قرار قضائي بردّ قاضٍ معفًى لعمله في تونس


2022-08-25    |   

قرار قضائي بردّ قاضٍ معفًى لعمله في تونس

في حكمها الذي صدر بتاريخ 23-08-2022، اعتبرت ريم بن شهيدة القاضية الاستعجالية في المحكمة الابتدائية في تونس، قرار الرئيس قيس سعيد بإعفاء 57 قاضيًا بتاريخ 01-06-2022 من قبيل  “الاعتداء المادي” الذي يتيح للقاضي العدلي اختصاص الإذن “بإجراءات تنفيذية مستعجلة لمواجهته”. وانتهت تبعا لذلك إلى القضاء “ابتدائيا استعجاليا” بإرجاع من كان مدّعيًا أمامها وطلب منها رفع أثر ذلك الاعفاء عنه “لمزاولة عمله كقاضٍ وطبق ما كان عليه الحال قبل صدور وتنفيذ أمر الإعفاء إلى حين البتّ في وضعيّته المهنية من قبل المجلس الأعلى للقضاء مع الإذن بالتنفيذ على المسودة”.

وقبل المضيّ في إبداء الملاحظات حول هذا الحكم، يجدر التذكير بأمرين:

أولا، استند بشكل خاص على المرافعة التي قدّمها المحامي بليغ العباسي والتي أمكن اعتبارها مرافعة نموذجية في الدفاع عن قيمة القاضي الطبيعي الساهر على حماية الدستور والذي عليه أن يتصدى لكلّ مس بالحقوق والحريات، فضلا عن أهميتها في التأسيس لنظرية القرار المعدوم ولما ترتّبه من آثارٍ على توزيع الاختصاص بين القضاءين العدلي والإداري.

ثانيا، أنه يأتي في وقت هام جدا، بعد قرابة أسبوعين من صدور 49 قرارًا من المحكمة الإدارية بإيقاف قرارات سعيّد بإعفاء 49 قاضيًا، وإبداء وزارة العدل آراء يستشف منها رفضها تنفيذ هذه القرارات

هذا الحكم بالغ الأهمية يستدعي الملاحظات التالية فيما تعلق بها:

أولا: تكريس نظرية “الاعتداء المادي”

اعتبرت القاضية بن شهيدة أن مس المرسوم عدد 35 بحقّ القضاة المعفيين في التقاضي وفي قرينة البراءة وخرقه للدستور يعقد اختصاصا فعليا للقاضي الاستعجالي العدلي الذي يكون مطلوبا منه ليس إلغاء المقرر الإداري بل كفّ ما ينتج من ضرر. واستندتْ في موقفها هذا لنظرية الفعل المادي التي أرساها فقه القضاء الفرنسي ولمراجع فقهية فصلت القول فيها. ويبدو موقفها هذا منسجما مع فقه قضاء محكمة استئناف صفاقس في قضية مصب النفايات وإن كان غير منسجم مع تطور فقه القضاء الفرنسي في الموضوع، تبعا لتطور عمل القضاء الإداري في فرنسا.

اذ يذكر أنه في فرنسا، وبعد صدور القرار المبدئي لمحكمة التنازع المؤرخ في 17-06-2013 بات فقه القضاء يقصر الحقوق التي يشملها الاستثناء في الحرية الفردية وحق الملكية. ولكنه وخلافا لهذا التوجه ذهبت محكمة الاستئناف بصفاقس في حكمها المبدئي الذي صدر تاريخ 24/1/2022 لاعتبار  أن تكدّس النفايات في جهة صفاقس لمدد طويلة بنتيجة سوء الإدارة إنما يشكل اعتداءً صارخًا على الحقوق والحريات ومنها الحقّ في البيئة السليمة وأنه يكون لها بنتيجة ذلك “سلطة استثنائية” تمكّنها من اتخاذ إجراءات تنفيذية مستعجلة لغاية حمائية بما أشّر من حينها على كون فقه القضاء العدلي التونسي الذي أعمل  نظرية الاعتداء المادي يميل للتوسع في نطاقها في سياقات تحمي الحقوق والحريات .

ونقدر أن هذا الموقف القضائي التقدمي يعود في جانب كبير منه للعمل الذي تمّ خلال العشرية الفائتة على تطوير ثقافة استقلالية للضمانات التي توفرت خلالها لممارستها.

ثانيا: حماية الحقوق والحريات مدخل للرقابة على الدستورية والشرعية  

اعتبرتْ القاضية بن شهيدة في حكمها إسناد الرئيس لذاته صلاحية الإعفاء وتفعيله له “مخالفًا لأحكام الدستور سواء من حيث عدم اختصاصه بذلك وفي غياب أي سند قانوني يؤسسه، وفيه خرق لمبادئ كونية تتمثل أساسا في احترام حق الدفاع والتمتع بقرينة البراءة وأساس المحاكمة العادلة بما يشكّل اعتداءً ماديًا يسحب من المطلوب محاجّة القاضي العدلي بعدم اختصاصه والذي يعقده لنفسه نظرًا لخطورة الأفعال المرتكبة ومساسها بشكل واضح بالحقوق والحريات الأساسية “.

ويتضح من قولها ذاك أنها وفي إطار نظرها في اختصاصها، اعتبرتْ أن إسناد رئيس الجمهورية  لذاته بموجب المرسوم عدد 35  صلاحية إعفاء القضاة يخرق الدستور النافذ في تاريخه. وتأسيسا على ذلك، انتهتْ للقول بكون استعمال الإعفاء لتسليط عقوبات تأديبية يمسّ بأصول المؤاخذة العادلة. فهو أي الإعفاء “إجراء تُنهى بمقتضاه مهامّ الموظف العمومي لا يقع إعماله إلا في صورتين: صورة عدم قدرة الموظف على استئناف العمل بعد إحالته على عدم المباشرة لأسباب صحية وصورة القصور المهني الثابت”، بحيث من شأن توظيفه في غير ذلك أن يمسّ “بمبدأ الأمان الوظيفي للقضاة ويشكل سيفا مصلتًا على رقبتهم ويمسّ من إستقلالية القضاء…” ويحمل  القاضي العدلي بوصفه “حصن الحقوق والحريات الفردية” مسؤولية ” اتخاذ إجراءات تنفيذية مستعجلة لردّ الاعتداء”. ويُلاحظ هنا أن قاضية العجلة وإن كانت لم تصرح بتبنيها لنظرية “القرار المعدوم” فيما تعلق بالإعفاءات، فإنّها انتهت فعليا للتصريح بعدم دستورية المرسوم 35 باستعمال رقابة الدفع قبل أن تصل لترتيب أثر المعدومية على قرار الاعفاء الذي استند إليه.

ثالثًا: موقف قضائي جديد من الإعفاءات.. على خلفية كونها اعتداءً على القضاء وجب صدّه

يبدو قضاء بن شهيدة مبدئيّا في تأسيسه النظري. وزيادة على ذلك، هي تعرض بتفصيل كبير لقيمة القضاء المستقلّ و لواقعة الإعفاءات وأثرها عليها. وعليه، يوضح الحكم أن حرمان القضاة المشمولين بالإعفاء من الحقّ في المؤاخذة يمس بالحقّ في المحاكمة العادلة وبضمانات استقلالية القضاء. وهو لهذا الاعتبار يعدّ موقفًا قضائيًا جريئًا وصريحًا من الإعفاءات بما يعطيه أهميّة تتجاوز ربما قرارات إيقاف تنفيذها التي صدرت بتاريخ 09-08-2022 عن رئيس المحكمة الإدارية والتي تمّ الاكتفاء فيها بالحديث عن وجود مبرّر فعليّ للإعفاء من عدمه  دون تناول للموقف المبدئي من ذاك الإجراء ومن خرق المرسوم عدد 35 للدستور.

رابعًا: التنفيذ على المسودة في مواجهة سلطة لا تلتزم بأحكام القضاء

اعتبرت المحكمة أن الضرر الذي لحق بالمدعي على درجة من الخطورة تستدعي رفعه حالًا (بمعنى أن يعتبر الحكم نافذا على أصله). وأذنت لذلك ” بتنفيذ حكمها على المسودة”. وهو أمر يفرض السؤال حول إن كانت السلطة السياسية ستذعن لقول القضاء وبالتالي تكرس قيمة دولة القانون أم انها ستمتنع عن ذلك فتؤكد شبهة اتجاها نحو إرساء منظومة حكمٍ لا مكان فيه لسلطة القانون. ونلاحظ هنا أن ذات السّؤال طرح على ذات الجهة بمناسبة صدور قرارات إيقاف تنفيذ الإعفاءات التي صدرت عن المحكمة الإدارية وتم الاعلام القانوني بها ولم تنفذ بعد في خرق فاضح للقانون.

خلاصة:

يؤكد الحكم الاستعجالي موضوع التعليق توجّه القضاء العدلي للتوسع في اعتماد نظرية “الفعل المادي” و”القرار المعدوم” وهي مسألة تجد من يرحّب بها[1] ومن يعارضها[2]. كما يبيّن بأسانيد قانونية أن مذبحة قضاة تونس اعتداء على القضاء يتجاوز أشخاص القضاة المعفيين ليمسّ تصور الوظيفة القضائية وشروط ممارستها باستقلالية. ويؤمل أن يكون نشره مناسبة لتطوير النقاش القانوني في الموضوع في ذات حين نشر الوعي بعدالة القضيّة التي بتّ في موضوعها.


[1]  في محاولة لرصد ردود الفعل الأولى عن الحكم والتي نرجو ان تتطور لتحليل وتعليق معمق نذكر ان القاضية   الإدارية  ايمان المزوغي  رحبت بجرأة زملائها العدليين التي اكدت انها تنسجم مع فقه قضاء المحكمة الإدارية فيما تعلق بالقرارات المعدومة  . ومنها  الحكم لصادر عن المحكمة الإدارية في القضية عدد 1/16531 بتاريخ 24 ديسمبر 2008 والذي ورد في تسبيبه  ” أن التصريح بالإنعدام يجد مجالا لتطبيقه كلما كانت أوجه خرق الشـرعية التي تضمنها قرار إداري ما قد بلغت في جسامتها وتظافرها وفداحتها حـدا يصــيره لا فقط مشوبا بمجرد عيب من العيوب التي تجعله حريا بالإلغاء بل تنحدر به إلى مرتبـة القرار المعدوم الذي لا أثر له وتنزع عنه الصفة الإدارية من الأساس وحيث أنه تفريعا على ما تقدم ، فإن انحدار القرار إلى مرتبة العمل المادي العديم الأثر قانونا من شأنه أن ينزع عنه كافة الضمانات الإجرائية التي تحكم أطر الطعن العادي في القرارات الإدارية ليتحرر المخاطب بأحكامه من الضوابط الشكلية والإجرائية التي تحكم الطعن العادي بالإلغاء ويفقد ذلك القرار في ذات الوقت الحصانة القضائية التي توجب الطعن فيه حصريا لدى قاضي تجاوز السلطة و يتسنى بالتالي لأية جهة قضائية الحكم بإلغائه ، ذلك أنه وبحكم عيوبه الجسيمة يفقد الحماية التي يكفلها مبدأ التفريق بين الهيئتين الإدارية والقضائية للقرارات الإدارية العادية إبان مراقبة قاضي تجاوز السلطة مشروعيتها “

[2]   في تفاعلها مع الحكم اعتبرت القاضية الإدارية سندس بشناوي ” ان مسألة الاختصاص لا تقبل التأويل ..وبالنظر لكون الطلب تعلق بعمل اداري واضح المعالم الذي يقبل الطعن بدعوى تجاوز السلطة فهو يخرج عن ولاية القاضي العدلي  الذي لا يجوز له بصريح قانون تنازع الاختصاص توجيه أوامر للإدارة ” قبل ان تخلص  لكونه كان يمكن قبول هذا التداخل لو كنا في مواجهة دفع بعدم مشروعية قرار اداري اثير امام القاضي الجزائي ..فالقاضي الجزائي يمكنه النظر في شرعية القرار الإداري متى كان ذلك شرطا لنظر التهمة او اثباتها وهو المبدأ الذي ارسته محكمة التعقيب الفرنسية بموجب قراراها بتاريخ 21-11-2017 .

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، حريات ، المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، مرسوم ، استقلال القضاء ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني