الديمقراطية التونسية أمام تحديات الأمن الذاتي والفوضى: كي يبقى الصراع الثوري صراعا من أجل البناء..


2013-02-11    |   

الديمقراطية التونسية أمام تحديات الأمن الذاتي والفوضى: كي يبقى الصراع الثوري صراعا من أجل البناء..

قبلما تستفيق تونس من صدمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وقبلما تستوعب الرسائل الخطرة التي حملتها الواقعة وما تؤذن به من دخول السلاح والتصفيات الجسدية حلبة الصراع السياسي، وبينما كانت الجموع تودع الراحل وتسعى لصنع وحدة وطنية تقيها أخطار المنزلق الخطير، بينت ظواهر جانبية أن احتكار الدولة للعنف المنظم وحماية الأمن العام أضحت بدورها محل تهديد مباشر.
بادر الاتحاد العام التونسي للشغل الذي دعا الى اضراب عام يوم مراسم جنازة الفقيد شكري بلعيد الى دعوة المواطنين لتكوين لجان شعبية تحمي الممتلكات العامة والخاصة دون أي اشارة لوجوب احترام الاجراءات الأمنية والسلط العامة. وتحركت التيارات السلفية على الأرض لتسير ما ذكرت أنه لجان حماية تسلح أعضاؤها بالعصي وادعوا أنهم يعاضدون مجهود الأمن في حماية الممتلكات العامة. وفي خضم ذات الفوضى، برزت أصوات تدعو الى تولي الجيش الوطني لمسؤولية الأمن وتجاهر برفضها لقوات الأمن الوطني بحجة عدم ثقتها فيها.
ورغم أن قوات الأمن والجيش تمكنت من فرض سيطرتها على مجريات الأمور وتدخلت بشكل حال دون حصول فوضى عارمة- التي يرجح أن من خطط للاغتيال كان يبتغي تحقيقها- فان الحديث عن لجان الحماية الشعبية وبروز مجموعات سلفية بشكل علني تسير دوريات في عدد من مناطق البلاد والدعاية لها في شبكات التواصل الاجتماعي وابراز ترحيب المواطنين بها، كلها أمور تطرح تساؤلات كبيرة بشأن المخاطر التي قد يؤدي اليها اضعاف الدولة على مستقبل الانتقال الديموقراطي في تونس.
كانت لجان الحماية الشعبية التي تكونت تلقائيا في تونس بداية من ليلة 14 جانفي 2011 من العلامات المضيئة في تاريخ الثورة التونسية اذ تمكنت هذه اللجان من حماية البلاد من الدخول في فوضى العنف وسيطرة العصابات في زمن كانت فيه مؤسسات الدولة في حالة انهيار خصوصا منها المؤسسة الأمنية. ولكن بعد سنتين بعد الثورة وبعدما انطلق مسار اعادة البناء الديموقراطي، تكون الدعوة لاعادة تشكيل هذه اللجان ويكون تشكيلها فعليا وتأطيرها من قبل جماعات تتهم بممارسة العنف السياسي من المؤشرات المقلقة جدا. كما يكون استمرار الخطاب الذي يشكك في مؤسسات الدولة ويرفض الامتثال لها بدعوى أنها فاسدة بدوره مصدرا للتخوف على مستقبل البلاد.
يشترط لبقاء الدولة أن تكون مؤسساتها وحدها هي التي تحتكر العنف المنظم فوجود مليشيات ولو كانت غير مسلحة أو مجموعات منظمة تمارس سلطات الضبط العام ولو لم يكتمل تطورها لتصبح ميليشيات مهيكلة يفيد بداية تحلل لقوة الدولة. كما يستدعي الحديث عن الدولة واحترامها من قبل مواطنيها أن يخضع أفرادها لسلطتها ومؤسساتها دون انتقائية بينها بشكل يبرز صدق رغبتهم بالعيش المشترك تحت سلطتها مع احتفاظهم بحقهم في نقد أدائها ومشاركتهم في مجهود إصلاحها.
تتواصل حملات التشكيك في القضاء والأمن واستهداف المؤسستين بشكل دائم في نسق اتهامي بعدم الحيادية والخضوع للتعليمات السياسية والتلويح الدائم بالالتجاء للقضاء الدولي والدعوات الصريحة باستبدال الأمن بالجيش. فالتحريض على المؤسستين الأمنية والقضائية في المنابر الإعلامية يؤدي بالضرورة إلى ضرب الثقة العامة فيهما ويمنع أعضاءهما من إصلاح ما لحق بهما من ضعف خلال الحقبة الاستبدادية. واستغلال أطراف لأوضاع البلاد وضعف أجهزتها لهيكلة مجموعات منظمة تخرج عن سيطرتها وتخدم مشاريع سياسية تستهدفها يساهم بدوره في تنمية تحديات استمرار احتكار الدولة لسلطاتها. ورغم أن المجموعات السلفية كانت أول من برز على الساحة بتحركاتها المعلنة، فان تتبع تصريحات الزعماء السياسيين يكشف أنها ليست المجموعات الوحيدة التي تشكلت اذ أكد أكثر من سياسي في أكثر من مناسبة أن حزبه كون جماعة من أنصاره تحمي اجتماعاته العامة وتضمن سلامة قياداته.
تواجه مؤسسات الدولة التي تضمن ممارستها لسلطتها في احتكار العنف المنظم استهدافا مزدوجا: فمن جهة يتم إضعاف معنوياتها من خلال الاتهامات والرفض لممارستها لدورها ومن جهة أخرى تسعى أطراف لتكوين قوى ومؤسسات توازيها وتتهيأ أحيانا للانقضاض عليها. ورغم تصارع الشقين، أي جهة الاتهام والجهة التي تتحرك في الخفاء، فان مجهودهما يتقابل في الغايات والنتائج فمن يسعون لانشاء مؤسسات بديلة يستمدون من الخطاب الاتهامي الممنهج مشروعية لاقناع أنصارهم بضرورة ذلك.لا بل أن هذه المجموعات لا تجد حرجا في استغلال مساعي الدولة للسيطرة عليها أو كبحها لاتهامها بالعودة الى سياسات قمع الحريات والتدخل المسيس.
وقد شجع مناخ عدم الثقة في المؤسسات وما أوحت به حملات التشكيك فيها من أنها على وشك الانهيار، بعض العصابات ودعاة الفوضى إلى استغلال حالة الشلل التي عرفتها البلاد يومي 7 و8 فيفري 2013. فتمت مهاجمة المؤسسات الاقتصادية مع محاولات للإضرار بها وسرقة محتوياتها. كما تمت مهاجمة مقرات المراكز الأمنية وقد نجح بعض هؤلاء في إحراق سبعة منها والإضرار بسبعة أخرى. أفشل تصدي الأمن والمواطنين لهذه المحاولات المؤامرة فبقيت الانفلاتات محدودة وتم القبض على من يشتبه في الضلوع فيها وسقط من الأمنيين شهيد وتعرض أكثر من خمسين منهم لأضرار بدنية متفاوتة الخطورة. ورغم أن التدخل الأمني تمكن من حماية موكب الجنازة من الوقوع في كماشة الفوضويين وعصابات المنحرفين وحمى البلاد من الدخول في دوامة العنف ورغم أن المؤسسة القضائية حرصت على أن تحافظ على علوية القانون وتولت الاهتمام بكل ما من شأنه أن يفيد في الأبحاث التي تم فتحها للكشف عمن يقف وراء جريمة الاغتيال ويخطط لما قد يتجاوزها من احتراب أهلي بما في ذلك التصريحات التي وردت على لسان نشطاء المجتمع المدني في المنابر الإعلامية والتي تضمنت ادعاء بعضهم أن له معطيات تتعلق بهوية من يقف وراء عملية الاغتيال، فان موجات التشكيك والرفض لعمل المؤسسات تتواصل دون التفات للمؤشرات الخطرة التي يكشف عنها الاستهداف الممنهج لمقرات الوحدات الأمنية ودون اهتمام بضرورة مساعدة القضاء على الاضطلاع بدوره في البحث بعيدا عن التجاذبات السياسية. بل تحول اهتمام القضاء بالإفادات وسرعة تفاعله معها سببا جديدا لاتهامه بالتسييس ومناسبة للتشكيك في نزاهته. فبعدما صرح أحد الاعلاميين البارزين في برنامج تلفزي بثته احدى القنوات الخاصة في 09/02/2013 أن لديه معلومات حول هوية من يقف وراء اغتيال الفقيد الشهيد شكري بلعيد وذكر اسم اطار أمني كمتهم وأفاد أن أحد الأمنيين أخبره بذلك، قام قاضي التحقيق باستدعائه مباشرة عقب نهاية الحصة لسماع افادته كشاهد. الا أن العمل المذكور أثار حفيظة الشاهد وجانبا من الطيف الحقوقي وكان مناسبة لادانة عمل القضاء بالسؤال كيف يتم الاستدعاء خارج أوقات الدوام الرسمي وخلال يوم اجازة رسمية؟
تزامن الاغتيال السياسي مع غياب ضوابط تلزم الفرقاء في الساحة بالالتزام بالعمل السياسي السلمي في اطار الالتزام باحترام القوانين الجارية والمؤسسات القائمة. وقد أضحى النفوذ السياسي وقوة الجماعات التي لا تلتزم بالقوانين وتحاول فرض قواعدها على الجميع عامل ضغط على مؤسسات الدولة تفتك بها وفي معنوياتها وفي مقدرتها على العمل والتحرك وتمنع جهدها في الإصلاح.
فكان الاغتيال رصاصة من جملة رصاصات تشترك جميعها في استهداف الأمن العام. ويتعين اليوم التنبه الى افتراض بأن من تولى مباشرة جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد ربما لا يرغب في قتل شخصه وإنما يستهدف من خلال ذلك الإعلان عن بدء عهد من الفوضى. كما يتعين التفطن إلى أن افشال مخطط مماثل في حال وجوده لا يتحقق إلا متى تم التوافق على إصلاح مؤسسات الدولة وتقويتها بشكل يجعلها قادرة على مواجهة التحديات.
 ينتظر من النخبة السياسية على مختلف ألوان طيفها السياسي أن تبادر الى مراجعة خطابها ليكون أكثر عمقا في تعاطيه مع ظواهر مماثلة. يفترض أن يكون لهذه النخبة القدرة على توعية الرأي العام بأن الأمن الذي تدعي الجماعات الخارجة عن القانون بأنها تحميه سينهار ويصبح مجرد وهم بمجرد تمكن هذه المجموعات من إتمام مسارها نحو مزيد التهيكل والتنظيم وربما التسلح. كما ينتظر من ذات النخبة أن تتنبه لكون استغلال الدعاية الإعلامية في استهداف مؤسسات الدولة بمناسبة الصراع السياسي لا يسمح بالتصدي للخطر الداهم وإنما يوفر له الظروف الملائمة ليجر البلاد إلى دوامة الفوضى. نحتاج في تونس اليوم إلى ثقة أكبر في المستقبل وهذه الثقة تحميها دولة قوية تحتكر وحدها مسؤولية حماية أمنها، دولة يثق مواطنوها وكل من يتعامل معها في مؤسساتها التي تعمل وفق قوانين الجمهورية وتحترم قيمها. تبدو تحديات المرحلة القادمة كبيرة والأخطار التي تحدق باستمرار ما يصطلح محليا على تسميته بالنموذج التونسي هامة. فذلك النموذج الذي يقوم على ثوابت الدولة المدنية المتمثلة في المزاوجة بين الانفتاح والأصالة تهدده جماعات التكفير وأنصار المليشيات ومعهم مناصرو الاعتصامات التي تعطل المؤسسات وتقطع الطرق وتجعل من الاعتداء على مؤسسات الدولة عنوانا لثورة جديدة تدعو اليها.
ينتظر من النخبة أن تلتفت عن الصراعات التي تهدم البنيان وتخدم مصالحها الانتخابية  لتخلق خطابا يقدر على المزاوجة بين النهج الثوري الإصلاحي وضمان استمرار مؤسسات الدولة، تلك الدولة التي تضمن الحرية للجميع مع حماية أمنهم. فالصراع وان أعلن أعداء الحرية إمكانية تحوله الى صراع دموي يجب أن يتم الدفاع على بقائه صراعا من أجل البناء، بناء دولة قوية تحترم حقوق الإنسان وتقدر مؤسساتها على أن تدافع عنها وتنمي ثقافتها. ولا يتحقق ذلك ما لم يتم النأي بالمؤسستين القضائية والأمنية عن حلبة التجاذب والتوظيف السياسي ودعم جهدهما في الدفاع عن استحقاقات الثورة.
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني