علّق مجلس شورى الدولة في 03/02/2022 تنفيذ القرار رقم 96/1 المُتعلّق بالمهن “الواجب حصرها باللبنانيين”[1] والصادر عن وزير العمل مصطفى بيرم في 25/11/2021. وكانت الرابطة المارونية طعنتْ في هذا القرار أمام المجلس على خلفيّة استثناء اللاجئين الفلسطينيين المولودين في لبنان من الحصر المذكور. فقد رأت الرابطة أن من شأن تطبيق هذا القرار كما هو، أن يضع اللبنانيين والفلسطينيين على قدم المساواة في ما يتصل بمجال العمل في لبنان. وعليه، اعتبرت الرابطة أن هذا القرار يشكّل توطيناً مقنّعاً للفلسطينيين عملاً بالقول الشعبي: “حيث تُرزق تُلزق” مما يؤثّر، وفق أقوالها، على التّوازن الطائفي والوفاق الوطنيّ ويمسّ تاليّا بأهداف الرابطة وبالمصالح التي تدافع عنها.
وإذ خلا قرار مجلس الشورى المشار إليه أعلاه من التّعليل، كما هي حال قرارات وقف التّنفيذ الصادرة عنه عموماً، يبقى أن مجرّد قبوله مطلب وقف تنفيذ القرار الإداري يعني أنه افترض توفّر شرطيْن وهما جدية أسباب الإبطال المُدلى بها واحتمال تضرُّر الرابطة منه في حال نفاذه وفق ما تفرضه المادة 77 من نظامه. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى ميل راجح لدى المجلس لقبول الدعوى وتالياً إلى تفهّمه الهواجس الطائفية التي عبّرت عنها الرابطة المارونية على طول وعرض الطعن المقدّم منها، وقوامها الهواجس بتوطين الفلسطينيين والإخلال بالتوازن الديمغرافي بما ينعكس سلباً على حقوق الموارنة في لبنان.
وقبل المضيّ في إبداء الملاحظات التي تثيرها هذه القضية وهذا القرار، يجدر الذكر أنه صدر عن الغرفة الأولى المكوّنة عن رئيسها فادي الياس والمستشاريْن كارل عيراني وباتريسيا فارس.
المساواة التي ليست كذلك
أول الأمور التي نلحظها عند قراءة مطالعة الرابطة، هو أنها اعتبرت أن استثناء الفلسطينيين من تطبيق حصر المهن المشمولة بالقرار إنما يؤدّي عمليّاً إلى تحقيق المُساواة بين هؤلاء واللبنانيين في مجال العمل. والواقع أن هذا الادّعاء يعكس مغالاة لا تصمد أمام أيّ تحليل جدي.
فمن جهة أولى، إن رفع حظر العمل في هذه المهن عن اللاجئين الفلسطينيين الحاصل بموجب هذا القرار لا يعني مُطلقاً إعطاءهم حقا مكتسباً في العمل فيها، حيث يبقى هؤلاء ملزمين بالحصول على ترخيص للقيام بأي عمل، وهو ترخيص بإمكان وزير العمل حجبه أو منحه وفق المعايير التي يحددها وحاجات السوق وحماية اليد العاملة اللبنانية.
ومن جهة ثانية، يبقى العمل في المهن المنظمة بقوانين خاضعة لشروطها، ومنها قوانين تحصر هذه المهن باللبنانيين فقط دون سواهم (كما هي حال المحاماة والطب البيطري والقبالة القانونية والممرضات والممرضين). هذا فضلاً عن أنه لا يجوز القيام بمهن أخرى إلا في حال قبول انتساب الراغبين بممارستها للنقابات الناظمة لها كما هي حال نقابات الأطباء والمهندسين إلخ.
ومن جهة ثالثة، فإنّ أغلب الوظائف والمسؤوليات العامّة تفترض أن يكون الموظّف فيها (أحياناً منذ أكثر من 10 سنوات)، ممّا يغلق الباب تماماً أمام اللاجئين الفلسطينيين في هذا المجال أيضاً.
وعليه، بإمكاننا القول أن القرار منح بأحسن الأحوال اللاجئين الفلسطينيين ميزةً بالنسبة لسائر الأجانب المقيمين في لبنان في بعض مجالات العمل، من دون أن يساوي إطلاقاً بينهم وبين اللبنانيين. ويجد تمييز اللاجئين الفلسطينيين إيجاباً على هذا الوجه ما يفسّره بالنظر إلى وضعيتهم القانونية الخاصة. فلبنان اعترف بصفتهم هذه منذ دخولهم إليه في 1948 وتعامل معهم على أنه يضمن استضافتهم ومكوثهم فيه. والأهمّ فيما يعنينا هنا هو أنّ المشرّع اللبنانيّ سلّم بضرورة تمييزهم إيجاباً عن سائر الأجانب حين أقرّ في سنة 2010 تعديل بعض أحكام قوانين العمل والضمان الاجتماعي (المادة 59 من قانون العمل والمادة 9 من قانون الضمان الاجتماعي، وذلك بموجب القانونيْن رقميْ 128 و129 الصادرين في 17/8/2010) بهدف تحسين أوضاع هؤلاء المعيشية. وقد أدّت هذه التّعديلات من جهة إلى إعفاء اللاجئين الفلسطينيّين من رسْم إجازة العمل ومن جهة أخرى إلى استثنائهم من شرط المعاملة بالمثل المفروض على غير اللبنانيين بما يتصل بتعويض نهاية الخدمة، وهو استثناء تفرضه استحالة تحقق هذا الشرط في ظل عدم وجود دولة “فلسطين”، بالمعنى القانوني للكلمة، وتالياً عملاً بالمبدأ القانوني القائل بأن “لا أحد ملزم بالمستحيل” (Nul n’est tenu à l’impossible)[2].
حين يصبح منح أيّ حق مدني “توطيناً مقنّعاً”
ما أن ادّعت الرابطة المارونية أن القرار وضع اللاجئ الفلسطيني على قدم المساواة مع اللبناني، حتى قفزت إلى استنتاج لا يقلّ مغالاة مفاده أن القرار المذكور سيشكّل في حال نفاذه “توطيناً مقنّعاً”، مستحضرة بذلك ما أمكن تسميته: فزّاعة التوطين. وللوصول إلى ذلك، رأتْ الرابطة أنّ القرار يفتح سوق العمل على مصراعيه أمام العمالة الفلسطينية ويسمح لهم “بالاندماج تماماً” في لبنان “وكأنه وطن بديل”، مما “يسهّل إبقاءهم خارج وطنهم”، وذلك عملاً بالمثل الشعبي المذكور أعلاه: “حيثما تُرزق تُلزق”. وبذلك، رأت الرابطة أن القرار يتعارض مع “المصلحة العليا للدولة اللبنانية وسيادتها العليا” ومع “المبدأ العام الدستوري القاضي بمنع التوطين” (الفقرة “ط” من مقدمة الدستور).
وعدا المغالاة الواضحة في استنتاجات الرابطة لجهة اعتبار تمكين الفلسطينيين من ممارسة مزيد من المهن في لبنان بمثابة توطين، فإنه يعكس أمراً لا يقلّ خطورة، وهو يتمثّل في توجّسها من أيّ حقّ مدنيّ قد يُمنح لهؤلاء في لبنان خوفاً من اندماجهم فيه. وهو توجّس لا يدفعها إلى رفض أيّ تمييز إيجابيّ للفلسطينيين بالنسبة إلى سائر الأجانب وحسب، بل قد يدفعها حتى إلى المطالبة بالتمييز سلبياً ضدّهم بالنسبة إلى سائر الأجانب في لبنان.
فبخلاف ما ذهب إليه القرار لجهة فتح مجال العمل أمامهم، يفرض منطق الرابطة في عمقه ضرورة إغلاق هذا المجال في وجههم بقدر ما يكون ذلك ممكنا منعاً لاندماجهم أو ربما أيضاً ضماناً لحصرهم في غيتوات مغلقة أو ربما دفعهم إلى الهجرة الطوعية، كل ذلك عملاً بمقدمة الدستور التي تمنع التوطين. وفي حين يناقض هذا التوجّه/التوجّس صراحةً ما ذهب إليه المشرّع اللبناني في 2010 وفق ما سبق بيانه، فإنه يتماشى بالمقابل مع عدد من التوجّهات التشريعيّة التي أمكن تفسيرها في الرغبة في مجاملة الهواجس الطائفية وبخاصة لدى الموارنة. وقد تمثّل أهم هذه التوجّهات في التعديل الطّارئ على القانون التعديليّ لتملّك الأحانب الحقوق العينية في 2001[3] والذي عمد إلى التمييز السلبي ضدّ “الذين ليسوا من تابعية دولة معترف بها” مانعاً إياهم بخلاف سائر الأجانب من تملّك حقوق عينية في لبنان بأي صورة. وقد أشارتْ “المفكرة” في عدد من دراساتها إلى بروز آلية التمييز السّلبيّ هذه في عدد آخر من الاقتراحات التشريعية معبرة عن خشيتها من تحوّلها إلى وسيلة نموذجية لإرضاء الهواجس الطائفية[4]. حتى كأنما انعدام الجنسية بات وفق هذا المنطق بمثابة جرم يستدعي المعاقبة والإقصاء وذلك على نقيض مبادئ حقوق الإنسان التي تفرض على العكس من ذلك التضامن مع عديمي الجنسية وتالياً التمييز الإيجابي لصالحهم[5]. وخير دليل على هذا الممشى هي مسودة مشروع القانون التي قدّمها وزير الداخلية الأسبق زياد بارود لمجلس الوزراء والتي تضمّنت منح أبناء اللبنانيات جنسيتهن باستثناء أبناء اللبنانيات من زوج ليس من تابعية دولة معترف بها، وذلك منعاً للتحايل على القانون[6]. ونلحظ تالياً أن اللاعقلانية وصلت هنا إلى درجة التحدّث عن حيلة الرحم أو الأمومة، أي حيلة إنجاب لبنانيّة طفلاً من فلسطينيّ بهدف إعطائه الجنسية اللبنانية.
شورى الدولة: الدفاع عن المصالح الفئوية أبدى من الدفاع عن الصالح العام
أسهبت الرابطة في تبيان صفتها ومصلحتها المباشرة في تقديم المراجعة، وذلك على أساس قراءتها المبالغ بها لمضمون القرار وأبعاده. ولهذه الغاية، عدّدت الرابطة أهدافها تفصيلياً، لتستخلص أنّ هذا القرار يمسّ بها بصورة مباشرة، طالما أنّ من شأنه أن يُسهّل اندماج اللاجئين الفلسطينيين مع ما يستتبع ذلك من “إخلال بميثاق العيش المشترك بين العائلات الروحية ومن نتائج سلبية على صعيد التوازنات الداخلية والوفاق الوطني”، فضلاً عن إخلاله بالتوازن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وبحقوق المواطنين اللبنانيين عموماً، ومن ضمنهم الموارنة. واستندتْ الرابطة لدعم موقفها إلى قرار مجلس شورى الدولة بقبول صفتها ومصلحتها للطعن في مرسوم التجنيس وذلك بموجب القرار الصادر عنه (مجلس القضايا) في تاريخ 07/05/2003.
بالمقابل، وإذ استهجن ممثلو الدولة تقدّم الرابطة بالدعوى، فإنهم طلبوا ردّها لانتفاء الصفة والمصلحة، طالما أن القرار لا يسبب لها ضرراً مباشراً. وقد شدّد هؤلاء على اختلاف هذا الطعن عن الطعن في مرسوم الجنسية حيث قبلت صفة الرابطة. فبخلاف التجنيس، لا يؤدي استثناء اللاجئين من حصر المهن باللبنانيين بحال من الأحوال إلى المسّ بالتركيبة والتوازنات الديمغرافيّة، طالما أنه لا يمنح الجنسية لأي منهم. وبعدما سجّلت وزارة العمل (من ضمن مرفقات اللائحة الجوابية للدولة أمام المجلس) أن الرابطة عجزت عن إثبات أي ضرر مباشر على المصالح التي أنشئت بغرض حمايتها، فإنها عمدت إلى تذكير المجلس بوجوب استخلاص العبر من ذلك والانسجام مع اجتهاداته السابقة والتي تمسك فيها بنفي صفة الجمعيّات في الطعن في القرارات الإداريّة في حالات مماثلة.
وبالعودة إلى القرارات التي استندت إليها الوزارة، يتبدّى أنها أدّت كلها إلى تجريد الجمعيات البيئية من التدخل لحماية الأملاك العامة والبيئة وتالياً إلى تجريد القضاء الإداري من أداء دوره في حماية الأملاك العامة. وكانت “المفكرة” ذهبت في معرض حديثها عن تلك القرارات إلى حدّ الحديث عن ضرورة خوض معركة اجتماعية أمام مجلس شورى الدولة لانتزاع اعترافه بصفة الجمعيات البيئية (ومن خلالها المواطنين) في الطعن في القرارات الإدارية المتصلة بأهدافها حفاظاً على الشرعية والصالح العام. وآخر تدخلاتها في هذا الخصوص هو المقال المنشور منها تعليقاً على القرار الصّادر في قضيّة الطعن في مرسوم إشغال الأملاك العامّة في منطقة الناعمة والذي ردّ الطعن المقدم من جمعيتين بيئيتين بحجة انتفاء صفتهما ومصلحتهما. وقد شدّدت المفكرة في هذا المقال على الرأي المخالف الذي أبدته المستشارة المقررة لمى ياغي في هذه القضية، والتي أوضحتْ فيه أن المجلس أخطأ بقوله أن الضرر البيئي غير ثابت طالما أن المخالفات المدّعى بها هي انتهاكات لأحكام تدخل ضمن حماية البيئة وأن ثمة احتمالاً كبيراً أن ترشح المشاريع المزمع إنجازها ضمن الأملاك البحرية والتي يتخللها ردم مساحات شاسعة منها عن أضرار بيئية جسيمة.
أمام هذا الجدل، اختار مجلس شورى الدولة قبول صفة الرابطة ضمناً من خلال قبوله وقف تنفيذ القرار المطعون فيه. وقد بدا المجلس بذلك متماهياً مع الرابطة والهواجس الطائفية التي عبّرت عنها رغم طابعها المبالغ به، في مقابل تشدّده غير المبرر والمشار إليه أعلاه حيال الجمعيات البيئية رغم تقدمها بإثباتات كافية على وجود مخاطر جمّة تتهدد أهدافها المتمثلة بحماية البيئة، بشهادة إحدى قاضيات المجلس. وبذلك، بدا المجلس وكأنّه ينحو منحى السلطات السياسية سواء لجهة تماهيها مع الهواجس الفئوية الطائفية مهما بدت مبالغاً بها وغير عقلانية مقابل تنكرها للمصالح العامة والحقوق الأساسية مهما بدت حيوية أو بدا خطر المس بها فاقعاً.
وما يزيد من قابلية هذا التوجّه للنقد هو أن وزير العمل كان أرسل بتاريخ 29/12/2021 تبعاً للمراجعة إلى مجلس شورى الدولة مشروع قرار جديد إذعاناً منه لموجب استشارته في مشاريع النصوص التنظيمية قبل إصدارها، بهدف تصحيح العيب الشكلي للقرار المطعون فيه. ففي ظل موقف الوزارة هذا، كان من الأبدى بالمجلس إبداء ملاحظاته على القرار ضمن رأيه الاستشاري في موازاة أداء دوره المأمول في عقلنة لغة الحقوق وأنسنتها بمنأى عن أي لغو أو استكبار أو تشنّج، بما يفرض ردّ الدعوى برمّتها.
لتحميل قرار شورى الدولة اضغطوا هنا
[1] والمنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 09/12/2021، العدد رقم 49.
[3] القانون رقم 296 تاريخ 03/04/2001.
[4] نزار صاغية وكريم نمّور، “حق اللاجئين الفلسطينيين في العمل في لبنان“، مبادرة المساحة المشتركة بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، 2015.
[5] المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية لسنة 1954 (انفاقية نيويورك)، الفقرة 2 و3.