هجرة الأدمغة تستنزف الثروة البشرية في تونس


2019-12-21    |   

هجرة الأدمغة تستنزف الثروة البشرية في تونس

لم يكن الأول ولن يكون الأخير، بل هو حلقة أخرى في سلسلة طويلة من نزيف هجرة العقول. كفاءة تونسية أخرى تترك البلاد وتهاجر بحثا عن مستقبل مهني أفضل. ولكن القصة هذه المرة مختلفة بل وكانت صادمة لعدد هام من التونسيين. فليس من العادة أن يستقيل وزير من منصبه فور تعيينه على الوكالة الجامعية الفرنكوفونية بكندا. هذا ما حدث عندما قدم وزير التعليم العالي والبحث العلمي سليم خلبوس استقالته من منصبه ليتولى خطة المدير التنفيذي للوكالة الجامعية للفرنكوفونية في كندا يوم 14 ديسمبر 2019. مشهدية كشفت الستار عن الحاجة الملحة للالتفات إلى معضلة خطيرة وهي ما يصطلح عليها بنزيف الأدمغة التي أصبحت تهدد الخزان البشري للكفاءات في تونس.

 

تطبيع الوزير السابق مع نزيف الأدمغة

طيلة سنوات ترأس سليم خلبوس لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي من شهر أوت 2016 إلى ديسمبر 2019 اتسمت علاقته باتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين "إجابة" بالتوتر والهجومات المتبادلة. فالاحتجاجات المتواصلة منذ ثلاث سنوات تقريبا من قبل مجموعة من الأساتذة الجامعيين، طالبت وزير التعليم العالي بالقيام بإصلاحات جذرية لواقع البحث العلمي في تونس ومن ضمنها إيجاد حل لهجرة الكفاءات التونسية وتحسين مناخ الجامعات على صعيد التكوين الأكاديمي وظروف الإطارات التعليمية. وقد أشار اتحاد "إجابة" في سياقات عديدة إلى خطورة هجرة الأدمغة والتي تعود في جزء هام منها إلى سياسة الوزارة. حتى وزير التعليم العالي نفسه سليم خلبوس، لم يجد مهربا من الاعتراف بمخاوفه من ظاهرة هجرة العقول في تونس واعتبر أن الظاهرة قد استفحلت وأعلن عن خطة حكومية للحد منها خلال تصريح إعلامي له في شهر فيفري 2018.

بعد سنة من ذلك التصريح، لم ترَ الخطة الحكومية النور، بل إن الوزير نفسه، الذي دعا سابقا إلى ضرورة الحد من نزيف الكفاءات، لم يتردد في تقديم استقالته فور انتخابه على رأس الوكالة الجامعية الفرنكوفونية بكندا، ليضرب عرض الحائط ما دأب على ترديده سابقا حول ضرورة بقاء الكفاءات التونسية في البلاد التي تحتاج خبراتهم اليوم أكثر من أي وقت مضى والتي يعود لها الفضل في تكوينهم وتفوقهم.

في هذا الإطار اعتبر نجم الدين جويدة المنسق العام الوطني لاتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين إجابة في تصريح ل "المفكرة" أن الوظيفة التي تحصل عليها سليم خلبوس على رأس الوكالة الجامعية للفرنكوفونية في كندا هي مكافأة له من أجل تأسيس الجامعة الفرنسية التونسية لإفريقيا والمتوسط في مدينة بئر الباي من محافظة بن عروس والتي قام بتمويلها من صندوق الودائع والأمانات، فنتيجة لهذه المهمة تم مكافأته بترأس الوكالة الجامعية للفرنكوفونية. وأضاف نجم الدين جويدة أن سليم خلبوس ليس المسؤول الأول الذي يترك منصبه شاغرا ويذهب للعمل في الخارج، إذ سبقه عميد كلية الطب بتونس الأستاذ حميدة مهرزي الذي ذهب للعمل في كندا في سنة 2017 وترك منصبه شاغرا، تماما كما فعل رئيس جامعة سوسة فيصل المنصوري الذي ترك منصبه واتجه للعمل بالخليج، والقائمة تطول بمسؤولي الصف الأول الذين تركوا مناصبهم وسليم خلبوس آخرهم.

 

هجرة الأدمغة معادلة صعبة وأرقام تجاوزت الخطوط الحمراء

بات استفحال ظاهرة هجرة الأدمغة في تونس يمثل نزيفا حقيقيا للثروة البشرية للبلاد. في المقابل ليس من السهولة بمكان تناول هذا الموضوع بالتحليل والبحث في ظل غياب دراسة مرجعية رسمية تحدد الرقم الدقيق لعدد الكفاءات الذين غادروا البلاد، فالأرقام متاحة ولكنها متباينة ومختلفة وغير محينة وهو ما يجعل فيها هامشا من الخطأ نظرا لعدم دقتها.

فقد أشار تقرير التنمية البشرية لسنة 2016 التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا بعد سوريا في معدلات هجرة الأدمغة، فعدد الكفاءات التي قررت الانتقال خارج البلاد التونسية بلغ منذ سنة 2011 إلى حدود سنة 2017 حوالي 94 ألف، 60% منهم كانت وجهتهم أوروبا و25% اتجهوا نحو الولايات المتحدة الأمريكية وكندا و15 % اتجهوا نحو الخليج العربي بحثا عن تحسين أوضاعهم المادية خصوصا مع سخاء العروض الخليجية. إذ يتراوح متوسط الأجور في دول الخليج العربي بين 1600 دولار ما يعادل 4560 دينار تونسي و3000 دولار ما يعادل 8550 دينارا تونسيا شهريا في حين لا يتجاوز في تونس معدل متوسط الأجور 286 دولار أي 851 دينار تونسي. 94 ألف كفاءة هاجروا في ستة سنوات، رقم هائل في فترة زمنية محدودة، حيث يعادل عدد الكفاءات الذين هاجروا خلال هذه الفترة 8.9% من مجموع التونسيين المقيمين بالخارج.

ارتفاع نزيف هجرة الأدمغة لم يقتصر على المهندسين أو الأطباء أو غيرهم من خريجي الجامعات، بل شمل الطلبة أيضا الذين يزاولون تعليمهم بالخارج. فوفق إحصائيات كشفتها كتابة الدولة للهجرة سنة 2012 بلغ عدد الطلبة التونسيين الذين يزاولون تعليمهم بالخارج 57 ألف طالب، 10% فقط أعربوا عن رغبتهم في العودة إلى تونس عندما يتمون دراستهم.  

هذه المؤشرات المرعبة، دفعت مركز تونس للبحوث الاستراتيجية للقيام باستبيان نشر في شهر أكتوبر من سنة 2017 شمل 250 شخصا وتمحور حول موضوع الرغبة في الهجرة لمواصلة الدراسة أو للعمل في دولة أجنبية وجاء في هذا الاستبيان أن 78% من المستجوبين عبروا عن رغبتهم في الهجرة وأن 55% من الطلبة الذين يقررون إتمام دراستهم في الخارج لا يعودون.

هجرة الأدمغة وهاجس البحث عن ظروف عمل أفضل وأكثر جودة في دول أخرى لم تستثن أي مجال أو تخصص. فالتقسيم المهني للمهاجرين يكشف عن فسيفساء تضم كل الاختصاصات وإن تفاوتت فيما بينها. حيث احتل صدارة الترتيب الأساتذة الجامعيون، الذين يمثلون 24% من مجموع الكفاءات التونسية المهاجرة ما يقدر بحوالي 25 ألف أستاذ جامعي. رقم يتجاوز عدد الأساتذة المقيمين في تونس الذين بلغ عددهم 22648 أستاذ سنة 2016. واعتبر نجم الدين جويدة المنسق العام الوطني لاتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين لدى حديثه للمفكرة القانونية حول ظاهرة هجرة الأساتذة أن اتحاد إجابة قد أجرى استبيانا حول رغبة الأساتذة الجامعيين للهجرة وقد تبين أن 80 % من الأساتذة الجامعيين قد بينوا رغبتهم للهجرة والعمل بالخارج عند أول فرصة تتاح لهم، وذلك بسبب الظروف التعيسة التي يمرون بها وعدم رضاهم عن الوضع العام في الجامعة التونسية.

ولئن كان خزان الأساتذة الجامعيين هو الأكثر استنزافا، فوضعية المهندسين لا تقل سوداوية. حيث ذكرت عمادة المهندسين في تقرير نشرته شهر ديسمبر الجاري أن عدد المهندسين الذين هاجروا للعمل بالخارج بلغ حوالي 22 ألف مهندس أي بنسبة تناهز الـ 20% من إجمالي عدد المهندسين التونسيين. تتوسع قائمة الأصناف المهنية للمهاجرين بحسب التقرير الذي أشار إلى أن ما يناهز 1200 رجل أعمال غادروا البلاد وفضلوا الاستثمار في الخارج، كما اختار 1000 طبيب وصيدلي التوجه إلى المصحات والمستشفيات الأجنبية للعمل فيها، مما يعكس في جانب منه أزمة قطاع الصحة والذي أشار إليه سابقا الدكتور علي المطيراوي رئيس جامعة سوسة خلال حواره إلى إحدى المجلات مؤكدا أن الأطباء الشبّان تربّوا على الحلم بالهجرة، مضيفا أن انعكاسات الهجرة تطال اختصاصات ثقيلة على غرار التّخدير والإنعاش والتصوير الطبّي، ممّا قد يسبب للبلاد نقصا في هذه الاختصاصات خلال الأعوام القادمة.

 

أسباب متعددة لتحفيز هجرة الأدمغة

نزيف الكفاءات الذي وصل إلى مستويات خطيرة، لم يولد من عدم، بل كانت له أسبابه القوية التي تدفع العقول التونسية إلى اختيار الغربة ومغادرة البلاد. وقد نشرت عمادة المهندسين التونسيين تقريرا حول هجرة الأدمغة في شهر ديسمبر الجاري تناول أبعاد هذا الموضوع وأسبابه. وقد خلصت هذه الدراسة إلى أن هذه الموجة هي نتاج لأسباب متراكمة ومتعددة أهمها ارتفاع معدلات البطالة التي قدرها المرصد الوطني للإحصاء بـ 15.1% كنسبة عامة خلال سنة 2019، لتصل في صفوف أصحاب الشهائد العليا إلى 28.6% ما يعني 262.7 ألف شخص عاطل عن العمل، من بينهم 39 ألف متحصلون على الإجازة في العلوم الإنسانية وأكثر من 39 ألف متحصلون على إجازة في الحقوق والاقتصاد والتصرف وأكثر من 75 ألف شخص متحصلون على إجازة في العلوم الصحيحة. بل وصل عدد المعطلين عن العمل من المتحصلين على شهادة الدكتوراه قرابة 5000 شخص، يعمل بعضهم في أشغال البناء وغيرها من المهن اليومية من أجل توفير قوت عيشه وفق ما حدثنا به نجم الدين جويدة.

وأرجعت عمادة المهندسين الأسباب أيضا إلى انسداد وعدم وضوح آفاق التطور المهني، وإلى تدني مرافق البحث العلمي، وفي هذا السياق نشرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي سنة 2016 تقريرا تناول وضعية التعليم العالي لتكشف أن عدد مخابر البحث في تونس تقدر بحوالي 281 مخبر بحث في كامل الجامعات التونسية. مخابر ليست كتلك التي نعرفها في شاشات التلفزيون أو في الجامعات الكبرى بل هي وفق المنسق العام الوطني لاتحاد إجابة نجم الدين جويدة قاعات فارغة تمويلها يصل ألفي دينار. وأحيانا يقوم بتأسيسها بعض الأساتذة وغير مجهزة بالحد الأدنى من التجهيزات الضرورية. وفي مقارنة بوضعية البحث العلمي في فرنسا فقد نشر المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي تقريرا حول موارد البحث العلمي في فرنسا جاء فيه أن عدد مخابر البحث يبلغ 950 مخبر في سنة 2015 إضافة إلى وجود 300 ألف باحث و74 ألف طالب دكتوراه وتنفق فرنسا 49.5 مليار يورو أي حوالي 155.43 مليار دينار على الأبحاث العلمية، ما يقدر بـ 2.22% من الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي، في المقابل فإن ميزانية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس (في سنة 2019) تقدر بـ 1.65 مليار دينار.

ناهيك عن الأجور البخسة في تونس فمعدل الأجر المتوسط في تونس 286 دولارا شهريا أي 815 دينار تونسي، وفي ترتيب الدول العربية فإن تونس تتذيل الترتيب ولا تتقدم إلا على سوريا التي تعيش حالة حرب وعلى مصر التي يقطن بها أكثر من 90 مليون نسمة. واعتبر الأستاذ الجامعي نجم الدين جويدة في حديثه للمفكرة القانونية أنه عندما كان يدرّس بفرنسا منذ 10 سنوات كان راتبه 2000 أورو أي حوالي 6000 آلاف دينار تونسية في حين أن راتبه اليوم في تونس بالرغم من الخبرة التي حصلها طيلة عشر سنوات والشهائد العلمية التي يملكها فإنه لا يتجاوز 2000 دينار، أي أن راتبه في تونس هو ثلث ما كان يتقاضاه في فرنسا منذ 10 سنوات. وأضاف أن الفرص التي يتلقاها الطلبة المتخرجون الجدد لا سيما في مجال الإعلامية لا يمكن مقارنتها بالفرص المتاحة في تونس حيث أن الراتب أحيانا يتجاوز 3000 دولار أي 8500 دينارا تونسيا في حين أنه في تونس قد يكون 600 دينار فحسب.

إهمال هذا المجال الحيوي، وما نتج عنه من فرار الكفاءات خارج البلاد، كان له دور مهم في تراجع مرتبة تونس على مستوى مؤشر التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2019 والذي يصنف البلدان حسب قدراتها على تطوير الكفاءات والاحتفاظ بها وجذبها إضافة إلى تهيئة مناخ الأعمال والدراسة. فمن أصل 140 دولة شملها التقرير احتلت تونس المرتبة 87 متذيلة ترتيب كل الدول العربية تقريبا، متقدمة على مصر والجزائر واليمن وموريتانيا.

ولئن كانت تونس تحتل اليوم المرتبة الثانية عربيا على صعيد هجرة الأدمغة، إلا أن الظاهرة لم تكن منعدمة قبل سنة 2011 وإن أخذ نسقها في التصاعد بعد الثورة بصفة لافتة للأنظار. حيث كانت تونس خلال سنة 2008 تحتل المرتبة الخامسة عربيا بمعدل هجرة بلغ 68 ألف كفاءة.  تحيل هذه الظاهرة إلى ان المشاريع التي انطلقت بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، للرهان على تنمية الثروة البشرية والعقل التونسي وصلت اليوم إلى طريق مسدود بعد أن تحولت المؤسسات التعليمية الوطنية إلى مجرد محاضن لإعداد العقول الجاهزة وصناعة الذكاء لأسواق العمل الخارجية التي تزداد طلباتها لليد العاملة النوعية في مقابل سوق شغل محلي متخم أو عاجز عن استيعاب طاقات أبنائه.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني