“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (11) الحراك القضائي يحوّل الاستفتاء من ستارة إلى منبر


2022-10-24    |   

“الجوع ولا قضاء الخضوع”: مذكّرات مُرافق (11) الحراك القضائي يحوّل الاستفتاء من ستارة إلى منبر
القاضي يوسف بوزاخر

يومي عيد الأضحى ، غاب عن النادي زوّاره من غير أسر المضربين، وقد كان الأمر متوقعا لما يميّز هذه المناسبة فيما جرت عليه التقاليد الاجتماعية من التزامات عائلية متعددة تشغل عما سواها ولا تترك له أي مجال. في المقابل، كان من المتوقّع أن تعود للمكان حيويته بعد ذلك. إلا أن التوقّعات هنا خالفت الواقع.

ما بعد العيد: للاستفتاء والصيف أحكامهما

في إطار إرسائه لما سمّاها الجمهورية الجديدة، أعلن الرئيس قيس سعيد بتاريخ 30-06-2022 النسخة الأولى لمشروع دستوره الجديد[1] وعاد ثمانية أيام بعد ذلك ليغير فيها بدعوى إصلاح أخطاء تسرّبت إليها[2]. وكان أصدر قبل شهر دعوة للناخبين للمشاركة في استفتاء حوله قرّر أن يجري يوم 25-07-2022[3] بإشراف من هيئة انتخابات نصّبها للغرض. وقد أدّت أهمية الحدث ذاك لأن انشغلت النخبة السياسية بتحديد الموقف من المشاركة في الاستحقاق من عدمه وتحليل النظام السياسي الذي يبشّر به. وغاب بذلك عن خطابهم أو كاد أيّ حديث عن إعفاءات القضاة وإضراب جوعهم وقلت زيارات التضامن معهم. فضلا عن ذلك، عاد القضاة إلى أعمالهم بعدما أنهوا إضرابهم عن العمل الذي خاضوه طوال … أسابيع. وقد تزامنت عودتهم هذه مع بداية العطل الصيفية لأبنائهم مما قدم كتفسير لتراجع كبير في عدد من كان دأب على المواظبة على زيارة النادي مؤازرة لزملائه.

فرض هذا الواقع طرح السؤال حول سبل إعادة الإشعاع لتحرّك نضالي أرهقه الرئيس. وقد نقل للمرافق أن يوسف بو زاخر كان أول من نبه للأمر وقاد زملاءه لصياغة وصفة علاج له. فلبوزاخر -أو المعلّم كما يحلو لهم مناداته- مكانة خاصة وسطهم استحقّها لتاريخه القضائي الذي كان من أهمّ فصوله أنّه كان عضوا منتخبا بالهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي ومن بعدها بالمجلس الأعلى للقضاء الذي انتخبه أعضاؤه رئيسا له، بما حوله لرمز لمؤسسات القضاء المستقل. وأنه وزيادة على ذلك بسبب مواقفه المتمسكة باستقلالية القضاء ورفضه خدمة مشروع تدجينه أثناء تأدية مهامه تلك كان ضمن قائمة من شملتهم الإعفاءات واستحال بعد ذلك رمزا للشرعية وإسما يختزل في دلالاته نضال القضاء من أجل ضمانات استقلاليته.

البحث عن خطة منعا لنسيان القضية أو حجبها

فيما مضى من أيام إضراب الجوع لم يكن يوسف بوزاخر ظاهرا في الصورة للمتابعين. ومردّ ذلك أنه وربّما لعمق شعوره بالظلم كان كلما كثر عدد الحاضرين ابتعد عن جمعهم لينفرد بسيجارته وفنجان القهوة في صمت لا يخرج عنه إلا جوابٌ عن سؤال يصرّ شخص على طرحه عليه. ولكنه وبمجرد مضيّ يوم أو يومين بعد العيد، غيّر من أمره وبات يتصل بزملائه ليطلب منهم الحضور للنادي وليتحدث لهم وأعضاء المكتب التنفيذي لجمعية القضاة – متى حان وقت السمر- عن الحاجة لخطة اتصالية تعيد الإضراب لواجهة الأحداث. وفي أحد أهم اللقاءات في النادي، خاطب بو زاخر زملاءه: “الكلّ منشغل بالاستفتاء. لكن لا يجب أن ننسى أن القضاء هو أهمّ ما يمكن مناقشته في مشروع الدستور وهذا ما يمكننا من إعادة حراكنا إلى الواجهة ولو في زمن الاستفتاء. وإذا رأيتم أن التحاقي بإضراب الجوع يسهم في إعادة الانتباه العامّ إلى حراكنا، فأنا على أتمّ الاستعداد لذلك”. عارض عدد من الحاضرين فكرته فيما تعلق بإعلانه الإضراب ولكنهم انخرطوا في البحث عن حلّ لإعادة الانتباه إلى قضيتهم، وهو الأمر الذي يشغلهم جميعا. طاهر كان إذ ذاك أول المتحدثين: “التحاق الرئيس الشرعي لمجلس القضاء بإضراب الجوع يجب أن يكون في توقيت ملائم لكونه حدثا هاما. في هذا التوقيت، المستجدّات السياسية تغطي عليه. لذا أنا أعارضه”. سانده لطفي القاضي الإداري في رفض استعمال ورقة توسيع الإضراب ليوجه عتبا إلى جمعية القضاة على خلفية ضعف تعاطيها مع ملف الطعون على قرارات الإعفاء وطلبات إيقاف تنفيذها المنشورة أمام الرئيس الأول للمحكمة الإدارية: “قضايا إيقاف التنفيذ جبهة نضال مؤسساتي. نحن كقضاة يجب أن نكون أكثر من غيرنا وعيا بأهميتها. لماذا لا نلفت الاهتمام لها ونبرز التطورات الإجرائية الخاصة بها والتي تؤكد أنّ الإعفاءات ظالمة؟ هل تعلمون أن الرئيس الأول للمحكمة الذي ينظر فيها طالب وزارة العدل ورئاسة الجمهورية بتقديم مؤيّداتهم المثبتة لما يدّعون من فساد ينسب للمعفيين ولم يصله أيّ جواب منهما؟ هذا الناس لا تعلم به وهذا خلل في عملنا”. حديث أعجب قيس الذي أضاف وهو يوجّه نظره صوب أنس (رئيس الجمعية): “لا يجب أن ننسى أيضا أن وزارة العدل تهرسل الآن رئيس الجمعية وقضاة كثيرين شاركوا في الإضراب عن العمل وفي هذا اعتداء على حقّ القضاة في النشاط النقابي ويجب أن نلفت النظر إليه”. وإذ أيّد أنس ملاحظات زملائه، تعهّد بأن تبذل الجمعيّة مزيدا من الجهد لضمان الحضور الإعلامي لقضايا القضاء: “صحيح. هناك حاجة لتطوير الاهتمام العام بالإضراب. وربما المدخل إلى ذلك كما قال يوسف هو إبراز مواقف قضائية من مشروع الدستور الجديد فيما تعلق بالقضاء وإطلاع الرأي العام على المسار القضائي لنضالنا. وأعدكم أن يتداول المكتب التنفيذي في الأمر. لكن من المهم أيضا أن نعي بالنجاح  الدولي الهامّ لتحركنا. هناك مواقف هامة فيما تعلق به صدرت عن المقرر الخاص للامم المتحدة لاستقلالية القضاء ونحتاج لإعلام الرأي العام المحلي بها أيضا”.

هكذا استعاد التحرّك إشعاعه

فيما يبدو إسنادا لمحاولة القضاة تذكير الرأي العام بأهمية المعركة التي يخوضونها دفاعا عن استقلالية القضاء، أصدرت اللجنة المدنية للدفاع عن استقلالية القضاء بتاريخ 14-07-2022 بيانا أكد على أهمية النضال من أجل كفّ يد السلطة عن القضاء والقضاة[4]. كما وبذات التاريخ في الملتقى الأول للمجتمع المدني، خصصت الناشطة الحقوقية سناء بن عاشور ورئيس جمعية النساء الديمقراطيات نائلة الزغلامي حيّزا هاما من تدخّلاتهما للإشادة بنضال القضاة والدعوة لدعمه والمشاركة فيه بتبني مطالبه العادلة. وعلى مستوى ثانٍ، وتجسيدا لما تمّ الاتفاق عليه في النادي، دعتْ الجمعية لندوة صحفية يوم 19 -07-2022 بنادي القضاة خصّصتها لمسألتين أولهما مختلف المواقف الدولية من الإعفاءات ومن أهمها ما صدر عن المقرر الخاص من إدانة لها ومن تنديد برفض الحكومة التونسية استقباله رغم تعهدها بذلك[5]. وثانيهما موقف القضاة من باب القضاء في الدستور وما فيه من مسّ كبير باستقلالية القضاء وتراجع عن ضمانات كانت سابقا مكرّسة لها. كما دعت هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين إلى ندوة صحفية يوم 22-07-2022 خصّصتها لبيان المسار الإجرائي لقضايا إيقاف التنفيذ. وقد ساهمت المواقف التي أعلنت والندوتان الصحفيتان في تنبيه المتابعين للشأن العام التونسي إلى أهمية الإضراب القضائي الذي سريعا ما استعاد إشعاعه. وعليه، وبدل أن يكون الاستحقاق السياسي المتمثل في استفتاء الرئيس حاجبا له، تحول على العكس من ذلك إلى منبر للقضاة في محضر وسائل الإعلام الأجنبية، مع ما يستتبع ذلك من زيادة في إحراج السلطة.

وعليه، انتبه الإعلام الأجنبي الذي كان يتولّى تغطية التطور السياسي الذي ينذر به استفتاء رئيسها لإضراب الجوع وحرص صحفيوه على أن يكونوا مواكبين له. وعليه، تحوّل مقر النادي في أيام 23 و24 و25 جويلية إلى محجّة لكبريات وسائل الإعلام. ومن أهم النجاحات في هذا المضمار التحقيق الذي  نشرته صحيفة واشنطن بوست بشأن الحراك القضائي في زمن الاستفتاء تحت عنوان جدّ معبّر: “لا سبيل آخر: قضاة تونسيون يعلنون إضراب جوع دفاعا عن الديمقراطية”.

لم يخفِ المرافق فخره كيف نجح الحراك القضائي في تجاوز خطر النسيان الذي كاد يطيح به وصولا إلى زيادة إشعاعه: “هذه أهمّ ملحمة في إضرابنا لقد نجحنا فيها رغم وضع صعب وكان لنا فيها الصوت الأعلى في مواجهة سلطة ظنّت أنها كتمت صوتنا. يجب أن نفخر بها خصوصا وقد كانت ثمرة ذكاء  جماعي لكل واحد منا فيه دور”.


[1]  أمر رئاسي عدد 578 لسنة 2022 مؤرّخ في 30 جوان 2022 يتعلّق بنشر مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية موضوع الاستفتاء المقرر ليوم الاثنين 25 جويلية 2022.
[2]  أمر رئاسي عدد 607 لسنة 2022 مؤرّخ في 8 جويلية 2022 يتعلّق بإصلاح أخطاء تسرّبت إلى مشروع الدّستور.
[3]  أمر رئاسي عدد 506 لسنة 2022 مؤرخ في 25 ماي 2022 يتعلق بدعوة الناخبين إلى الاستفتاء في مشروع دستور جديد للجمهورية التونسية يوم الإثنين 25 جويلية 2022.

[4] ورد في هذا البيان “أن اللجنة المدنية للدفاع على استقلال القضاء وفي إطار متابعتها للإجراءات التي طالت رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي على خلفية دوره في تحركات القضاة الرافضة للقرارات الجائرة المتعلقة بإعفاء 57 قاضيا وقاضية خارج كل إطار تأديبي ودون كفالة حق الدفاع والمواجهة والرافضة للمرسوم عدد 35 الذي منح رئيس الجمهورية صلاحية الإعفاء المباشر للقضاة في مساس خطير باستقلال القضاء وضمانات استقلال القضاة وأمنهم في قراراتهم وأحكامهم.تؤكد على أن الإجراءات المتخذة ضد رئيس الجمعية والتي هي على صلة بمباشرته لنشاطه النقابي تشكل استهدافا خطيرا لحق القضاة في الاجتماع والتعبير لحماية استقلالهم وهو الحق المكفول بالدستور وبالمعاهدات الدولية المصادق عليها من الدولة التونسية.تعبر عن بالغ انشغالها من انحراف التفقدية العامة بوزارة العدل بالإجراءات برفض تمكين رئيس الجمعية ومحاميه في ثلاث مناسبات من نسخة من الملف بكل وثائقه للاطّلاع عليه وإعداد وسائل الدفاع في الأجل المعقول في مخالفة للقانون ولما استقر عليه فقه القضاء الإداري من أن احترام حقوق الدفاع في المادة التأديبية يرتقي إلى مرتبة المبادئ العامة للقانون التي يتعين على الإدارة احترامها وهي وجوب تمكين المعني بالأمر من الاطّلاع على الملف ومدّه بنسخة منه ومنحه أجلا معقولا للجواب تسجل أن ما ظهر من سعي للإسراع في إتمام البحث الإداري ضد رئيس الجمعية في سياقات مست بحقوق الدفاع يؤشر إلى استهداف سياسي غايته إخماد صوت ثابت في الدفاع عن استقلالية القضاء وعلى نية واضحة لإصدار قرارات خطيرة في شأنه خاصة في هذا الظرف الذي تتواصل فيه تحركات القضاة من خلال إضراب الجوع الذي يشنه البعض ممن تم اعفاؤهم ومحاولة لترهيب بقية القضاة المتمسكين باستقلالية السلطة التي ينتمون إليها وإشاعة الخوف لديهم ومزيد تسليط الضغوط عليهم تنبه من أن أي قرار ضدّ رئيس الجمعية سيؤدي إلى أ زمة شاملة غير معلومة العواقب خصوصا وأنه يرد في ظل احتقان قضائي ومجتمعي تولد على مساعي السلطة السياسية فرض هيمنتها على السلطة القضائية وهي في كل هذا تعبر عن تضامنها الكامل مع القاضي أنس الحمادي بوصفه ممثلا لجمعية القضاة التونسيين ضد ما يتعرض اليه من مضايقات وهرسلة وتؤكد التزامها بالدفاع عن استقلالية القضاء ورفضها لكل الممارسات التي تهدف لفرض وصاية سياسية على عمل القضاء.وتدعو مختلف القوى الحية بالبلاد للتجند دفاعا عن حق المواطن في قضاء مستقل لا يوظف في الصراعات السياسية ولا يقبل أن يكون من أدوات قمع الحريات.

[5]  البلاغ الصحفي الذي صدر بتاريخ 15-07-2022

انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني