزام المرأة بموجبات الحشمة".
وما يزيد من أهمية هذه الحيثية هو ثلاثة أمور:
أن المحكمة كرست من خلال الاجتهاد ما ذهبت بعض دول المنطقة إليه من خلال التشريع على نحو يعكس تطوّر رؤية جديدة للوظيفة القضائية في لبنان. وهذا ما حصل حين أتبع المشرع الفلسطيني إلغاء المادة المرادفة للمادة 562 في قانون العقوبات الفلسطيني بقانون آخر استثنى بموجبه الجرائم المرتكبة ضد النساء من مجال تطبيق المادة الموازية للمادة 252 فيه،
أن المحكمة كرست توجهها هذا من تلقاء ذاتها من دون أي طلب أو محاججة من الجهة المستدعية (النيابة العامة التمييزية). فهذه الأخيرة كانت بنت استدعاءها على عدم صحة تذرع المتهم بالغضب الشديد، فيما أن جرمه استمر لساعات عدة، من دون أن تجادل في مبدئية الاستناد إلى المادة 252،
أن المحكمة أدلت بهذه الحجة من دون أن تكون بحاجة لذلك لبت النزاع العالق أمامها، بحيث كان بإمكانها الاكتفاء بما تثبتته من وقائع لحرمان المتهم من التذرع بالعذر المخفف وفق ما نبرزه في الملاحظة الثانية. وهي بذلك كشفت عن حرص وإصرار واضحين في تكريس موقفها الحمائي هذا.
الملاحظة الثانية: قرار مبدئي محصن بوقائع القضية
إلى جانب ما تقدم، وما أن أنهت المحكمة تحليلها لاستبعاد المادة 252 من الناحية المبدئية حتى أعلنت أنها في مطلق الأحوال ستبحث في مدى صحة ربط الأفعال ب "ثورة الغضب الشديد" على ضوء ظروف وملابسات القضية. وهي بذلك بدت وكأنها تسعى إلى تعزيز مبرراتها لاستبعاد هذه المادة: فلا تستند فقط على تفسير قانوني لمفاعيل إلغاء المادة 562 من قانون العقوبات إنما تستند أيضا على تقديرها لوقائع القضية والتي تقود إلى النتيجة نفسها. ومن شأن هذا التوجه أن يحصن حكمها إزاء الطعن وأن يضمن تاليا الحفاظ على المكاسب المبدئية التي تضمنها.
وعليه، وإذ افترضت المحكمة إمكانية تبرير الجاني ردة فعله العنيفة الحاصلة لحظة معرفته بأن زوجته كانت على علاقة مع غيره بالغضب، فإنها اعتبرت بالمقابل أنه يبقى عاجزا عن ربط أفعاله اللاحقة (عدم إسعاف زوجته، منع إسعافها من الآخرين، إقفال الباب عليها وعلى أهلها، الإمعان في ضربها…) والتي استمرت لوقت طويل بهذا الغضب. فبعد ضربها، "كان لديه المتسع من الوقت للتفكير بروية والتنبه لما قد تؤول إليه حال زوجته بسبب الاعتداء الوحشي عليها… دون أن يبادر إلى العودة لإغاثتها والسماح بإسعافها ممتنعا قصدا عن ذلك".
الملاحظة الثالثة: نموذج جديد للتفاعل الإيجابي بين القضاء والإعلام
أن هذا القرار يشكل في عمقه نموذجا جديدا للتفاعل الإيجابي الممكن بين القضاء والإعلام، وهو تفاعل يؤمل منه أن يولد دينامية اجتماعية هامة، من شأنها تطوير المنظومة الحقوقية ككل. فبفعل هذا التفاعل، شهدنا انقلابا هاما للمشهد في قضايا حماية المرأة من العنف الأسري. فبعد "عودة البطل"، نتلمح من خلال هذا الحكم بداية أفوله.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.