فلسطينيو لبنان في عيد العمّال أمام خيارين: التهجير أو السحق


2024-05-03    |   

فلسطينيو لبنان في عيد العمّال أمام خيارين: التهجير أو السحق
سوق مخيّم البدّاوي حيث يؤمّن سكّان المخيّم احتياجاتهم اليوميّة من محاله الصغيرة

على أطراف مخيّم البصّ في صور، تزدحم الطلبات على بائع قهوة “الإسبريسّو” أحمد أحمد. “شهادة في الهندسة المعمارية وأطيب قهوة”، يقول الشاب في جملة كسر للجليد يبدأ بها لقاءنا. وسط ضجيج الباعة، و”عجقة” الزبائن، وضوضاء السيارات المؤرق، يمزج أحمد مزاحه بجدّه، ويبرز المفارقة المرّة، كما قهوته، بأسلوب ساخر. وأحمد “شغّيل وبيدبّر حاله”، يقول عنه أصدقاؤه، ويحكون على سبيل التندّر كيف أخفى هويّته لعدّة أشهر حينما تدرّب في شركة بناء ناشئة في صيدا حيث “لا يشغّلون فلسطينيين”. يقول أحمد إنّ كفاءته لم تشفع له: “مهامي مكتبيّة وكنت بارعًا فيها”. وأمام ضغط الإدارة للحصول منه على هويّته، ونفاد الحجج أمامه، يقول أحمد “أنا فرجيتهم الكارت الأزرق (بطاقة التعريف للاجئين الفلسطينيين)، وهمّ طلبوا فرجيهم عرض كتافي، طردوني فورًا”.

لاحقًا، فكّر أحمد بفتح مكتب خاصّ بتقديم خدمات يحتاجها طلّاب الهندسة، لعلّه يستثمر شهادته التي تعب سنوات لتحصيلها من جهة، ولأنّه يحبّ العمل فيها بشغف، وهذا الأهمّ. مشروع دفعه لاستئجار مكتب قرب إحدى كليّات الجامعة اللبنانيّة: “هنا العيون الأمنيّة مفتّحة، وكان لازم إحصل على إجازة عمل”، إجازة لم تأت أبدًا. استأجر أحمد لاحقًا مكتبًا داخل مخيّم البص، لم ينجح بسبب صغر المخيّم وقلّة عدد طلبة الهندسة من الفلسطينيين فيه، فضلًا عن العوائق الأمنيّة والاجتماعيّة التي تعيق وفود الطلبة اللبنانيّين إلى المخيّم. اشتدّت الأزمة الاقتصاديّة و”تدولرت” الإيجارات، ووجد أحمد الطموح، الذي اشتغل على مهاراته وشهاداته، نفسه يبيع قهوة على أطراف المخيّم.

وأحمد واحد من 90 ألف فلسطينيّ في لبنان مصنّفين في سنّ العمل، من بين نحو 250 ألف لاجئ فلسطيني في البلاد، وفق تقديرات منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا، جميعهم ممنوعون من العمل في المهن التي تتطلّب الانتظام النقابي، مثل الهندسة والطبّ والصيدلة والصحافة والمحاماة وغيرها، ويواجهون قيودًا هائلة للحصول على إجازات عمل. ووفق آخر أرقام نشرتها وزارة العمل اللبنانيّة، عام 2018، حصل 700 فلسطينيّ فقط على إجازات عمل، وحصرًا في المهن المسموح لهم العمل بها. بينما يتعدّى عدد الإجازات الممنوحة لعمّال أجانب في لبنان عتبة الـ 200 ألف.

هذا الواقع، يدفع الفلسطينيين إلى سوق العمل غير النظاميّ، ما يعني ظروف عمل استغلالية، وغيابًا تامًّا للحماية القانونية والاجتماعية، وطبعًا أجورًا أقلّ. آمنة، خطيبة أحمد، تعمل سكرتيرة في صور بأجر لا يتعدّى 250 دولارًا شهريًّا، وهي تخبرنا أنّ الأجور في المؤسّسة أفضل من راتبها، لكنّ جنسيّتها هنا تصبّ في غير صالحها: “يتقاضى حرّاس الأمن هنا 380 دولارًا، وعمّال التنظيفات 320 دولارًا، وأنا 250 مع تربيح جميلة” تقول مبتسمة. تغيب الإحصاءات الجديدة، لكن مسح القوى العاملة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في المخيّمات وبعض التجمّعات في لبنان الصادر عام 2014، يُظهر أنّ 20% من بينهم فقط كانوا يعملون بموجب عقود عمل خطيّة، و31% فقط يعملون بشكل يومي أو أسبوعيّ أو موسميّ، و75% كانوا يتقاضون دون الحدّ الأدنى للأجور.

يشير الصحافي الاقتصادي، ورئيس تحرير موقع “صفر” للصحافة الاقتصادية، محمد زبيب إلى أنّ الأجور المنخفضة كانت دائمًا من سمات الاقتصاد اللبناني، وهي تستهدف اللاجئين والوافدين لصالح أصحاب العمل والرأسماليين في لبنان: “نجد في لبنان حاجة رأسمالية لاستغلال العمالة الرخيصة، ولا سيما الوافدة ومنها اللاجئين، في مقابل حاجة لهجرة العمالة اللبنانية المتعلّمة والمدرّبة لامتصاص البطالة وتفادي رفع الأجور والإنفاق على الحماية الاجتماعية”.

بدورها تقول المجازة في الحقوق عفاف شمالي، التي لم تتمكّن من ممارسة مهنتها يومًا إنّ “المحاماة كانت حلمي منذ الصغر، نصحني كثيرون بالتنازل عن هذا الحلم، لكنّي أصرّيت وكنت متفائلة بأنّ هذا الوضع لا يمكن أن يستمر”. تذكر عفاف العقبات التي تعترض طريقها، وأبرزها نص النظام الداخلي لنقابة المحامين الذي يحصر الانتساب بحاملي الجنسية اللبنانية، فضلًا عن مبدأ المعاملة بالمثل الذي لا يجد سبيلًا له كي يطبّق أصلًا، ثم تنتقل إلى القيود التي تواجه عمل الفلسطينيين بشكل عامّ. ويتمتّع وزير العمل اللبناني بصلاحية استثناء جنسيات معيّنة من المهن المحظورة على غير اللبنانيين، وكذلك بتحديد مدة إجازات العمل الممنوحة: “صلاحيات تتأثر بمزاجية الوزراء وبالقرار السياسي لأحزابهم، ولا تُمارس – كما يفترض بها – بناء على دراسات السوق وحاجاته، وتُسقط واقع أنّ الفلسطيني مقيم هنا وإقامته مرتبطة بتحقيق حق العودة إلى فلسطين، ما يعني وجوب منحه حقوقه كإنسان أوّلًا”. تخلص عفاف شمالي إلى أنّ الحاجة ملحّة للخروج من مراسيم الوزراء نحو تشريع لبناني يمنح الفلسطيني الحقوق المدنية والاجتماعية: “نحن كحقوقيين وقانونيين لا يجب أن نيأس، وواجبنا أن نبقى نطالب بحقوقنا الاقتصادية والاجتماعية إلى حين العودة”.

شعار عن حقّ العودة في مخيّم البص للاجئين الفلسطينيّين

تمييز مؤسّسي وبنيوي ممنهج

والتمييز ضدّ اللاجئين الفلسطينيّين في لبنان يأخذ منحاه الممنهج، فبعد معاملتهم كأجانب، لا لاجئين، يتمّ استهدافهم دون غيرهم من الأجانب، أو جعلهم أجانب من فئة خاصّة، لنجد أنفسنا أمام وصفة مكتملة من التمييز المؤسّسي والبنيوي الممنهج، يحوّل المنع الدستوريّ للتوطين (مقدّمة الدستور، الفقرة ط) إلى شمّاعة/ فزّاعة تتيح سلبهم كامل حقوقهم وصولًا إلى تمييز سلبيّ ضدّهم دونًا عن سائر المقيمين، فضلًا عن المواطنين. وتتنكّر الدولة اللبنانيّة لحقيقة أنّهم لاجئون، فتصنّفهم كأجانب، ويحضر هنا تاريخ مضطرب للقرارات الحكومية بشأن عمالة الفلسطينيين، بين استثنائهم من قانون عمل الأجانب من عدمه، وهو تاريخ مرتبط بشكل وثيق بالتطوّرات السياسية التي حكمت علاقة الدولة بهم، لكن ظلّ منعهم من ممارسة المهن التي تنظمها النقابات ثابتًا، فيما الاستثناءات لا تعفيهم من الحاجة إلى إجازات يكون الحصول عليها أشبه بمتاهة بيروقراطية، على ما تقول شمالي.

ويفرض القانون اللبنانيّ على وزير العمل تحديد عدد من المهن المحصورة باللبنانيين سنويًا، ثمّ يعطيه صلاحية استثناء بعض الجنسيات منها، استثناء يأتي أو يحجب حسب كلّ وزير، وكلّ حقبة. وزير العمل الحالي مصطفى بيرم جدّد الاستثناء للفلسطينيين المولودين في لبنان، مانحًا إيّاهم ميزةً عن سائر الأجانب المقيمين في لبنان في بعض مجالات العمل، ليظلّوا بحاجة للحصول على ترخيص عملًا بقانون تنظيم عمل الأجانب، ومع بقاء حظر عملهم في المهن المنظمة عبر نقابات. قرار الوزير بيرم عاد مجلس شورى الدولة وعلّق تنفيذه بعد أن طعنت فيه الرابطة المارونية، وهو طعن عادت وفنّدته المفكّرة القانونيّة في معرض إبداء ملاحظاتها على قرار شورى الدولة.

وهذا التمييز أراد أن يستثنيهم حتّى من مجمل الفوائد التي تمكّنت العمالة اللبنانيّة من تحصيلها بفعل مراكمة معيّنة للحقوق، أو أن يبقيهم على هامشها. يشرح زبيب أنّ ارتكاز النموذج الاقتصاديّ اللبنانيّ على الخدمات ولا سيما المصارف والتجارة الخارجية أوجد فئة من المهنيين الذين تمتّعوا بقوّة معيّنة في النظام واستطاعوا أن يكتسبوا حمايات خاصّة من دون أي منافسة لهم في “سوق العمل”، ولذلك جرى تحديد مهن ووظائف محصورة بمن يحملون الجنسية اللبنانية دون سواهم. ويعتبر أنّ العمل اللانظامي هو بدوره من سمات الاقتصاد اللبناني، وبالتالي فإنّ استغلال الفلسطينيين في العمل غير النظامي، أي غير الخاضع للحماية القانونية والاجتماعية، يتحصّن بالحظر “المقونن” لتشغيلهم، ليضع استبعاد نقابات العمّال لعضوية الفلسطينيين وغيرهم بمثابة منعهم من امتلاك سلاح يعزز موقعهم التفاوضي، “ففي جميع المراحل التي كان هناك فيها مفاوضة ما تخصّ العمل والعمال لم يكن بوسع الفلسطينيين أن يكونوا على الطاولة”، يقول زبيب.

ولعلّ الاستثناء الذي يثبّت القاعدة هنا هو الخرق الحاصل في نقابة الممرّضين والممرّضات، حيث الأجور أصلًا متدنيّة. وبفعل حاجة السوق وهجرة الممرضين اللبنانيين، سمحت النقابة للممرّضين الفلسطينيين بالتسجيل لديها من دون الانتساب، من أجل مزاولة المهنة تلبية لحاجة السوق اللبناني، مع الإبقاء دائمًا على شرط الحصول على إجازة عمل سنوية دونها عقبات بيروقراطية عديدة، ومع التسجيل في صندوق الضمان الاجتماعيّ اللبناني.

وتحضر هنا قصّة الضمان، الذي يبرز مفارقة فاقعة فيُطلب من الفلسطينيّين دفع اشتراكات مقابل خدمات تحظر عليهم دون غيرهم من منتسبي الصندوق. وسمح القانون اللبناني عام 2010 للفلسطينيين بالانتساب إلى صندوق الضمان الاجتماعي، مع الحصول على إجازة عمل معفاة من الرسوم، وفرض عليهم أن يدفعوا للصندوق ما نسبته 23.5% مقابل تقديمات تقتصر على تعويض نهاية الخدمة (8%)، بعد أن نصّ القانون عينه على حرمانهم من مكتسبات فرعَي المرض والأمومة والتقديمات العائلية في الصندوق، على الرغم من استمرار استيفاء كلفة الاشتراكات المقابلة من جانب العامل الفلسطيني وصاحب العمل. ويدفع هذا الواقع العديد من أصحاب العمل إلى الامتناع عن تسجيل الفلسطينيين في الضمان، ما يجعل الفلسطيني “عالقًا بمتاهة دائمة ثانية بين الدولة وصاحب العمل، إضافة إلى المتاهات البيروقراطية للحصول على إجازة في المقام الأول”، بحسب ما يشرح الباحث المتابع لحق الفلسطينيين في العمل جابر سليمان. وتقول المديرة العامة لنقابة الممرضات والممرضين نتالي ريشا لـ “المفكرة” إنّ تسجيل الممرّضين الفلسطينيّين لدى النقابة “ضعيف”.

في مدخل الطوارئ في إحدى مستشفيات طرابلس، يعمل خالد، وهو ممرض فلسطيني، منذ 12 ساعة، وهو بحاجة لساعات عمل إضافيّة تحسّن راتبه الهزيل، واعيًا جدًّا لواقعه كفلسطينيّ، لم يصمّم النظام القانونيّ لإنصافه. لا يتمتع خالد بالضمان الصحي والاجتماعي ولم ينتسب إلى النقابة بسبب “رفض الإدارة أو عدم تحّمسها” للسير بالإجراءات القانونيّة، فيما يتقاضى “100 دولار و10 ملايين ليرة لبنانية فقط لا غير، كأساس راتب، وهو تقريبًا الحد الأدنى”، مبلغ لا يكفي لتأمين أساسيات الحياة (تحتاج الأسرة ما بين 580 و800 دولارًا شهريًا لتأمين الحد الأدنى من أساسيات العيش، ومن دون احتساب الصحة) ممّا يضعه في وضع مالي صعب. يقول خالد إنّ التعديلات القانونية الأخيرة لم تنعكس تحسّنًا في وضعه المهنيّ أو المعيشيّ، فيما يذكّر بأنّ الرواتب في قطاع التمريض دائمًا ما كانت الأدنى بالنسبة للجميع. ويضيف: “ربّما لهيك سمحولنا نشتغل فيها بإجازات سنوية، وشروط ضمان اجتماعي غير عادلة، ودائمًا كأجانب، وليس كلاجئين ومقيمين حتى العودة إلى فلسطين”.

بعض النقابات لا تمنع الأجانب بشكل عام من العمل، لكنها تضع في أنظمتها الداخلية مبدأ المعاملة بالمثل، مبدأ يصبح مجحفًا في حق الفلسطينيين بشكل خاص، في ظلّ واقع الاحتلال في فلسطين، واستحالة معاملة اللبنانيين في “دولة” للفلسطينيّين” بالمثل، ليكون هذا الشرط شمّاعة مجدية في حرمان الفلسطينيين في العمل. ومن الجدير ذكره هنا، أنّ استحالة تحقيق هذا الشرط في ظل عدم وجود دولة “فلسطين” بالمعنى القانوني للكلمة، يفتح الطريق أمام مواجهته وإسقاطه، عملًا بالمبدأ القانوني القائل بأن “لا أحد ملزم بالمستحيل”، وهو ما استندت إليه المفكّرة خلال وضعها استراتيجيّة قضائيّة لمواجهة شروط “الانتماء لدولة معترف بها” و”المعاملة بالمثل” لمنح حقوق أو حجبها عن اللاجئين الفلسطينيّين، وكذلك الأفراد عديمي الجنسيّة.

يعرف محمد الخواجة، الثلاثينيّ الفلسطيني من مخيّم البداوي، أنّه ينتمي إلى “دولة غير معترف بها”، بل إنّ هذه الحقيقة مجبولة عليها قضيّته، قضيّة فلسطين. ومحمّد، المنتمي للجيل الثالث بعد النكبة، فضّل العمل في الحدادة على اختيار التخصّصات الجامعية معدومة الأفق في لبنان. وبشكل غير نظامي طبعًا، يعمل محمد في مهنته بجدّ، ويؤمّن اكتفاء ما لأسرته. وبشغف الفنان الفخور بما صنعته يداه، يعرض الشاب صورًا لأعمال الأثاث المصنوع من الحديد (فير فورجيه) التي يتقنها. لكن هذه المهنة التي أعطاها نصف عمره، لم تمنحه هدوء البال. محلّه الذي يعمل به هو على اسم أبيه، لكنه لم يرثه عنه بسبب منع الفلسطينيين من التملّك.

ومنع الفلسطينيين من التملّك لم يحصل إلّا عام 2000، حينما صدر قانون ينظّم تملّك الأجانب في لبنان، لكنه حدده بالأجانب الذين ينتمون إلى “دولة مُعترف بها”، فاستثنى الفلسطينيين منذ ذلك الحين من حق التملّك. والحق بالتملّك يمكّن الفرد من الشروع في العمل وتأمين اكتفائه، وهو أحد الأسس الضرورية لتمكين الأفراد من ممارسة حقوقهم في العمل والمساهمة في بناء الاقتصاد وتحقيق الازدهار الشخصي والاقتصادي. ومن لا يملك، لا يرث ولا يورّث، يقول محمد، ما يعني ليس فقط أنّ الأخير يجهل مصير هذا المحل الذي هو باب رزقه، بل إنّه لا يستطيع أن يشتري منزلًا ما يضمن عبره أمانه الحياتي في تقاعده أو يورّثه لأولاده، ليضمن حياة أفضل: “لا سيّما بالنسبة إلى حدّاد تعتبر مهنته مرهقة جسديًا وخطرة.. وبين ماس كهربائي وخطر سقوط من ارتفاع، أنا نجيت من الموت خلال 15 سنة من العمل فقط، مرات عدة”. يُحرم الفلسطينيون إذًا من إمكانية مراكمة الأمان الاقتصادي والحياتي وتوارثه أيضًا، ليكتمل الحصار عليهم، ومعه تهميشهم على الصعد كافة، وفي رأسها الاقتصادي، ويضاف مكوّن جديد إلى وصفة التمييز المؤسّسي والبنيوي الممنهج ضدّ اللاجئين الفلسطينيّين.

يربط الباحث الفلسطيني جابر سليمان التمييز المؤسّسي الممنهج بالمقاربة الأمنية التي تطبع تعامل الدولة اللبنانية مع الفلسطينيين، فيما تشير الباحثة زينة الحلو إلى أنّ السلطة وحينما تقرّر أن تتعاطى مع أي ملف على أنّه ملف أمني، فهي تُسقط كل الاعتبارات الحقوقية، وهو ما يحصل في التعامل مع الفلسطينيين. ويلفت سليمان هنا إلى أنّ “الأمن الراسخ الحقيقي القابل للديمومة هو الأمن البشري، الذي يحرّر الإنسان من الخوف والحاجة، لكونه جزءًا لا يتجزّأ من منظومة حقوق الإنسان”.

وكنتيجة لهذا السحق الحقوقي الذي يطال مجمل الحقوق الأساسية للفلسطينيين، وعلى ضوء التمييز المؤسّسي الممنهج، فإنّ أعداد الفلسطينيين في لبنان لم تنمُ بالنسبة عينها لنظيرتها اللبنانية، إذ تضاعف عددهم مرة واحدة خلال 75 سنة، من حوالي 120 ألفًا وصلوا لبنان عام النكبة، إلى حوالي 200 إلى 250 ألفًا فقط يقيمون في لبنان اليوم بحسب تقديرات الأونروا. وهذا معدل نمو سكاني بطيء جدًا، ليس مقارنة مع معدل نمو سكان لبنان اللبنانيين في الفترة نفسها فقط، بل مع معدلات نمو الفلسطينيين في فلسطين وفي الشتات أيضًا. ويحمل ضعف هذا النمو تفسيرًا أساسيًا يتعلّق بأرقام هجرة الفلسطينيين من لبنان تحديدًا حيث نما عدد الفلسطينيين في الشتات عشرة أضعاف، وفق الإحصاء المركزي الفلسطيني. وبالتالي تحوّل لبنان إلى بلد عبور لمن استطاع من اللاجئين الفلسطينيين، وهو أحد أهداف خنقهم وتجريدهم من حقوقهم.

تأكيد على العودة في سوق مخيّم البدّاوي للاجئين الفلسطينيّين

بنية تخدم أيديولوجيا

وبعد الحاجات الرأسماليّة للاقتصاد اللبنانيّ، والهندسة القانونيّة للتمييز ضدّ الفلسطينيّين، يأتي دور النظام السياسي اللبناني القائم والذي يسمح بهذا الاستغلال ويبقي عليه رغم كل التناقضات السياسية التي تحكم أطرافه.

والتمييز المؤسّسيّ الذي تمّ تبيانه في الجزء الثاني، يخدم حاجات رأسماليّة تمّ تبيانها في الجزء الأوّل، لكن هذه البنية، وهذه الأدوار الاقتصاديّة المفروضة، تتّحد لتخدم نظامًا سياسيًّا يبدو أنّه عصيّ على أن ينظر إلى الفلسطينيّين من باب الحقوق والواجبات لهم كأشخاص ولاجئين، فتستمرّ مقاربة واحدة لملفّهم، رغم كل التناقضات السياسية التي تحكم أطرافه.

تقول الباحثة زينة الحلو إنّ شوفينية النظام اللبناني هي موضع الاتهام، شوفينية تعبّر عن نفسها عبر رفض الآخر المختلف وكرهه. والنظام اللبناني هو بطبيعته نظام متعدد الأوجه، كما ترى، وهو نظام طائفي وذكوري ومركزي، ما يخلق طبقات متعددة من التهميش للواقعين تحت سلطته، وعلى هذه الأسس وغيرها: “وكلما بعدت فئة أو فرد عن صورة النظام، كلما تراجعت على السلم الاجتماعي، وصولًا إلى السحق”.

وتلفت الحلو إلى أنّ تطوّر السلطة اللبنانية نتيجة الحرب وضع الفلسطينيين في أدنى هذا السلم “وإن كان النظام يخلق مسارات تهميش للبنانيين، فإنّ مسار تهميش الفلسطينيين يبدأ هنا من مكان أبعد بكثير”. وإذ تذكر  سرديّتين في الواقع اللبناني تتحكّمان بمقاربة ملف الفلسطينيين ومن ضمنه حقهم في العمل. الأولى تروّج لخطر توطين اللاجئين وعلى رأسهم الفلسطينيين وتعتبره “خطرًا وجوديًّا”، يقودها اليمين اللبناني، وتعزز الهاجس الديمغرافي كل الوقت بحجة التوازن العددي للطوائف، كما تروّج لفكرة أنّ منح أي حقوق للفلسطينيين تعني توطينًا لهم، وهي شماعة أساسية في التعامل معهم. والسردية الأخرى التي تلاقي خطر التوطين تتلطى بالحرص على حق العودة والتمسك بالقضية الفلسطينية، فتوغل في الإبقاء على الفلسطينيين مسلوبي الحقوق. ويبرز البعد الطبقي والطائفي في التعامل مع الفلسطينيين مع ما يحكيه التاريخ القريب عن تجنيس عدد كبير من المسيحيين الفلسطينيين، وهم أقلية ديموغرافية، وعلى خلفية طائفية، خلال فترة الخمسينيات، إضافة إلى حصول النخب البرجوازية وكبار الأثرياء والمتمّولين الفلسطينيين على الجنسية اللبنانية خلال الفترة نفسها.

لكن الحلو تقول إنّ ما يحكم الواقع حقًا هو فكرة أساسية لدى الجميع، وهي هاجس الإبقاء على التوازنات السياسية دائمًا كما هي، فلا يكسر طرف الآخر، لتكون الضحية الأساس دائمًا هي الناس وحقوق الناس: “فحتى في مرحلة بناء السلم، عقب حرب 1975، لم يحدث تغيير كبير، رغم أنّ التغييرات السياسية يفترض أن تترجم عادة بتغييرات على الأرض، لكن كل الأطراف، سواء ناصرت قضية الفلسطينيين أم حقدت عليهم، تظلّ تتجنّب فتح ملفّهم، وتتعامل مع كلّ الملفات بشكل عام على أنّها صندوق “باندورا” من الأفضل الإبقاء عليه مقفلًا”.

يقول الباحث الفلسطيني سليمان جابر إنّ الفلسطينيين يعانون من إحساس عميق ومتأصّل بالظلم والقهر والتمييز. إحساس لا يجد أن يترجم إذا ما علمنا أنّ القانون اللبناني لا يكفل لهم الحق بتنظيم تظاهرات، تمامًا كما يقصيهم عن النقابات، فيما تقول الباحثة زينة الحلو إنّ الفلسطينيين أنفسهم باتوا يشعرون أنّهم بحاجة مستمرّة لإثبات حسن نيّة فلا يقدّمون أنفسهم في المشهد اللبناني إلّا على هيئة متطوّعي إغاثة ودفاع مدني، فيما الغربة تفصلهم عن محيطهم اللبناني محدثة هوّة مادية ونفسية كبيرة.

ومع التهميش السياسي والحقوقي للفلسطينيين، المترافق مع تهميش مكاني مستمر، تغيب قضية حقوق اللاجئين الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدّمتها الحق بالعمل، فضلًا عن حقهم في التملّك، عن أجندات الأحزاب والقوى السياسية، حتى تلك التي تصف نفسها تقدميّة أو ثورية. وإذ حضرت كلّ المطالب في انتفاضة 17 تشرين، كان الصوت الفلسطيني منخفضًا جدًا، إذا ما أردنا أن نحتاط، وكي لا نقول إنّه كان معدومًا.

وإذ يختصر جابر المشهد بالقول إنّ “هناك من يقدّسون القضية من جهة، ويعذّبون أهلها ويحتقرونهم من جهة ثانية”، فإنّه يحذّر من أنّ البيئة اللبنانية هي بيئة طاردة للفلسطينيين، تقفل كلّ الأبواب في وجوههم، وبدل أن تساعدهم على الصمود من أجل العودة، هي تهجّرهم، وهو ما تترجمه أرقام نموّهم المنخفضة بالفعل. والتهجير إلى بلد ثالث، يتناقض مع شمّاعة الحرص على عودتهم إلى فلسطين، حيث يشكّل تهجيرهم إلى الغرب عامة، توطينًا نهائيًا، على الأرجح، لا يعودون بعده إلى أرضهم المحتلة.

 ويبقى أن يقال، إنّه وفي عيد العمّال والعمل، في العام 2024، لا يزال اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يبحثون عن عمل كريم ونظاميّ ومحميّ قانونًا، لعلّهم يحتفلون به، لأنّ العمل حقّ لكلّ إنسان على وجه البسيطة، من دون الحديث عن بداهة هذا الحق حتى من الناحية الاقتصادية. فالفلسطينيّون ليسوا مغتربين عن بلاد يرسلون إليها الدولارات ويحتاج عملهم إلى تنظيم، بل هم جزء أساسيّ من الحركة الاقتصادية في لبنان. حقّ بديهي تشلّه خدمة نموذج اقتصادي ونظام سياسيّ حيث يتم تفضيل الاستغلال على الاعتراف بالحقوق وبالعيش الكريم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني