السوريون والعقاب الجماعي (2): ترحيل قسري وإخلاءات جماعية


2024-06-12    |   

السوريون والعقاب الجماعي (2): ترحيل قسري وإخلاءات جماعية
تدمير مخيّم 026 في بلدة بر الياس، البقاع الأوسط- تصوير سعدى علوه

بعدما استعرضنا في الجزء الأوّل من التحقيق كيف أدّت الإجراءات العشوائيّة التي اتخذتها الدولة اللبنانية في موضوع تنظيم إقامة السوريين المتواجدين على أراضيها إلى تحوّلهم إلى أشخاص خارجين عن القانون وغير مرئيين لها، فلا تملك المعلومات المطلوبة عنهم تخوّلها إدارة وجودهم، سنخصّص الجزء الثاني للحديث عن الانتهاكات التي استبقت وترافقت مع هذه الإجراءات من ترحيل قسري وتهديدات بالإخلاءات وصولًا إلى العنف والخطف. وتظهر هذه الإجراءات والانتهاكات كيف تفرض السلطات اللبنانية عقابًا جماعيًا على السوريين من أجل إرغامهم على العودة إلى سوريا بعدما فشلت على مدى سنوات في إدارة هذا الملف بشكل يضمن مصلحة لبنان وسلامة السوريين فيه. ونستند في تحقيقنا على شهادات من أشخاص سوريين قابلناهم واجهوا شخصيًا أو واجه أحد أقربائهم أو معارفهم انتهاكات من هذا النوع، معتمدين أسماء مستعارة نزولًا عند طلبهم.

وعلى الرغم من أنّ هذه الانتهاكات ليست جديدة إلّا أنّها تعتبر “الأسوأ التي يتعرّض لها اللاجئون السوريون في لبنان” حسب محمد حسن المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الإنسان (ACHR) وذلك لأنّها ناتجة عن تنظيم واتفاق مسبق ما بين مختلف الأجهزة الأمنية اللبنانية ووزارة الداخلية والبلديات مدعومة وموجهة من سياسيين لبنانيين. وهذا ما أدّى إلى ارتفاع وتيرة الانتهاكات في حق اللاجئين. 

مخيّم 026 في بلدة بر الياس، البقاع الأوسط

الترحيل القسري: المهرّبون بالانتظار

قبل حوالي أسبوعين أوقف محمد في منطقة البقاع أثناء تنقّله على دراجة ناريّة، وتمّ ترحيله إلى سوريا مباشرة. “محمد منشقّ عن الجيش، لذلك دخل لبنان نهاية العام 2015 بشكل غير نظامي”  يقول أحد أفراد عائلته مضيفًا “رحّلوه في اليوم التالي لتوقيفه، وسلّموه للفرقة الرابعة، وهو مطلوب وحياته معرّضة للخطر”. لا يعرف قريب محمد إنْ كان الأخير سُئل عن رغبته من عدمها في العودة إلى سوريا كما تنصّ القوانين ولكنه يقول “لو كانوا سألوه لأجاب لا، لن يذهب برجليه إلى التعذيب أو الموت، هو منشقّ عن الجيش” يقول.

كان محمد محظوظًا حسب ما يقول قريبه إذ إنّ أحد الضباط السوريين “احتفظ به، لم يسجّله في عداد الواصلين، وتواصل معنا طالبًا 20 ألف دولار مقابل إعادته”. استطاعت عائلة محمد تأمين 11 ألف دولار أوصلتها للضابط وعاد محمد مرة أخرى إلى لبنان في غضون أيام قليلة.

لم يكن محمد يحمل إقامة فهو لم يستطع تسوية أوضاعه بعد دخوله إلى لبنان بشكل غير نظامي، “كان يُطلب منه لذلك أن يخرج إلى سوريا ويعود وهو لا يستطيع”. وبعدما عاد إلى لبنان بعد ترحيله عمل على تحصيل جواز سفر كلّفه حوالي ألف دولار، ومن ثمّ سافر بشكل قانوني إلى ليبيا حيث ستكون وجهته الثانية بحرًا بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا ومن بعدها هولندا حيث سبقه إلى هناك أقرباء له. وقد وثّقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بين كانون الثاني وآذار 2024 إقدام الجيش اللبناني والمديرية العامة للأمن العام على الإعادة القسرية لمنشقّ عن الجيش السوري وناشط معارض. 

كما محمد، تتحدّث سميرة عن أنّ 3 من أصدقاء أخيها رحّلوا بناء على الإجراءات التي اتخذتها المديريّة العامة للأمن العام وعادوا بعد أيام إلى لبنان “عم يرجعوا عن طريق مهرّبين، ولكن ليس لدى الجميع القدرة على تكبّد التكاليف، المهربين عم يعملوا ثروات من وراء الترحيل” تقول لـ “المفكرة”.

وكانت “المفكّرة” قد وثّقت في العام 2023 كيف تُسهم عمليات الترحيل إلى إثراء المهرّبين على الحدود. وكان مركز “وصول” أشار إلى أنّ 75 لاجئًا من أصل 336 شخصًا تم ترحيلهم ( بينهم 12 لاجئًا يملكون أوراق إقامة قانونيّة) بين نيسان وأيار العام الماضي أفادوا بأنّ السلطات السورية أعادت تسليمهم إلى مهرّبي بشر المتواجدين على الحدود اللبنانية لإعادتهم إلى لبنان لقاء مبالغ مالية تتراوح بين 150 و300 دولار أميركي للفرد الواحد بينما وصلت المبالغ المالية الى نحو 3000 دولار أميركي للأفراد الذين يواجهون مخاطر أمنية مباشرة.

“قلت لا وأعادوني”

بالإضافة إلى الترحيلات التي ينفذها الجيش، تقوم المديرية العامّة للأمن العام أيضًا بترحيل بعض السوريين بعد توقيفهم. ومن الأشخاص الذين تمّ ترحيلهم، تواصلت “المفكرة” مع جمال الذي رحّل قبل إجراءات الأمن العام بأسبوع تقريبًا. يروي أنّّ توقيفه جرى عند أحد الحواجز في بيروت بينما كان في سيّارة أجرة. “بعدما عرفوا أنّني سوري ولا أملك إقامة رسمية، وضعوني في سيّارة مقيّدًا كان داخلها حوالي 5 أشخاص آخرين مقيّدين” يقول، مضيفًا: “أخذوني إلى ساحة العبد (أي مركز الاحتجاز التابع للأمن العام)، واحتُجزت هناك لحوالي أسبوع، تجاهلوا طلبي بداية بالحصول على محامي، أخذوا هاتفي، ولاحقًا سمحوا لنا بإجراء اتصال شرط أن يكون في حوزتنا بطاقة مشرّجة”، ولم يتمكن من إجراء الاتصال الهاتفي بنفسه كونه لم يكن لديه بطاقة وهي غير متوفرة في المركز، فأجرى سجين آخر الاتصال نيابة عنه.

بعد 5 أيام من احتجازه طُلب جمال إلى التحقيق الذي اقتصر حسب قوله على سؤالين اثنين، الأوّل “ما اسمك؟” والثاني “هل ترغب في العودة إلى سوريا؟”. وعلى الرغم من أنّه عبّر عن عدم رغبته في العودة فوجئ في اليوم التالي بترحيله.

“في صباح اليوم التالي للتحقيق، أدخلونا مقيّدين إلى آليّة، كان معي أشخاص مرعوبين مهسترين، عليهم عسكرية” يقول جمال مشيرًا إلى أنّ سيّارة أوصلتهم إلى منطقة المصنع حيث وضعوا في زنزانة قبل أن يتمّ نقلهم بسيّارة أخرى وتسليمهم للأمن العام السوري.

لم يتعرّض جمال لأيّة مضايقات على الحدود “أشكر الله أنني كنت من بين الخارجين بشكل نظامي ومن بين من استطاع أصدقاؤه إيصال 100 دولار لي لأدفعها على الحدود، بعدما اتصلت بأحدهم عن طريق الشاويش خلال احتجازي في بيروت”.

يروي جمال أنّ المهربين متواجدون دائمًا “حتى معنا بالسجن كان هناك مهرّبون يسألوننا من يريد أن يعود إلى لبنان”. دخل جمال لبنان في العام 2012 بشكل نظامي وكان على كفالة صديقه ولكنّه لم يستطع تجديد الكفالة. ولم يستطع الحصول على إقامة حتّى كعامل لأنّ عمله كان في مجال الفن. بقي جمال بلا إقامة من العام 2014 إلى العام 2024 إلى حين ترحيله مؤخرًا. 

يتحدّث جمال عن الترحيل الفوري: “أنّ يتمّ نقلك مقيّدًا من دون حتّى أن تُعطى الوقت لترتيب أمورك، وإخبار معارفك بأنّك مرحّل”، ويضيف: “أنا صودف أنّ لديّ بيت أهلي في سوريا، ولكنّ حتى هذا البيت ألا أعطى وقت لترتيبه، لجعله قابلًا للسكن، لإنهاء أعمالي في لبنان، وترتيبها في بلد آخر، ساعدني حظّي بأنني لم أكن مطلوبًا، ولكن ماذا عن المطلوبين؟”، مكررًا: “أنا قلت لا وأعادوني”. 

قالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير نشر الشهر الماضي إنَّه تمّ توثيق ما لا يقلّ عن 212 حالة احتجاز تعسّفي لمرّحلين قسرًا إلى سوريا بينها لـ 12 طفلًا و7 نساء، في نيسان 2024، مشيرة إلى أنّ النظام السوري يستهدف اللاجئين الذين تمّت إعادتهم قسرًا من لبنان بعمليات الاعتقال. وفي العام 2023، بلغ العدد 156 عملية اعتقال تعسّفي واحتجاز (بينها لطفلين و5 نساء) ممّن عادوا إلى مناطقهم الأصلية الواقعة تحت سيطرة قوات النظام، معظمهم من العائدين طوعًا من لبنان، بحسب تقرير سابق للشبكة. ووثّق التقرير اعتقال 97 شخصًا من اللاجئين الذين أعيدوا قسرًا من لبنان، معظمهم اعتقلوا من قبل مفرزة الأمن العسكري التابعة لقوات النظام السوري في منطقة المصنع الحدودية.

ونقل موقع “ميغافون” عن مركز “وصول” توثيقه مقتل السوري محمود حسنة (27 عامًا) الشهر الماضي برصاص قوّات النظام السوري على حاجز في مدينة حمص، أثناء محاولته مغادرة مناطق سيطرة النظام إلى الشمال السوريّ، وذلك بعد أيام من ترحيله من لبنان. وذكر “ميغافون” أنّ الحسنة، وهو أب لثلاثة أولاد كان لاجئًا في لبنان منذ 2012 في مدينة طرابلس. وتلقّى الحسنة بعد ترحيله بلاغًا بوجوب التحاقه بالخدمة الإلزامية خلال 15 يومًا، ما دفعه لمحاولة الهروب إلى مناطق سيطرة الفصائل المُعارضة في الشمال السوري.

رحلات العودة الطوعية الى سوريا (المصدر: الوكالة الوطنية للإعلام)

الترحيل بالأرقام

لا توجد أرقام رسميّة حول عدد السوريين الذين تمّ ترحيلهم قسرًا من لبنان إلى سوريا خلال العام الحالي، ولكن بحسب مصدر معني بملف اللاجئين السوريين، فقد شهد هذا العام (أو ما تمّ رصده) ترحيل أكثر من 300 شخص من قبل الأمن العام و1400 آخرين من قبل الجيش اللبناني عبر الحدود البرية في الشمال. بينما كان تعرّض في العام 2023 ما لا يقل عن 13700 شخص لعمليات ترحيل أو إعادة عبر الحدود تمّ تنفيذها من قبل الجيش اللبناني في زيادة ملحوظة مقارنة عن العام 2022 الذي شهد حوالي 1500 حالة. وكان الجيش قد صرّح لمجلس الوزراء بأنّه قام بـعمليات “إعادة ترحيل” لما يقارب 5000 سوري في أيلول 2023. ويؤكّد المصدر لـ “المفكرة” أنّ من بين المرحّلين أشخاصًا مسجّلين في المفوضية ما يعني أنّ ترحيلهم خالف مبدأ عدم الإعادة القسريّة.

وكانت “هيومن رايتس ووتش” نقلت عن مصدر إنساني أنّه منذ نيسان حتى تموز 2023 تمّ رصد أكثر من 100 مداهمة، و2200 عملية اعتقال، و1800 ترحيل للاجئين السوريين. وكان مركز “وصول” وثق عبر تحقيق استقصائي صدر بداية العام الحالي 1080 اعتقالًا تعسّفيًا منذ بداية عام 2023 حتى كانون الأوّل من العام نفسه، رُحّل منهم 763 شخصًا بشكل قسري إلى سوريا.

كما أعلن الأمن العام في قراره الصادر في أيّار عن “استئناف تنظيم عمليات العودة (الطوعية والآمنة) للرعايا السوريين الراغبين بالعودة الى بلادهم برعاية المديرية العامة للأمن العام” وبالتنسيق مع الدولة السورية، وقد تمّ تنظيم رحلة أولى في منتصف أيّار شملت 225 مواطنًا سوريًا.

وفقًا للمحامية غيدة فرنجية من “المفكّرة”، إن “الجيش لا يتمتع بصلاحية قانونية للقيام بترحيل الأجانب، وهو يستند بشكل أساسي على قرار صادر عن المجلس الأعلى للدفاع في 24/4/2019 لتبرير عمليات الترحيل التي يقوم بها بحقّ السوريّين، لكنّ المجلس نفسه لا يملك هكذا صلاحية استنادًا إلى المادة 8 من قانون الدفاع الوطني”. وعن عمليات الترحيل التي يقوم بها الجيش والأمن العام، ترى فرنجية أنّ المشكلة الأساسية تكمن في “عدم تمكين السوريين المعرّضين للخطر في حال إعادتهم قسرًا من الدفاع عن أنفسهم والاعتراض على قرار الترحيل”، موضحة أنّ “الترحيلات غالبًا ما تحصل بشكل سريع وجماعي من دون أن يتم عرض المرّحلين أمام القضاء ومن دون التمييز بين اللاجئ وغير اللاجئ”. وتشدد أن عمليات الإعادة هذه تشكّل “صدمة للمرّحلين الذين يجدون أنفسهم في سوريا بشكل مفاجئ بعد سنوات من الإقامة في لبنان من دون أن يتسنّى لهم ترتيب أوضاعهم في لبنان وفي سوريا على نحو يضمن كرامتهم”. وكلّ هذه الأمور قد تشكّل وفقًا لفرنجية “مخالفة لمبدأ عدم الإعادة القسرية التي يلتزم بها لبنان”. 

وفي تعليق لها على عمليات الترحيل، تقول المفوضيّة لـ “المفكرة” إنّها تواصل دعوتها إلى احترام مبادئ القانون الدولي وضمان حماية اللاجئين في لبنان من الإعادة القسرية، وأنّها تأخذ التقارير المتعلّقة بترحيل اللاجئين السوريين على محمل الجد، وتتابعها مع الجهات المعنية.

وتُضيف المفوضيّة أنّها تقوم وحيث أمكن ذلك بالمتابعة مع أفراد عائلات الأشخاص المتضررين لتقديم المشورة بشأن الحماية وأي دعم آخر يوجب تقديمه، مشيرة إلى أنّه كما هي الحال في جميع البلدان، تدعو المفوضية في لبنان إلى منح الأشخاص الفرصة للتعبير عن أيّ مخاوف قد تكون لديهم في ما يتعلّق بالعودة إلى بلدهم الأصلي، وذلك بهدف تقييم حالتهم على النحو الواجب.

إخلاءات وتهديدات جماعية

إعلان الأمن العام عن الإجراءات الجديدة سبقه ورافقه إصدار سلطات محلّية من بلديات واتحادات بلديات ومحافظين تعاميم تطلب من المواطنين اللبنانيين مساعدتها في تنظيم تواجد السوريين عبر الإبلاغ عنهم حتى يتمّ لهذه السلطات التأكّد من أوراقهم الثبوتية والطلب منهم الإخلاء في حال كانوا غير قانونيّين ولاسيّما بعد مقتل مسؤول القوات باسكال سليمان وما تبعه من خطاب تحريضي في حقّ السوريين. وجاءت التعاميم انطلاقًا من كتاب وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي في 2 أيار الى المحافظين والبلديات والمخاتير لإطلاق حملة مسح وطنية لتعداد وتسجيل النازحين السوريين، والطلب عدم تنظيم أي معاملة أو إفادة لأي نازح سوري قبل تقديم ما يُثبت تسجيله، والتشديد بعدم تأجيرهم أي عقار قبل التثبّت من تسجيله لدى البلدية وحيازته على إقامة شرعية.

صحيح أنّ هذه التعاميم برزت بشكل كبير بعد مقتل سليمان كما ذكرنا سابقًا وتزامنت مع الإعلان عن إجراءات الأمن العام الأخيرة إلّا أنّها كانت تصاعدت منذ بداية العام الحالي حسب محمد حسن المدير التنفيذي لمركز “وصول” حيث وثّق المركز طرد 1306 أفراد أو عائلة لاجئة منذ بداية العام الحالي حتى نهاية الشهر الرابع مقارنة بـ 596 حالة إخلاء قسري طوال العام الفائت.

وليس بعيدًا تتحدّث كاميلا الخشن، منسقة حالات الإخلاء في مرصد السكن التابع لمنظمة “استوديو أشغال عامّة” أنّ عدد تبليغات السوريين عن انتهاكات تتعلّق بالسكن ارتفع بعد مقتل سليمان وبعد قرارات الأمن العام الأخيرة، إذ تلقّى المرصد اتصالات وفي أعداد متزايدة عن إخلاءات أو إعطاء مهل لتسوية أوضاع عائلات سوريين منعًا للإخلاء. وتشير في حديث مع “المفكرة” إلى أنّ المهل كانت قصيرة جدًا ولم تتجاوز أسبوعين وأنّ التهديدات كانت من أصحاب منازل ومن بلديات واستهدفت بشكل أساسي عائلات جميع أفرادها أو بعضهم لا يملكون إقامة رسمية. 

وبحسب الخشن وثّقت “أشغال عامة” 36 حالة إخلاء أو تهديد بالإخلاء منذ 25 نيسان إلى 21 أيار من العام الحالي، وأنّ الجزء الأكبر كان في محافظة الشمال، مشيرة إلى أنّ معظم العائلات التي أخلت منازلها لم تخرج من المنطقة وانتقلت إمّا للعيش في منزل أحد الأقرباء أو توزّع أفرادها عند أكثر من قريب. كما تلقى مرصد السكن خلال الفترة الممتدة من 24 حتى 28 نيسان (بعد مقتل سليمان) اتصالات من منطقة جونية من خمس عائلات سورية تعيش في لبنان منذ سنوات عدّة، بلّغت أنّ البلدية “أرسلت إنذارات غامضة بالإخلاء، بحجّة السكن من دون أوراق قانونية. كما بلّغ المتصلون أنّ بلدية جونية تقوم بإخلاء مجموعة كبيرة من القاطنين في مجمع مؤلف من 4 مبان ومن مبنيين يضمّ كل منهما 70 شقة”. 

وكان ممثل مكتب المفوضية في لبنان إيفو فرايسن وجّه رسالة  في 17 أيّار الماضي إلى وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي، طالبًا التدخّل لوقف عمليات الإخلاء الجماعية المستمرّة لنازحين سوريين. وأوردت الرسالة أنّ المفوضية أُبلغت بنحو 100 إجراء بلدي يستهدف النازحين في شهر نيسان الماضي، وأنّها تلقّت 1022 اتصالًا في الأسبوعين الأوّلين من الشهر الماضي بشأن التحدّيات التي يواجهها النازحون السوريون على الأرض. وأشارت الرسالة إلى تنفيذ 12 بلدية توجيهات محافظ الشمال التي تشمل فرض قيود على التجمّعات، واستخدام المركبات والدراجات النارية من دون رخص، وتطبيق منع التجول.

كما ذكرت الرسالة أنّ المفوضية أُبلغت بإشعارات إخلاء تلقاها نازحون صادرة عن بلديات، وإلى وجود مخطط لإخلاء جميع اللاجئين من منطقة الكورة بشكل قسري، ما يؤثر، بحسب الرسالة، على نحو 2000 شخص يقيمون في المنطقة، مشيرة إلى أنّ الأطر القانونية التي تنظم عمليات الإخلاء القانوني تنص على أن تجري عمليات الإخلاء بتكليف من المحكمة.

وفي 20 أيّار عادت المفوضية وأعلنت سحب الرسالة بناء على طلب وزير الخارجية والمغتربين، مشيرة في بيان إلىّ أنّه تمّ توجيه الرسالة وفقًا للإجراءات المتّبعة مع النظراء الحكوميين المعنيين وبما يتماشى مع المسؤوليات المنوطة بالمفوضية عند بروز قضايا تتعلّق بالفئات الضعيفة في لبنان، بما فيها اللاجئين. 

ووأكّدت المفوضية على أهمية قيام المجتمع الدولي بإعطاء الأولوية للحلول الدائمة للاجئين للمساعدة على تخفيف الضغوط في لبنان، بما في ذلك من خلال تهيئة ظروف في سوريا أكثر مؤاتية للعودة، مجدّدة التزامها بالتعاون بشكل بنّاء مع الحكومة اللبنانية.

وعلى أثرها، أخلت السلطات اللبنانية في نهاية أيّار واحدًا من أكبر مخيّمات النازحين السوريين في الكورة، وهو مجمّع الواحة في ددّة الذي يقطنه حوالي 1500 سوري. وأشرف محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا ميدانيًا على عملية إجلاء السوريين القاطنين في مجمّع الواحة وتفكيك المخيّم الملاصق له. وأكد نهرا استمرار تنفيذ تعاميم وزير الداخلية والبلديات في الكورة والبترون وزغرتا وطرابلس وكل المناطق الشمالية، طالبًا من البلديات اتخاذ القرارات بهذا الخصوص.

كما أزيل في الأسبوع الجاري وبإشراف من مخابرات الجيش وشرطة بلدية زحلة مخيّم للنازحين السوريين في المدينة الصناعية في زحلة تنفيذًا لقرار البلدية بتطبيق القرار القضائي الصادر قبل أكثر من سنة بإخلاء المخيّم بعد مطالبة صاحب العقار المعنيين باسترجاع عقاره.

وكانت “المفكّرة” وثّقت بعض تعاميم البلديات التي تلت مقتل مسؤول القوات باسكال سليمان، ورحيل نحو 30 عائلة سورية على الأقل من منطقة كفرحلدا في جرد البترون يعمل أفرادها في أراضي البلدة الزراعية وخصوصًا في الخيم البلاستيكية. ولم تتمكّن “المفكرة” من التحقق ممّا إذا كانت العائلات قد تمّ ترحيلها أم أنّها تركت المنطقة طوعًا. ولكن الثابت أنّ أحد ملّاك شقق مستأجرة من قبل 5 عائلات سورية طلب منها الإخلاء.

كما وثّقت “المفكرة” مداهمة مخيّم للاجئين السوريين في بلدة برّ الياس، البقاع الأوسط، في 17 نيسان الماضي، من قبل مجموعة من الأشخاص أمهلوا سكّان المخيّم 3 دقائق لإخلاء نحو 20 خيّمة يسكنها أكثر من 20 عائلة، بعد تهديدهم أنّهم سيهدموها فوق رؤوسهم. وكاد يحصل أمر مماثل في مخيّم في بلدة المرج في البقاع الغربي لولا تدخّل شخصيات محليّة. 

وعن قرارات الإخلاء القسري والجماعي الموّجه للسوريين، ترى المحامية غيدة فرنجية من “المفكّرة” أنّ “ربط الحق في السكن بحيازة إقامة رسمية ليس لديه سند قانوني”، وأنّ القوانين “تمنع إخلاء أي شخص من مسكنه بشكل قسري إلّا بموجب أمر قضائي لأنّ الحقّ في السكن اللائق هو من الحقوق الأساسية التي يكرّسها الدستور اللبناني ولأنّ قانون العقوبات يجرّم استيفاء الحق بالذات”. وتشدّد على أنّ هذه القرارات تؤدّي إلى “اقتلاع العائلات السورية بشكل مفاجئ من مكان إقامتها مع كلّ ما يستتبع ذلك من أضرار على تعليم الأطفال وصحّة المرضى والعجزة منهم”. 

وترى فرنجية أنّ هذه الإجراءات ليست حلًا عمليًا أو مستدامًا لأزمة اللجوء من سوريا، بل قد تولّد المزيد من الأزمات والمشاكل وقد تُعيق سير العمل في العديد من القطاعات التي يُساهم فيها المواطنون السوريون، مضيفة أنّه مقابل الفشل المؤسّساتي في التعامل مع هذا الملف ومقابل كلّ عمل عنفي يوجّه ضدّ السوريين لمجرّد أنّهم من سوريا، هناك احتضان مجتمعي لهم في العديد من المناطق اللبنانية، لا سيما من قبل أصحاب عمل ومالكين. 

وفي إطار التضييق على السوريين، وصل إلى “المفكرة” شكاوى من مقيمين في أحد المخيّمات السورية يتحدثون فيها عن تعرّضهم لإجراءات تمييزيّة منها مصادرة ألواح طاقة شمسية أو فرض ضريبة عليها ومصادرة ماكينات الإنترنت فضلًا عن هدم أي خيمة تفرغ حتّى لو كان سكّانها في زيارة خارج المخيّم.

وخلال شهر أيّار، قام الأمن العام بحملات في عدّة مناطق لبنانية من أجل إغلاق المؤسسات التجارية والمطاعم والأفران التي يديرها أو يعمل فيها سوريون من دون إقامة رسمية، وختمها بالشمع الأحمر تحت إشراف النيابات العامّة.

عنف وصل إلى حدّ القتل

لا يمكن الحديث عن الانتهاكات بحق السوريين الذين يواجهون العقاب الجماعي في لبنان لمجرّد أنّهم سوريون، من دون التذكير بحادثة مقتل اللاجئ السوري علي وليد عبد الباقي، نتيجة التعذيب في نيسان. وكانت منظمات حقوقية سورية وثّقت مقتل عبد الباقي،  فذكرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان إنّ عبد الباقي توفّي في 15 نيسان بعد عشرة أيام من تعرّضه للاعتداء والضرب على يد من وصفتهم بـ “مجموعة عنصريين لبنانيين”، فيما نقلت شبكة “أسوشيتد بريس“، عن والده الذي عاد إلى إدلب في شمال سوريا بعد مقتل ابنه، أنّ علي أوقف من قبل مخابرات الجيش لأسباب غير معروفة، من دون أن تتمكّن عائلته من معرفة مكانه إلى حين وجدته أخيرًا في مخفر في بعبدا حيث ظهرت علامات التعذيب على جسده حيث أفاد علي أنّه تعرّض للضرب والصعق بالكهرباء، وتوّفي بعد أيّام. كما ذكرت الوكالة أنّ تقرير الطبيب الشرعي قد تثبّت من وجود جروح على جسده لكنّه خلص إلى أنّ وفاته كانت “لأسباب طبيعية”. 

وكانت وسائل التواصل الاجتماعي ومنظمات حقوقية مناصرة للاجئين وثّقت اعتداءات على لاجئين سوريين في لبنان في أعقاب حادثة مقتل المسؤول في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان، بينها تعرّض شابين سوريين للاعتداء والتعذيب الوحشي، ممّا أدى لإصابتهما بجراح متفاوتة وما تمّ توثيقه في مقطعي فيديو يظهران شبّانًا يضربون شابّين سورييْن ويركلُاهما على رأسيهما، فضلًا عن سحلهما، في زوق مكايل وطبرجا. وكان أحد السوريَّين يحمل حاجيات لأطفاله أثناء عودته من عمله عشية عيد الفطر، وكلّ هذا ترافق مع خطابات سياسيّة حرّضت على السوريين وارتفعت حدّتها بعد مقتل سليمان.

نازحون يحملون مساعدات ضئيلة بعد فيضان سهل عكار

أي حلول لتنظيم أوضاع السوريين؟

يتوافق كلّ من قابلتهم “المفكّرة” على أن الحلول الممكنة لتنظيم وجود المواطنين السوريين في لبنان تتطلب إجراء إحصاء رسمي لهم وتصنيفهم وفقًا لفئات مختلفة تميّز بين اللاجئ وغير اللاجئ، وتضع قواعد مختلفة وفقًا لكلّ منهم ولاحتياجات لبنان بخاصّة في مجال القطاعات الاقتصادية المختلفة.

فيرى الصحافي حسين أيّوب أنّ البداية في حلّ الأزمة يكون من الداتا وتسلّم بيانات المفوضية، ومن ثمّ الحوار مع الحكومة السورية، مشيرًا إلى ضرورة تجزئة الملف، فهناك سوريين موجودين في لبنان بإقامات شرعية ولديهم رساميل ومشاريع في لبنان ويجب التعامل معهم كما تنص القوانين اللبنانية. وهناك العمالة السورية الموسمية التي  يجب تنظيم تواجدها عبر وزارة العمل في الدولتين، بالإضافة إلى البحث في إمكانيّة إيجاد صيغة خاصة لعائلات هؤلاء السوريين ولا سيما قضية تحويل الأموال لعائلاتهم. ومن الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار، حسب أيوب، أيضًا وجود عشرات آلاف الشبان السوريين الذين يحاذرون العودة ومعظمهم من المؤيدين للنظام ومشكلتهم أنّهم يرفضون تأدية الخدمة الإلزامية وبالتالي يجب حثّ الحكومة السورية على إعفاءات مقابل بدل مادي مثلًا. ويُشدّد أيوب أيضًا على ضرورة  أن تشمل الحلول الموقوفين واحترام مبدأ عدم الإعادة القسرية.

وحول موضوع تسليم بيانات المفوّضية إلى الدولة اللبنانية، يُشار إلى أنّ  المفوضية أوضحت في حديث مع “المفكرة” أنّها توصّلت والحكومة اللبنانية إلى اتفاق بشأن مشاركة البيانات حول اللاجئين المسجّلين لديها في 8 آب من العام الماضي يستند إلى تعاون طويل الأمد مع الحكومة اللبنانية، ويلتزم بالحماية الدولية والمعايير العالمية لحماية البيانات، مضيفة أنّه وتماشياً مع هذا الاتفاق، قامت المفوضية بمشاركة بيانات حيوية أساسية للاجئين السوريين في لبنان بدفعة واحدة في شهر كانون الأول العام الماضي، وباستكمالها عملية مشاركة البيانات الشخصية هذه، تكون المفوضية قد أوفت بالتزامها بموجب اتفاق 8 آب 2023. وأوضحت المفوضية أن الحكومة اللبنانية التزمت بعدم استخدام أي بيانات تمت مشاركتها لأغراض تتعارض مع القانون الدولي، ومع مبدأ عدم الإعادة القسرية وموجبات القانون الدولي.

وتبعًا لطلب الأمن العام من “المفوّضية” ما وصفه بـ “بعض البيانات الأساسية الإضافية على “الداتا” المسلّمة إليها سابقًا، وذلك لحسن استثمارها ضمن خطتها الإستراتيجية لمعالجة ملف النزوح السوري عبر إعادة تقييم المسجلين لدى المفوضية، ومدى أحقيتهم باستمرار تسجيلهم”، أشارت “المفوّضية” أنّها تأخذ طلب المديرية العامة للأمن العام في ما يتعلق ببيانات اللاجئين السوريين على محمل الجد وأنّها بصدد مراجعة الطلب بدقة بالتعاون مع مكتبها الرئيسي.

وليس بعيدًا، تعتبر المحامية غيدة فرنجيّة من “المفكّرة” ومؤسّسة “سينابس” Synaps البحثية التي تُعنى بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية، أنّه كما لا يعتبر منطقيًا ترحيل كلّ السوريين، فإنّه ليس منطقيًا أيضًا إعتبار أنّ كلّ السوريين معرّضون للخطر في حال عودتهم إلى سوريا. 

وتُشدّد فرنجية و”سينابس” على أنّ اعتماد معيار من تسجّل لدى المفوّضيّة قبل العام 2015 لتحديد من هو لاجئ ومن هو غير لاجئ ليس دقيقًا، إذ إنّ هناك أشخاصًا لجأوا إلى لبنان قبل العام 2015 وربما لم يعد لديهم أسباب جديّة للمحافظة على صفة اللجوء، فيما هناك آخرون لجأوا بعد هذا التاريخ وعندهم كلّ شروط اللاجئ. وتشير “سينابس” إلى أنّ هناك فئات كبيرة من المجتمع السوري تهجّرت بعد 2015 كأهالي غوطة دمشق ودرعا وحلب التي باتت تحت سيطرة الحكومة السورية بعد هذا التاريخ، إذ لجأ الكثير من أهالي هذه المناطق لأسباب أمنية وسياسية بحتة وليس لأسباب اقتصادية، وكثير من هؤلاء هم صحافيون وناشطون ومحامون وعودتهم إلى سوريا قد تعرّض حياتهم للخطر. وترى فرنجية أنّه على الدولة اللبنانية أن تضع آلية تضمن عدم ترحيل السوريون الذين قد يتعرّضون للخطر في حال إعادتهم إلى سوريا، سواء كانوا مسجّلين لدى المفوضية أم لا، وتمكّنهم من الدفاع عن نفسهم والاعتراض على قرارات الترحيل أمام القضاء. 

وفي حين تُشير “سينابس” إلى أنّ لبنان عجز خلال السنوات الماضية في أن ينظّم أوضاع السوريين ضمن القوانين والمصلحة اللبنانية مع احترام القوانين والاتفاقيات الدوليّة، ممكن أن تكون إحدى الطرق المنطقية اليوم لإدارة هذا الملف هي تصنيف السوريين المتواجدين في لبنان بطريقة عقلانية بالتعاون بين المفوضية والدولة بهدف تحديد من هو لاجئ ومن هو عامل ومن هو مهاجر اقتصادي وغيرها من الفئات، ومن ثمّ التُعامل مع كلّ فئة ضمن الشروط والقوانين والجهات المسؤولة عن انتظامها. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، فئات مهمشة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، سوريا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني