احتجاجات الفلاحين في تونس: الأرض والعلف والغذاء


2022-03-25    |   

احتجاجات الفلاحين في تونس: الأرض والعلف والغذاء
المصدر: المفكرة القانونية | رسم: عثمان سلمي

يَشهد الفضاء الاحتجاجي في تونس منذ أكثر من سنة صعودا ملحوظا لفاعلين جدد، يُمثلّهم صغار الفلاحين والفلاحون دون أرض؛ المنتجين الرئيسيين للغذاء وقوة العمل الأساسية في الريف التونسي. تَنامت الاحتجاجات الفلاحية في الأوساط الريفية التي تتعرض فيها مشاريع صغار الفلاحين للانهيار تحت وطأة استقالة الدولة وهيمنة الاستثمارات الربحية، وبخاصّة مُربّي الأبقار والمواشي. كما تُشكل المطالبة بالنفاذ إلى الأرض وجها آخر للاحتجاج، وهي استمرار لحركات احتجاجية فلاحية بدأت منذ سنة 2011، لتُعبّر عن رفض اجتماعي لسياسات التوزيع غير العادل للأراضي الدولية التي تم التفريط فيها للاستثمار الخاص بأشكال مختلفة. 

تأتي هذه الاحتجاجات الفلاحية في سياق تصاعد الجدل حول أزمة الغذاء المقبلة في تونس، التي يُجسّدها نقص المواد الأساسية في الأسواق على غرار الفارينة (الطحين) والسّميد والزيوت النباتية والبيض. وبغضّ النظر عن الدعاية الرسمية التي تربط الأزمة الغذائية فقط بظاهرة الاحتكار، فإن هذه الأزمة تشكّل المظهر الأشدّ تعبيرا عن الأزمة الهيكلية للفلاحة التونسية وعن الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية التي يُعانيها المنتجون الحقيقيّون للغذاء في تونس: صغار ومتوسطو الفلاحين، فلاحون من دون أرض، عاملات فلاحيات.

الأراضي الدولية ومآزق التوزيع والاستغلال

في مدينة قعفور التابعة لولاية سليانة، التي تقع في إقليم الشمال الغربي، نَصب العمّال الفلاحيون في قرية “الأقصاب” خيمة اعتصام على مشارف ضيعة المصير منذ أكثر من شهر تقريبا. وحسب ما أفادنا به فلاّحو القصاب، تبلغ مساحة ضيعة المصير حوالي 850 هكتار، وتضم 12500 شجرة زيتون و2200 شجرة لوز وبئرين سطحيّين. هذه الضيعة تخلّى عنها ديوان الأراضي الدولية لصالح شركة الإحياء والتنمية الفلاحية “المعموري” في جانفي 2020. وقد عَمَد المستثمر الجديد إلى تسريح جميع العمال الفلاحيين، واعتبرهم عملة عرضيّين رغم أن فيهم من قضى حوالي 14 سنة في العمل.

حكاية ضيعة المصير يرويها نور الدين الهمامي، أحد العمال المُسرّحين، قائلا: “نحن أهالي القصاب نعيش في تلك الأرض منذ عهد الاستعمار. ثم اشتغل آباؤنا مع ديوان الأراضي الدولية بعد الاستقلال. أشجار الزيتون زرعها آباؤنا بتشجيع من الرئيس بورقيبة. ثم ساهمنا في تجربة التعاضد. وحول هذه الأرض الدولية استقر أهالي القصاب في تجمّع سكني بإيعاز من الدولة منذ السبعينات ولا يملكون إلى حد الآن شهائد ملكية. وفي سنة 1992، تمّ التفويت في الأرض للمستثمرين وإحالة العمال الفلاحين على التقاعد من دون تعويضهم. منذ ذلك التاريخ، تعرّضت الأرض لسوء الاستغلال. في سنة 2013، عادت الأرض إلى ديوان الأراضي الدولية، الذي قام بتشغيل 27 عاملا بالأجر الأدنى الفلاحي (لا يتجاوز 140 د) ودون منح إنتاج. وتكرّر الفساد مجدّدا وسوء الاستغلال حتّى مع عودة ديوان الأراضي الدولية. ثم تمّ التفويت فيها مجددا في جانفي 2020 لمستثمر آخر. وعندما طالبنا بحقنا في الأرض تعرّضنا للمضايقات الأمنيّة والاعتقالات”. 

بسبب الاعتصام، يُواجه العمال الفلاحيون بقرية القصاب تهما بتعطيل حرية العمل. وقد تعرض بعضهم للاعتقال، ليتمّ إطلاق سراحهم في وقت لاحق. في هذا السياق، أفاد مكرم لبيض، أحد المعتصمين، أنه تعرَّض للضرب والركل بالأحذية الأمنية، بعد أن تم تقييده وإسقاطه أرضا بسبب رفضه الامتثال لحلاّق لحيته في السجن. وقد ذكر في شهادته قائلا: “طالبتُ أن أعاقب بسبب عدم الامثال وفقا للقوانين الجاري بها العمل. ولكنّهم أصرّوا على تعنيفي بشدّة وإجباري على الحلاقة وأنا مقيّد. عندما تمّ إسقاطي أرضًا تعرّضت للركل بالأحذية الأمنية. ثم تمّ اقتيادي إلى الحبس الانفرادي كإجراء عقابيّ آخر. خرجت بآلام شديدة من السجن على مستوى الرأس. دخلت معافى ولكني خرجت مريضا. بعد أن علم مدير السجن بالحادثة بسبب اتّصال هاتفي من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان طلب مني الاعتذار ونصحني بتجاوز الحادثة. ولكنّني تعرّضت للإهانة والظلم ومازلت متمسّكا بحقّي رغم الهرسلة الأمنية”.  

تُشكّل ضيعة المصير ملمحًا عن أزمة توزيع واستغلال الأراضي الدولية. هذا المخزون العقاري الذي تأثّر بتغيّر السياسيات الفلاحية الرسمية منذ ستينات القرن الماضي، من تجربة التعاضد وصولا إلى تدشين سياسة اللبرلة و”الانفتاح الاقتصادي” مطلع السبعينات. وتَبلغ مساحة الأراضي الدولية في تونس حوالي 500 ألف هكتار. ويتوزع استغلال مساحاتها المهيكلة التي تبلغ 307 آلاف هكتار حسب الصيغ التالية: شركات إحياء وتنمية فلاحية، مقاسم فنية فلاحية، أراضٍ مُسترجعة في عهدة ديوان الأراضي الدولية بصفة ظرفية، مقاسم فلاحين شبان ومتعاضدين، قطع مشتّتة مسوغة للخواص، غابات وأراض تعويضات ومتفرقات. إضافة إلى أن الأراضي الدولية غير المُهيكلة تبلغ مساحتها 190 ألف هكتار.  

يشير تشتّت صيغ استغلال الأراضي الدولية وعدم هيكلة مساحات شاسعة منها إلى تخلّي الدولة عن هذا المخزون العقاري والتفويت فيه لصالح الاستثمار الخاصّ تحت صيغ “شركات الإحياء والتنمية الفلاحية” “والمقاسم الفنية الفلاحية”. وقد راكم الاستثمار الخاصّ تجربة سيّئة في استغلال الأراضي الدولية، عبر استنزاف الموارد المائية وتنمية الفلاحة الربحية المعدة للتصدير وتقليص الطاقة التشغيلية للفلاحة التونسية. إضافة إلى إفراغ الأراضي الدولية من دورها الاقتصادي والاجتماعي العمومي. إذ تشير بعض الإحصائيات إلى ارتفاع عدد الفلاحين المتخلّين عن ممارسة النشاط الفلاحي حيث بلغ عددهم 12 ألف سنة 2018. إضافة إلى أن التفويت في الأراضي الدولية ارتبط بالقرب من النظام السياسي منذ بداية التسعينات. يشير الباحث وسيم العبيدي إلى أن “الدوائر المرتبطة برأس النظام القديم كانت تستحوذ على ما جملته 30 شركة إحياء وتنمية فلاحية، من أصل 240 شركة”. 

تُشكل الاحتجاجات الفلاحية في الأراضي الدولية منذ سنة 2011 المظهر الأكثر تعبيرا عن حرمان جمهور ريفي واسع من حقه في النفاذ للأرض. إذ تشير بعض الإحصائيات إلى أن “75 بالمائة من صغار الفلاحين يملكون (كل منهم) أقل من 10 هكتارات”. ورغم هذا الواقع لم تشهد السياسات الفلاحية الرسميّة تغييرا بعد الثورة. فقد حافظت على ملامحها القديمة رغم بروز تجارب اجتماعية تضامنية ذات دلالات تغييرية على غرار تجربة جمنة. وما زالت أشكال استغلال الأراضي الدولية تشهد جدلا قانونيا وسياسيا. وقد حَاول الرئيس سعيد في الآونة الأخير احتواء ملف الأراضي الدولية ضمن مشروعه السياسي، دون تقديم بدائل عملية لإعادة هيكلة الفلاحة التونسية ومن ضمنها مراجعة سياسات استغلال الأراضي الدولية. 

أزمة الأعلاف وانهيار مشاريع صغار الفلاحين

شهدت بعض مقرات المعتمديات والولايات في الآونة الأخيرة وقفات احتجاجية نَفّذها صغار الفلاحين احتجاجا على نقص المواد العلفية المدعمة (السداري والشعير العلفي)، خاصة في مناطق الوسط الغربي على غرار القيروان والقصرين. وتُشكل تربية الأغنام والأبقار أحد مرتكزات النشاط الفلاحي في هذه المناطق، ومورد رزق أساسي لصغار الفلاحين. وعادة ما يُرجِعُ صغار الفلاحين نقص المواد العلفية إلى هيمنة السوق السوداء، التي يجري داخلها الإتجار بالأعلاف المدعمة عبر شبكة التزويد الموزعة بين المزوّدين والإدارات الجهوية للفلاحة واتحاد الفلاحين. بالإضافة إلى هذا يشتكي صغار الفلاحين من غياب التوزيع العادل للمواد العلفية المدعمة بين المناطق وبين الفلاحين. وبسبب هذه السياسة التوزيعية، يُحرم الكثير منهم من حصصهم في الأعلاف المُدعّمة.

تترك أزمة وصول الأعلاف إلى صغار الفلاحين آثارها على أوضاعهم الاقتصادية باعتبار أنها تهدّد مورد رزقهم الأساسي. كما تترك آثارها على منظومة الإنتاج الفلاحي بشكل عام، إذ يشرع الكثير منهم في التخلي عن مواشيهم وأبقارهم بسبب الخسارات المالية التي تتكبدها مشاريعهم الصغيرة. وتشير إحصائيات المرصد الوطني للفلاحة إلى تراجع قطيع الأبقار في المناطق ذات الثقل الفلاحي بين سنتي 2015 و2018. من الأمثلة على ذلك: تراجع رؤوس الأبقار من 95240 إلى 78730 في ولاية جندوبة. تراجع من 39000 إلى 19000 في ولاية سليانة. تراجع من 79540 إلى 75040 في ولاية باجة. تراجع من 65090 إلى 55400 في ولاية نابل. 

بالإضافة إلى هذا يُهدد الارتفاع المستمر للأعلاف الحيوانية المُركبة مشاريع صغار الفلاحين. وقد مثّلت هذه الظاهرة أحد العوامل الرئيسية للاحتجاجات الفلاحية منذ سنة 2021. ويعود التحكّم في أسعار الاعلاف المركّبة إلى هيمنة شركات الإنتاج الكبرى التي تسيطر على التوريد والتصنيع والتوزيع. في هذا السياق، أصدرت الجامعة الجهوية للدواجن في صفاقس بيانا بخصوص التحكم في أسعار الأعلاف الحيوانية المركبة، أوردت فيه: “هناك هوة كبيرة بين أسعار المواد الأوليّة محليّا وعلى مستوى السوق العالمية. إن الوضعيّة المالية لمصانع العلف تختلف باختلاف أصنافها بين شركات صغرى تتزود بالمواد الأوليّة بالأسعار المتداولة بالسوق المحليّة وتتكبد خسائر دفعت بجلّها إلى حافة الهاوية ومجمّعات كبرى تملك كل حلقات منظومة الأعلاف استيرادا وتصنيعا وتستأثر بكل الأرباح عبر سيطرتها على مسالك توريد مدخلات الأعلاف”.

في بعض المناطق، يحاول صغار الفلاحين الحفاظ على مشاريعهم الصغيرة من خلال البحث عن أشكال تعاونية وتضامنية للتخفيض من آثار ارتفاع أسعار الأعلاف والضغط على كلفة الإنتاج. في منطقة أولاد جاب الله التابعة لولاية المهدية، قال ياسين بن جدّو، عضو تنسيقيّة صغار الفلاحين: “لقد قمنا بتأسيس تعاونية فلاحيّة لإنتاج الأعلاف الحيوانية. نحن الآن نخطو الخطوات الأخيرة في بعثها. وتأتي الموارد المالية للتعاونية من مساهمات سكان أولاد جاب الله. ونطمح من خلالها إلى تحسين أوضاع صغار الفلاحين والفئات الهشة”. ويُذكر أن منطقة أولا جاب الله شهدت السنة الفارطة احتجاجات فلاحية مُنددة بارتفاع أسعار الأعلاف المركبة، رافقتها اعتداءات بوليسية على المعتصمين والسكان.

أزمة الغذاء: الوجه الآخر لأزمة السياسات الفلاحية 

تزامنا مع التحذير من آثار أزمة الحبوب المرتقبة في العالم، خاصة في البلدان الموردة، يعيش السياق التونسي على أبواب أزمة غذائية بسبب التعويل الكبير على توريد هذه المادة مقابل تراجع الإنتاج المحلي. إذ تعتبر تونس من أكثر البلدان المستوردة للحبوب في العام. وتشير بعض التقارير إلى ارتفاع كبير في توريد الحبوب في تونس من 15.706 ألف قنطار سنة 2011 إلى 27.538 ألف قنطار سنة 2020. 

تسَاوقَ تراجع إنتاج الحبوب في تونس مع سياسات التشجيع على الاستثمارات الفلاحية المعدّة للتصدير (زيت الزيتون، القوارص، التمور) على حساب الزراعات الكبرى على غرار الحبوب. وهو ما ساهم في ضرب المنظومة الغذائية التي أصبحت تعيش تراجعا في الإنتاج المحلي مرفوقا بتبعيّة للأسواق العالمية. فُرضت الفلاحة الربحيّة المختصّة والمستنزفة للموارد (الأرض والماء) على حساب الإنتاجات الفلاحية الأساسية في الغذاء التونسي على غرار اللحوم والحبوب. في هذا السياق، أشارت الباحثة ليلى الرياحي إلى أنه “عندما وضعت الدولة مخزونها الفلاحي العقاري على ذمة الخواص توجهوا نحو المنتوجات المعدّة للتصدير في إطار سياسة رسميّة محفزّة. وهذه السياسة التي جلبت المستثمرين قامت بتهميش الفلاحين والفلاحات دون أرض”.

ومن النماذج المُعبّرة عن هذه السياسة ذكرت الرياحي قائلة: “في منطقة نصر الله التابعة لولاية القيروان هناك أرض فلاحية تمتد على حوالي 2700 هكتار مُستَغَلة من طرف مستثمر. هذا المستثمر هو رئيس غرفة تصدير زيت الزيتون وهو أيضا مُورّد للزيوت النباتية ولديه أنشطة اقتصادية أخرى. عندما تَسلّمَ الأرض كان فيها أبقار وأغنام ومساحات حبوب، ولكنه طالب بقروض بنكية من أجل استغلالها في زراعة الزياتين. الحصيلة تمثلت في أن المستثمر غَنِم إمكانات مالية هائلة ولكنه تخلّى عن الاستثمار في اللحوم والحبوب. وحافظ فقط على الاستثمار في تصدير زيت الزيتون وتوريد الزيوت النباتية”.    


1. الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، تقرير: الفلاحة هي الحل لتعزيز سيادتنا وتنمية اقتصادنا. 
2. دراسة لمجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية: غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا (تحليل للسياسات الفلاحية التونسية على ضوء مفهوم السيادة الغذائية)، تونس، جوان 2019.
3. هيثم قاسمي وروكسان دافدار. استشارة نحو نظام فلاحي وغذائي صامد ومستدام وشامل. منشورات التحالف من أجل السيادة الغذائية في إفريقيا والجمعية التونسية للزراعة المستدامة. تونس: 2021. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

فئات مهمشة ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني