أبرز الأحكام القضائية في لبنان – 2018: نقابيو سبينس يحققون انتصارا ثمينا


2019-05-03    |   

أبرز الأحكام القضائية في لبنان – 2018: نقابيو سبينس يحققون انتصارا ثمينا

كما في كل سنة، تستعيد “المفكرة” أهم الأحكام القضائية التي تم رصدها، والتي آلت إلى تحقيق مكسب حقوقي هام. وقد تميزت هذه السنة بمجموعة من الأحكام التي بدا فيها القضاء في حال تفاعل حقيقي مع مطالب وحراكات حقوقية، ولا سيما في قضايا حرية التعبير وحقوق العمال. كما تميزت هذه السنة بمجموعة من الأحكام الهامة في قضايا الفئات المهمشة قانونا، والتي بدت بمثابة تصويب هامّ لمجموعة من الآراء المسبقة، وبخاصة في قضايا اللاجئين السوريين والمثليين.

1- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: إنصاف نقابيي سبينس وضمان حق التعليم

أبرز الأحكام في هذا المجال اتصلت بقضايا كانت حاضرة بقوة في الحراكات الاجتماعية خلال السنوات السابقة، وهي تحديدا حكمان صدرا في قضايا تظلم مؤسسي نقابة عمال شركة سبينس ضد قمع إدارة الشركة لهم، وحكم ثالث صدر في قضية الأقساط المدرسية في المدارس الخاصة.

حكمان أنصفا مؤسسي نقابة عمال سبينس

صدر في هذه السنة حكمان في القضايا التي رفعها مؤسسو نقابة عمال سبينس ضد الشركة منذ 2012. ويذكر أن هذه القضايا أتت تبعا لحراك عمالي واسع، أخذ بداية شكل المطالبة بتسديد زيادة الأجور التي قررتها الحكومة وانتهى بإنشاء نقابة للعمال سارعت الشركة إلى الإنقضاض على مؤسسيها بطرق شتى، ترغيبا وترهيبا. وقد تدرجت التدابير المتخذة من تدابير تمييزية ضد المؤسسين (نقلهم إلى فروع بعيدة من دون أي تعويض إضافي وتغيير وظائفهم في الشركة) وصولا إلى الصرف التعسفي، علما أن أحد هؤلاء تم ّالاعتداء عليه جسديا خلال دوامه وفي أماكن العمل. وقد وضعت الشركة عمليا أعضاء النقابة المؤسسين والمنتمين إليها لاحقا أمام الخيار الآتي: إما الاستقالة من النقابة وإما الصرف من العمل. بفعل هذه التدابير القمعية، باتت النقابة في آخر سنة 2012 مكونة حصرا من عمال تم صرفهم من العمل، بعدما استقال سائر الأعضاء العاملون في الشركة منها حفظا لوظائفهم. إزاء ذلك، لم يكتفِ العمال المصروفون برفع دعاوى ضد الشركة أمام مجالس العمل التحكيمية، إنما لجؤوا أيضا إلى القضاء الجزائي، لمحاسبة الشركة ومديرها التنفيذي جزائيا، وذلك أملا بتحصين الحرية النقابية.

وفي هذا الإطار، وأمام غياب أي نص خاص بقمع الحرية النقابية، أسندوا دعواهم إلى المادة 329 من قانون العقوبات التي تعاقب كل فعل من شأنه أن يعوق اللبناني عن ممارسة حقوقه المدنية بالحبس من شهر حتى سنة إذا اقترف بالتهديد والشدة وبأية وسيلة أخرى من وسائل الإكراه المادي أو المعنوي.

وخلال هذا العام، صدر حكم مميز في القضية الجزائية بتاريخ 20/12/2018، وقد لقي ترحابا واسعا من الناشطين في مجال الحقوق الاقتصادية. كما أصدرت محكمة التمييز[1] بتاريخ 3/7/2018 قرارا آخر لا يقل أهمية بإنصاف أحد مؤسسي الشركة (مخيبر حبشي)، بعد تثبيت حصول أعمال القمع بحقه والتأكيد على حرية العمال بالتعبير عن آرائهم دفاعا عن حقوقهم.

الحرية النقابية بحمى القانون الجزائي

إذاً احتاج الأمر ست سنوات كي يسجل نقابيو سبينس انتصارا ثمينا جدا. تمثل هذا الانتصار في الحكم الرائد الصادر عن القاضية المنفردة الجزائية في بيروت رلى صفير بتاريخ 20/12/2018 والذي انتهى بإدانة المدير التنفيذي للشركة مايكل رايت والشركة جزائيا على أساس المادة 329 من قانون العقوبات المشار إليها أعلاه. ووضع الحكم عقوبة شهر حبس على مدير الشركة وعقوبة غرامة مرتفعة على الشركة، مع إلزامهما بتسديد تعويضات لكل من المدعين (وعددهم ثلاثة) بقيمة أربعين مليون ليرة لبنانية مع حفظ حقهم بالتعويضات العمالية.

ويكتسي هذا الحكم أهمية فائقة. فالدعوى ليست دعوى عمالية عادية يطالب فيها أجير بتعويضات على خلفية الاعتداء على حقوقه. بل هي دعوى جزائية سعى الأجير من خلالها إلى تحريك الحق العام في مواجهة صاحب العمل، معتبرا أنّ الانتهاك الذي تعرّض له لا يشكل اعتداء عليه ينتهي بتعويضات وحسب، بل اعتداء على المجتمع برمته يجدر أن ينتهي بعقوبة جزائية. ومن أبرز الحيثيات التي تضمنها الحكم في هذا الخصوص، الآتية:  “حيث إن الحرية النقابيّة للعمال في لبنان هي من الحقوق المكرّسة صراحة في الباب الرابع (المواد 83 حتى 106) من قانون العمل اللبناني منذ صدوره بتاريخ 23/9/1946، والمرسوم رقم 7993 تايخ 3/4/1952 المتعلق بـ”إنشاء نقابات العمال”، فضلاً عن كونها من الحريات التي يمكن استخلاصها من مضمون مقدّمة الدستور اللبناني (الفقرتان “ب” و”ج”) والمادة 13 منه لأنها من الحريات المكرّسة في الاتفاقيات الدولية السارية المفعول في لبنان ولأنها تندرج ضمن إطار حرّية إبداء الرأي وحرية الإجتماع وحرية تأليف الجمعيات، من هنا، فإن الأفعال التي تؤدي الى تعويق العامل اللبناني عن ممارسة حقوقه النقابيّة، بأي وسيلة من وسائل الإكراه الجسدي أو المعنوي، والتي يعود تقديرها للمحكمة الناظرة بالدعوى، يعاقب مرتكبها سنداً للمادة 329 من قانون العقوبات، وذلك بصرف النظر عمّا إذا جرى صرف العامل المذكور من عمله أم لا، وبصرف النظر عمّا إذا كان صاحب العمل قد أساء أو تجاوز في استعمال حقّه في صرفه …”

وعليه، وبفعل هذا الحكم، باتت مخالفات أصحاب العمل عرضة لملاحقة جزائية كلما منعت العمال من ممارسة حق مدني أساسي (الحرية النقابية أحدها، ولكن ليست الوحيدة). ومن هذه الوجهة، يرتدي الحكم أهمية مضاعفة في الزمن الحاضر: ففيما يزيد بفعل الأزمة الاقتصادية اللاتوازن الواقعي بين أصحاب العمل والعمال، يصبح من الملح أكثر أن يتدخل القانون والقضاء لإعادة بعض التوازن لهذه العلاقات.

حرية التعبير دفاعا عن النفس لا تسمح بالصرف

بتاريخ 03/07/2018، أصدرت محكمة التمييز حكمها في قضية صرف أحد مؤسسي نقابة عمال سبينس مخيبر حبشي. وقد حسمت المحكمة العليا واقعة حصول الصرف تعسفا وعلى خلفية نشاط حبشي النقابي، بعدما نقضت الحكم الابتدائي الصادر عن مجلس العمل التحكيمي الصادر لمصلحة الشركة. وبنتيجة ذلك، ألزم القرار الشركة بتسديد تعويض يساوي أجر عشرة أشهر عمل لحبشي عن صرفه تعسفياً من العمل لديها، فضلاً عن تعويض الإنذار. ويشار إلى أن الصرف حصل قبل يومين فقط من موعد الانتخابات الأولى للنقابة والتي تم انتخابه فيها عضوا في مجلس النقابة. لا بل أن الشركة بررت الصرف بأعمال هي بطبيعتها نقابية، كقيامه بتوزيع مناشير رأت الشركة أنها مسيئة لسمعتها، فضلا عن تذرعها بواقعة غير ثابتة (ولا تعني الشركة إطلاقا) قوامها قيامه بتزوير طلبات انتساب بعض زملائه إلى النقابة.

ومن أبرز الحيثيات التي تضمنها قرار محكمة التمييز هو أن المناشير “التي جرى توزيعها عرضت مسائل تتعلق بالعلاقة بين سبينس وعمّالها وسلطت الضوء على ما يواجه هؤلاء من مشاكل كعدم التصريح عن البعض لدى الضمان الإجتماعي ومعاقبتهم بسبب إنشاء نقابة لهم وفصل بعضهم تعسفياً … وقد خلصت المحكمة على ضوء ذلك إلى القول بأن المناشير التي شارك حبشي بتوزيعها شكّلت وسيلة سلمية لجأ إليها الأجراء… للتعبير عن وضعهم الوظيفي والمعيشي وذلك ضمن حدود حرية التعبير والرأي المصانة قانوناً. وانطلاقا من ذلك، أخذت المحكمة على شركة سبينس بأنها تمسكت بتوزيع المناشير قبل بضعة أيام فقط على إجراء أول إنتخابات نقابية كسبب وحيد من أجل صرف حبشي، مما يشكل تعسفاً في الصرف”. ويلحظ أن الحكم الصادر عن مجلس العمل التحكيمي في بيروت في هذه القضية بتاريخ 19/04/2017، والذي تم نقضه، كان ردّ دعوى حبشي على أساس أن المناشير التي وزعها “تضمنت إساءات وإهانات لسمعة الشركة […]، ولا يعقل أن تصدر عن أجير يفترض أن يعمل بإخلاص ونشاط لدى رب عمله”.

في الاتجاه نفسه، أعابت محكمة التمييز على الشركة عدم التقيد بالشروط الشكلية للتذرع بالمادة 74 فقرة 3 التي تبرر صرف أجير إذا ثبت أنه ارتكب عملا أو إهمالا مقصودا يرمي إلى إلحاق الضرر بمصالح رب العمل المادية، بحيث أنه كان يفترض بالشركة أن تعلم وزارة العمل خطيا بهذه المخالفة خلال 3 أيام من التثبت منها (وهذا ما لم يحصل). وقد رأت المحكمة “أن التغاضي عن إعلام وزارة العمل عن المخالفات المنسوبة للأجير قبل إتخاذ قرار الصرف من شأنه إنقاص الحماية التي قدمها القانون لهذا الأخير عن طريق إعطاء المرجع الإداري صلاحية التحقيق فيما نسب إليه من أفعال كي لا يكون عرضة لما يستنسبه صاحب العمل”. وعلى أساس مجمل هذه الحيثيات، اعتبرت محكمة التمييز الصرف تعسفيا.

الأقساط المدرسية

صدرت قرارات عدة خلال سنة 2018 بشأن زيادة الأقساط في المدارس الخاصة. وما برحت هذه النزاعات تعرض على القضاء المستعجل بالنظر إلى التأخّر المتمادي في تشكيل المجالس التحكيمية التربوية التي تتولى هي قانونا النظر في النزاعات بين ذوي التلامذة وإدارات المدارس الخاصة. وقد أصدرت قاضية الأمور المستعجلة كارلا شواح خلال هذا العام حكما مميزا بتاريخ 24 أيلول 2018 في سياق الإعتراض الذي قدمته إدارة المدرسة ضد قرار تجميد الزيادة على الأقساط الصادر سابقاً عن المرجع نفسه. وقد تميز الحكم بحيثيات عدة:

  • أولا، كرّس الحكم مجموعة من الحقوق الاجتماعية والتي اعتبرها “مقدسة”، بالاستناد إلى الدستور والمواثيق الدولية. وقد لجأ إلى إعلاء شأن هذا الحق تمهيدا لإعلان سمّوه على سائر الحقوق المادية التي قد تتذرع بها الإدارة أو سواها. وقد برر القرار ذلك على خلفية أن “الزيادة موضوع المنازعة الراهنة ألحقت بكافة مكونات أسرة المعترضة (المدرسة) التربوية أفدح الضرر، نظراً للانعكاسات السلبية التي نتجت عنها ووصلت إلى حد تعطيل حق التلاميذ بمتابعة تحصيلهم العلمي، وإنهاء العام الدراسي 2017-2018”. وفي هذا المجال، جاء حرفيا في إحدى حيثيات القرار أن “مصلحة الطلاب وحقهم المقدس بالتعليم تكرسه جملة من المواثيق والمعاهدات الدولية لا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اكتسب بعد الإحالة إليه في الفقرة (ب) من مقدمة الدستور اللبناني، مكانة القاعدة الدستورية في النظام القانوني اللبناني (….)”. بالتالي، تكون “المحافظة على مصلحة الطلاب تسمو على كل مصلحة أو إعتبار”.
  • ثانيا، كرّس الحكم صراحة دور القاضي، وبخاصة قاضي الأمور المستعجلة، في حماية الحقوق الأساسية. وعدا عن أن الحكم اعتبر أنه يتعين على القاضي حماية الحقوق “الأجدر” بالحماية لارتباطها بالنظام العام، فإنه اعتبر أن دور القاضي في هذا الخصوص يصبح أكثر ضرورة وإلحاحا في ظل الظرف الاجتماعي المعيوش وخصوصا في ظل تقاعس الإدارة العامة عن القيام بموجباتها في هذا الخصوص ومنها تشكيل المجالس التحكيمية التربوية. وهذا ما نقرأه بوضوح كلي في الحيثية الآتية والتي جاء فيها أن “الظروف الاقتصادية الدقيقة التي يعاني منها الشعب اللبناني بشكل عام وأولياء الطلبة بشكل خاص … وعدم اتخاذ مصلحة التعليم الخاص أو المجلس التربوي المختص أي قرار نهائي أو مؤقت حتى الساعة بموضوع الزيادة على الأقساط موضوع المنازعة، تحتم تدخل المحكمة الحاضرة حماية لحقوق الأهالي في المدرسة المعترضة…”.
  • ثالثا، أنه على هدي ما تقدم، توسعت القاضية شواح في قبول صفة أهالي التلاميذ في التدخل في الدعوى إلى جانب لجنة الأهالي المنتخبة التي اتخذت مواقف متباينة عنهم، وذلك حماية لمصالحهم التي يعتبرونها معرضة للضياع. وقد ذهب القرار هنا في اتجاه معاكس لما كان تقرر في قضية مشابهة الليسيه –حبوش، وأيضا خلافا لما قررت محكمة الاستئناف في بيروت والتي انتهت إلى فسخ هذا الحكم.

2 – الأحكام المتصلة بالحقوق المدنية والسياسية

في هذا المجال، تم رصد عدد من الأحكام، أغلبها يندرج تحت عنوان حرية التعبير، مع ورود بعض الأحكام الهامة التي تندرج تحت خانة الحق بالمحاكمة العادلة.

حرية التعبير

هنا، برز عدد من الأحكام، أبرزها الأحكام المتصلة بحرية التعبير، وبخاصة حرية الكشف عن الفساد. ففيما تابع عدد من قضاة الأمور المستعجلة توجهات سابقة لزملائهم في إخضاع أي مطلب لتضييق حرية التعبير لمبدأي الضرورة والتناسب، تميّزت محكمة المطبوعات في بيروت هذه السنة بحكم لافت في اتجاه تغليب الدفاع عن الصالح العام على سمعة المسؤولين السياسيين. كما تميزت أحكام صدرت عن القضاة المنفردين الجزائيين في قضايا ناشطي الحراك والتي ذهبت إلى توسيع إطار حرية التعبير في مجال نقد الأداء السياسي.

مطبوعات بيروت: لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب ويدلّ على الفساد بشكل موضوعي”

كما سبق بيانه، أصدرت هذه السنة محكمة المطبوعات في بيروت[2] حكما بارزا جاء بمثابة تحوّل في مقاربتها لحرية التعبير. وقد آل هذا الحكم الصادر بتاريخ 4/12/2018، إلى إبطال التعقبات ضد أستاذ محاضر بمادة الآثار في الجامعة اللبنانية د. ناجي كرم، على خلفية الانتقادات القاسية التي كان وجهها إلى وزير الثقافة السابق غابي ليون في برنامج تلفزيوني، بشأن سوء إدارته لملف الآثار آنذاك، وبالأخصّ فيما يتصل بهدم المنزل الذي كان يسكنه الكاتب أمين معلوف والمرفأ الفينيقي. وقد بنت المحكمة حكمها بردّ الدعوى على عبارة ذات دلالة هامة، ومفادها أنه “لا يستقيم عدالة وقانونا إدانة من يصوّب ويدلّ على الفساد بشكل موضوعي”.

وما يزيد من أهمية هذا الحكم هو أن تصريحات كرم كانت تضمنت اتهامات مباشرة للوزير بالتخلّف والجهل والفساد وصولا إلى المطالبة بإقالته، حماية لما تبقى من التراث اللبناني. ومن أهم ما جاء في التصريحات المدعى بها: “أكثر من غباء، هنالك إجرام. إذا كان غباء فهي مصيبة، وإذا كان إجراما بحق التراث المصيبة أكبر. في الحالتين، النتيجة ذاتها: تراثنا يتدمر ويتخرب على يد المسؤولين عن حمايته”، “هذه ليست المرة الأولى لسوء الحظ مع الوزير الحالي (التي يرجع فيها الوزير عن قرار حماية لموقع معين)، المينا الفينيقي كان مصنف كسروا قراره، المدرج الروماني مصنف وكاسر القرارات ويريده أن يبيعه للقطاع الخاص”. “الوزير ليون من هو ليمحو آثارا شخصية بأهمية آثار أمين معلوف في بيروت” “لم يعد بمستطاعي إلا الحديث عن الفساد”.

وإلى جانب افتراض أن الدفاع عن الآثار هو دفاع عن المصلحة العامة، استندت المحكمة للوصول إلى هذه النتيجة على اعتبارات ثلاثة:

الأول، أنه يقتضي قبول السياسيين وأشخاص القانون العام بأنهم عرضة للمساءلة والنقد، طالما أنهم يتولون إدارة الشأن العام. وقد تميّزت المحكمة في هذا الإطار بالإحالة إلى قرار كولومباني الشهير الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتاريخ 25/6/2002 مع إيراد مقاطع واسعة منه باللغة الفرنسية في متن الحكم، ومنها المقاطع التي اعتبرت فيها أن حق الانتقاد يكون أوسع بما يتصل بأعمال السياسيين وأنه يفترض التسليم أن مجرد قبول هؤلاء تولي مسؤوليات عامة هو عمليا قبول منهم بالتعرض للنقد. وتتابع المحكمة وفق ما جاء في المرجع الذي استشهدت به أنه يتوجب بهؤلاء أن يكونوا أكثر تسامحا من سائر المواطنين في هذا المجال. ومن هذه الزاوية، استعاد الحكم مفهوم “الحق بالشرف النسبي” للقيمين على الخدمة العامة، والذي كان عبر عنه الحكم الصادر عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف في حكم آخر شهير بتاريخ 16/7/2013.

الثاني، أن المدعى عليه انتهج “أسلوبا نقديا متسما بالموضوعية والمهنية والتقنية العلمية، انطلاقا من كونه أستاذا محاضرا بمادة الآثار في الجامعة اللبنانية، وقد تمت استضافته على هذا الأساس”، وأنه “راح يعرض حججه ردّا على أسئلة مقدمة البرنامج دون أن يصدر عنه أي سباب أو كلام ناب…”. ومن دون أن تعلن المحكمة صراحة صحة الوقائع التي وردت في تصريحات كرم (ربما من باب الديبلوماسية المشروعة)، فإنها ذهبت ضمنا إلى تأكيد انسجام هذه الوقائع مع السياق العام لسياسات وزارة الثقافة في التعامل مع الآثار. وهذا ما يتحصل من قول المحكمة بأن أجوبة كرم في المقابلة الصحافية أتت “ضمن سياق البحث والتحليل للواقع المرير الذي تتعرض له الآثار في لبنان من استهتار وتفريط وتبديد، كما حصل بموضوعي هدم شقة والدة الكاتب أمين معلوف، وهدم المرفأ الفينيقي” … لا بل أن المحكمة ذهبت إلى حدّ القول بأن استعمال عبارات مثل “إجرام بحق التراث” و”جهل” و”تفريغ بيروت من وجهها الثقافي” و”خطر على التراث”…، لا تعتبر من قبيل القدح والذم، إنما تندرج ضمن التقييم الموضوعي لأداء وزارة الثقافة أمام واقع مرير تتعرض له الآثارات من وجهة نظر المدعى عليه.

الثالث (القصد هو الدفاع عن مصالح المجتمع)، هنا أعلنت المحكمة عن قناعتها بأن القصد الوحيد للمدعى عليه هو الدفاع عن مصلحة المجتمع. وهذا ما نقرأه بوضوح في حيثية جاء فيها نقلا عن التصريحات التي أوردها في المقابلة المدعى بها تعليقا على دعوته إلى محاضرة في اليونيسكو في باريس: “أنا مش رايح سب الوزير ولا إنتقد الوزير، أنا رايح دافع عن تراث بلادي. اللبنانيين برا (أي في الخارج) لازم يعرفوا شو عم بيصير”. وعليه، تكون بينت ضمنا أن المدعى عليه لا تحدوه أي نية بالإساءة إلى الوزير شخصيا، وإن أدت العبارات إلى الإساءة إليه عرضا نظرا لارتباطه بالقضية.

القضاء المستعجل: على الدولة تشجيع الكشف عن الفساد لا معاقبته سندا للمادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد

أول القرارات الهامة في هذا الخصوص، القرار الصادر عن قاضية الأمور المستعجلة في بيروت في قضية “الدولة ضد سكّر الدكّانة” بتاريخ 18 نيسان 2018. وقد آل هذا القرار إلى قبول اعتراض جمعية “سكر الدكانة” (وهي جمعية تعمل على مكافحة الفساد) ضد قرار سابق فرض عليها إزالة معلومات حول شبهة فساد في أحد مشاريع “مجلس الجنوب” (وهو إحدى إدارات الدولة) بما يقارب 30 مليون دولارأ أميركياً. وكانت الجمعية استمدّت معلوماتها من مصادر عدة، أبرزها تقرير مفصل من حوالي 80 صفحة صادر عن مفتشين في هيئة التفتيش المركزي منذ 2010 يبين حجم المخالفات المرتكبة. ويلحظ أن تقرير التفتيش كان أُرسل آنذاك إلى كل من النيابة العامة المالية وديوان المحاسبة، ولم نعرف أي متابعة له.

وقد جاء الحكم بمثابة استكمال لعدد من القرارات الرائدة الصادرة عن بعض قضاة الأمور المستعجلة سابقا، وأبرزها قرارات صادرة عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف. ومن أهمّ ما أثبته الحكم، هو أن حرية التعبير (التي هي المبدأ) تتوسع متى تعلقت الأخبار بمسألة ترتبط بالشأن العام وتؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على حقوق المواطنين ومن أبرزها الفساد، وأنه يقتضي تغليب هذه الحرية وحق الوصول إلى المعلومات على المحافظة على السمعة في هذه القضايا. وقد أسند الحكم موقفه على المادة 13 من الدستور والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد.

وتبعا لهذه القواعد، قلب الحكم قاعدة الإثبات لاعتبار قاضي الأمور المستعجلة صالحا لمنع النشر. فليس على من ينشر معلومة في أن يقدم إثباتا على صحتها لرد الدعوى المستعجلة بمنع نشرها، بل على المتضرر منها أن يثبت عدم صحتها، وأن الدافع لنشرها هو مجرد الإساءة والتشهير للوصول إلى مبتغاه. وقد خلص الحكم بالنتيجة إلى السماح بنشر المعلومة مجددا بعدما اعتبر أن ممثلي الدولة لم يقدموا أي إثبات من هذا النوع.

وقد تم التأكيد على هذا التوجه في حكم آخر، صدر عن قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح بتاريخ 31/7/2018 في الاستدعاء المقدّم من مؤسسة أوجيرو بوجه جريدة “الأخبار”. كما تم التأكيد عليه في حكم صدر عن قاضية الأمور المستعجلة في جديدة المتن ستيفاني صليبا بتاريخ 28/2/2019 في سياق الاعتراض المقدم من جريدة “الأخبار” ضد مستشارة لوزير الصحة السابق.

عبير صفا توسع إطار النقد السياسي

خلال هذه السنة، أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت عبير صفا أربعة أحكام بإبطال التعقبات بحق العديد من ناشطي حراك 2015. وكان هؤلاء أطلقوا شعارات سياسية عدة في اتجاه القوى السياسية المهيمنة، من نواب ووزراء. ومن أشهر هذه الشعارات، “طلعت ريحتكم” أو “128 حرامي” (بالإشارة إلى النواب الذين يبلغ عددهم 128) وما إلى ذلك من شعارات تعبّر عن السخط العامّ إزاء أداء السلطات العامة.

وللوصول إلى إبطال التعقبات، رأت القاضية صفا أن العبارات موضوع الإدعاء “كانت وليدة واقع الحال السائد في البلد، وقد صدرت عن المدعى عليه، الناشط اجتماعيا، تعبيرا عن الاستياء العام، الذي لم يكن خافيا على أحد، في المرحلة التي كانت فيه أزمة النفايات تطال جميع المناطق اللبنانية وتمس بصحة المواطنين أجمعين” وأنها تاليا لا تشكل تحقيرا حتى “وإن كانت جاءت بشكل صريح ومباشر خارج أدبيات التخاطب وحدود اللياقة في إبداء الرأي، والمفروض التحلي بها تجاه أي شخص، وإن كان هذا التجاوز في التعبير يشكل في ظاهره مساسا بالكرامة” (الحكم الصادر بتاريخ 3/4/2018). تبعا لذلك، استخلصت المحكمة أن المقصود منها لم يكن توجيه الإزدراء إلى شخص رئيس الحكومة السابق والنيل من شرفة وكرامته، بل مجرد تعبير عن حالة الاستياء السائدة حينها في البلد بالنسبة لأزمة ملف النفايات، مما يعني أن العنصر المعنوي يبقى غير متوافر. وقد جاء هذا الحكم ليميز بوضوح بين “تجاوز الأدب” و”عدم اللباقة بالتعبير” (واللذين يتوفران وفق القاضية في الدعوى بدليل اتهام رئيس الحكومة آنذاك بالكذب والحكومة بالزبالة وبأنهما بلا أصل ولا ضمير) وتوفر الطابع الجرمي الذي لا يكون متوفرا بغياب العنصر المعنوي أي الاستهداف الشخصي القائم بمعزل عن أي مصلحة اجتماعية.

وقد استندت الأحكام الثلاثة الأخرى الصادرة تباعا بتاريخي 31/10/2018، و30/11/2018 عن القاضية نفسها، على حيثيات واعتبارات مشابهة.

الحق بالخصوصية

شهد الحق بالخصوصية تطورا لافتا بموجب مخالفة صدرت عن مستشار منتدب لدى محكمة استئناف بيروت. المخالفة صدرت بتاريخ 14/11/2018 عن القاضي ربيع معلوف، الذي أصرّ على تسجيل موقف في هذا الخصوص، رغم اتفاقه مع أكثرية المحكمة على النتيجة التي توصلت إليها وهي إبطال التعقبات ضد الأشخاص المدعى عليهم. وعدا عن أن هذا الموقف يأتي كنتيجة للتقاضي الاستراتيجي الذي اعتمدته “المفكرة”، فهو أوّل موقف لقاضٍ لبناني يرفض ممارسة تفتيش الهواتف التي لم تقترن بإذن من قاضي التحقيق، ضماناً للحق بحماية الحياة الخاصة ولحقوق المشتبه فيهم خلال التحقيقات الجزائية.

وللوصول إلى إبطال التحقيقات الأولية المرتكزة على المعلومات الواردة على هاتف المدعى عليه، أكّد القاضي معلوف بداية على أن حقّ الانسان بحماية حياته الخاصة وخصوصية مراسلته هو من الحقوق الأساسية المحمية دستوريا وفي المواثيق الدولية[3]، وأن المشرّع اللبناني جسّد هذه الحماية عبر وضع شروط قانونية توفّر ضمانات أساسية لخصوصية المراسلات من أهمها أن يكون التعرّض منصوصاً عليه صراحة في القانون، وألا يتمّ إلا في حالة الضرورة ومن دون تجاوز مبدأ التناسب بين خطورة التعرّض وأهمية الغاية المراد تحقيقها من خلاله.

وعليه، طبق معلوف قاعدة القياس مرتين: فهو من جهة أولى، رأى أن إجراء تفتيش الهواتف يخضع للضمانات التي وضعها المشرّع اللبناني في القانون رقم 140/1999 المتعلّق بصون سرية المخابرات، ومن أبرزها حصر إمكانية الاطلاع على البرقيات والرسائل بقاضي التحقيق وحده. ومن جهة ثانية، رأى أن أي تفتيش للهاتف تعسفا يخضع للنتائج نفسها لتفتيش المنازل أو الأشخاص والتي تتمثل ببطلان التحقيقات.

التوقيف الاحتياطي وقرينة البراءة

من أهم الإصلاحات التي رشح عنها قانون أصول المحاكمات الجزائية (2001) هو وضع سقف للتوقيف الاحتياطي في الجنح وعدد من الجنايات. وعليه، باتت المادة 108 من أصول المحاكمات الجزائية تمنع صراحةً توقيف المدعى عليهم في قضايا الجنح لمدة تتجاوز الشهرين القابلة للتجديد مرة واحدة كحد أقصى وبقرار صريح. وقد اتّجهت العديد من المحاكم رغم ذلك بعد انتهاء مدة التوقيف القصوى البالغة أربعة أشهر، إلى فرض كفالة مالية كشرط لإخلاء سبيل الموقوفين. ومن هذه المحاكم، محكمة استئناف الجنح في بيروت التي فسخت أكثر من مرة قرارا بالإفراج عن المدعى عليه من دون كفالة، رغم إنقضاء أكثر من أربعة أشهر على توقيفه، مع تغريم المدعى عليه على خلفية أنه يتعسف في استخدام حق التقاضي. إزاء ذلك، وبناء على طلب المتقاضي المحتجز، وافقت محكمة التمييز (الغرفة السادسة) بتاريخ 27/12/2018 على نقل الدعوى على خلفية الارتياب المشروع.

ولبلوغ هذه الغاية، اعتمدت المحكمة على الأمور الآتية:

  • الأول، الالتزام بإرادة المشرع. وهذا ما نقرأه من حيثيات المحكمة حيث جاء “أن المشترع أولى أهمية كبيرة لمدة التوقيف الاحتياطي التي باتت محددة بمهلة قصوى لا يجوز تجاوزها حتى في الجرائم من نوع الجناية إلا في حالات خاصة نصت عليها المادة 108 حصراً”، وأن المادة 108 “وردت بصيغة مطلقة وشاملة ولم تقيد تطبيق أحكامها بوجوب دفع كفالة وإن القول بعكس ذلك من شأنه تعطيل نص هذه المادة وبالتالي الغاية المتوخاة من خلالها”.
  • الثاني، الموازنة بين الحقوق وصولا إلى تغليب قرينة البراءة والحرية الشخصية على الحقوق المالية، تفعيلا لمبدأي الضرورة والتناسب. وإذ أكّد القرار بداية أن حقوق الجهة المدعية (المالية) لا تسمو على قرينة البراءة والحرية الشخصية، فإنه عزز موقفه من خلال التذكير بأن بالإمكان حماية الحقوق المالية من خلال وسائل قانونية أخرى أقل كلفة، كالحجز الاحتياطي على أموال الأشخاص المدعى عليهم،
  • الثالث، اعتبار قرار محكمة الاستئناف بتغريم المدعى عليه لإصراره على المطالبة بالإفراج عنه طبقا لما تفرضه المادة 108، تصرفا من شأنه أن يثير لديه الارتياب المشروع في حيادها. وعليه، لم تكتفِ محكمة التمييز بالتذكير بإلزامية المادة 108 في هذا الخصوص وبقرينة البراءة بما يقطع مع ممارسات العديد من المحاكم، إنما ذهبت إلى حدّ إدانة أي خروج عنها بأقسى العبارات. وهذا ما نقرأه بوضوح في حيثيات الحكم حيث جاء أن هذا التدبير يثير “الريبة والشك في حياد” المحكمة و”يدل بصورة سافرة على تحيزه(ا) وجنوحه(ا) إلى تأييد مصالح أحد فرقاء الدعوى على حساب باقي الأطراف فيها، على نحو يتعارض ومبادئ العدالة ويتنافى ورسالة القاضي فيشكل نكثاً في قسمه المهني المنصوص عليه في المادة 46 من قانون القضاء العدلي المرسوم الاشتراعي رقم 83/ 150″.

ويشكل هذا القرار ضمانة مهمة للمدعى عليهم وبخاصة ذوي الدخل المحدود الذين غالباً ما يبقون قيد التوقيف بسبب عدم امكانيتهم دفع قيمة الكفالات حتى بعد انقضاء مدة التوقيف القصوى. ويؤدي استمرار توقيفهم في هذه الحالات إلى إضعاف امكانياتهم بالحصول على محاكمة عادلة.

3 – المساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد

بالإضافة إلى الأحكام المشار إليها أعلاه في مجال حرية التعبير وبخصة في الكشف عن الفساد، أمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى أمرين:

الأول، قرار مجلس شورى الدولة الصادر بتاريخ 9 تموز 2018 بإبطال نتائج مناقصة الميكانيك. وإذ لقي قرار مجلس شورى الدولة بإبطال نتائج مناقصة الميكانيك ترحيبا واسعا من قبل وسائل إعلام عدة، أشارت بعض هذه الوسائل إلى أن قرار المجلس الصادر في 9 تموز 2018 حقق وفرا في خزينة الدولة يصل إلى 440 مليون د.أ. وهي مجموع المبالغ التي كانت ستتنهي إلى جيوب الشركة الفائزة بما يزيد عن السعر المنطقي، بنسبة 44 مليون د.أ عن كل سنة. ولهذه الغاية، استند شورى الدولة إلى المادة 89 من الدستور التي تنص على أنه “لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لإستغلال مورد من موارد ثروة البلد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون وإلى زمن محدود”. بالمقابل، لم يتعرض الحكم لسائر الحجج المثارة من الجهات المنافسة لإبطال الحكم والتي يستدلّ منها وجود شبهة فساد.

الثاني، توجّه أحد النواب العامين (النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون) إلى ملاحقة أشخاص نافذين (من بينهم نواب) على خلفية قانون “الإثراء غير المشروع” الصادر في 1999، بالنظر إلى استفادتهم بصورة غير مشروعة من قروض مخصصة للسكن ولأصحاب المداخيل المحدودة، وهو قانون لم يشهد حتى اللحظة أي تطبيق. لم يعرف حتى اللحظة مآل هذه الملاحقة.

4 – الأحكام الآيلة إلى الحد من التهميش الاجتماعي

تميزت هذه السنة بقرارات قضائية لافتة بخصوص فئتين من الفئات الهشة، وهم بداية اللاجئين السوريين ومن ثم المثليين.

إبطال التعليمات بتنظيم دخول اللاجئين السوريين وإقاماتهم

صدر هذا القرار عن مجلس شورى الدولة[4] بتاريخ 8/2/2018. أصدر مجلس شورى الدولة قراراً أبطل فيه تعليمات الأمن العام الصادرة في سنة 2015 بتنظيم دخول وإقامة المواطنين السوريين. وكان الأمن العام قد فرض قيودا قاسية ومكلفة لتجديد سندات الإقامة من دون مراعاة خصوصيات اللاجئين، فوقع ضحيتها المواطنون السوريون غير القادرين على العودة إلى سوريا أو على مغادرة لبنان إلى بلد آخر.

ومن أبرز العقبات التي يواجهها السوريون للاستحصال على إقامة قانونية: صعوبة الحصول على إقامة بناء لصفة اللجوء، فرض تأمين كفيل لبناني، ارتفاع تكلفة الإقامة، وإصدار قرارات الإخراج من البلاد بحق العديد من السوريين الذين عجزوا عن الحصول على إقامة رغم عدم تنفيذ قرارات الإخراج فعليا، احتراماً لمبدأ عدم الترحيل القسري. ويسجل أن قرار العام 2015 قد شهد تعديلات عدة، أهمها إعفاء فئة من اللاجئين من رسوم الإقامة وتجاوزها في شباط 2017. وهي التعليمات التي أدّت إلى منع دخول العديد من المواطنين السوريين الأراضي اللبنانية وإبقاء حوالي 74% من السوريين المتواجدين في لبنان من دون إقامة نظامية.

ويأتي هذا القرار في إطار الدعوى المقدمة في العام 2015 من قبل أحد اللاجئين السوريين إلى جانب جمعيتي “المفكرة القانونية” و”روّاد” للطعن بتعليمات الأمن العام المتعلقة بتعديل شروط دخول وإقامة السوريين. وكانت الجهة المستدعية برّرت دعواها عند تقديمها بسعيها لعقلنة سياسات الدولة وكيفية تعاملها مع الهواجس الناشئة عن أزمة اللجوء، والتأكيد على الضوابط القانونية التي يقتضي التمسك بها في كل حين، ومن أبرزها حق اللجوء المكرس دولياً والاتفاقية الدولية الموقعة مع سوريا والتي تضمن حرية التنقل للأشخاص بين البلدين. وضمناً، هدفت الدعوى إلى تحميل المؤسسات السياسية والقضائية مسؤوليتها في ملف اللاجئين الذي لا يمكن أن يحتكر جهاز أمني تحديد قواعد التعامل معه.

وأهم ما جاء في هذا القرار، هو الآتي:

  • أن قرارات الأمن العام المتعلقة بشروط دخول وإقامة الأجانب تخضع لرقابة القاضي الإداري الذي يكون له حق إبطالها في حال ثبت تجاوزها لصلاحياته. وبذلك، أتى الحكم ليقطع مع ميل الأمن العام إلى تجاوز صلاحياته القانونية لممارسة صلاحيات تعود للحكومة أو حتى أحيانا للمجلس النيابي. ومن البيّن أن هذه الممارسات باتت تشكل أحد أبرز الانزلاقات المؤسساتية الآيلة إلى تغليب الاعتبارات الأمنية على حقوق الأفراد، وبخاصة الأجانب منهم. فالإطار القانوني المعتمد حاليا فيما يتعلّق بالأجانب يستند بشكل واسع على تعليمات إدارية صادرة عن الأمن العام، غالبا من دون أي رقابة فعلية من المؤسسات السياسية أو القضائية. وتشمل هذه التعليمات مثلا مسألة إرساء نظام الكفالة سيئ السمعة واحتجاز الأجانب من دون سند قانوني (مما أدى إلى مظالم بالجملة) وتنظيم شروط دخولهم إلى لبنان ومنحهم إقامات. كما هي تتضمن قيوداً قاسية على الأكثر تهميشاً منهم كاللاجئين وعاملات المنازل وذوي الدخل المحدود. وبالطبع، ما كان لهذه الممارسات أن تصل إلى ما وصلت إليه، لولا تخلّي المؤسسات السياسية والقضائية (النيابة العامة التمييزية بشكل خاص) المتمادي عن مسؤولياتها في هذا المجال.
  • أن القرار حمل مجلس الوزراء مسؤوليته في تحديد سياسة اللجوء للبنان، بعدما تقاعس عن ذلك لمدة ست سنوات، تاركا الأمر للمؤسسات الأمنية والبلديات. وقد أدّى ذلك إلى اختلافات جذرية في سياسات اللجوء واتجاهات السلطات الإدارية والأمنية المحلية. ففي حين سهّلت بعض البلديات إقامة السوريين فيها نظراً للجوئهم الاضطراري واستفادت في المقابل من نشاط وتمويل المنظمات الدولية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في نطاقها، اتجهت بلديات أخرى إلى فرض إجراءات تقييدية بحق السوريين غالباً ما كانت مخالفة للقوانين ومتجاوزة لصلاحياتها القانونية. وعليه، يؤكد القضاء في هذا القرار أن ممارسة لبنان لسيادته وحماية أمنه تخضع للقوانين التي منحت السلطة السياسية ممثلة بمجلس الوزراء الدور الأساسي لتحديد سياسات البلاد، كونها الجهة التي من المفترض أن تخضع ليس فقط للمحاسبة القانونية بل السياسية أيضاً. وتدعيما لهذا الاتجاه، ردّ مجلس شورى الدولة الادعاء بأن ثمة ظروفا استثنائية تبرر قيام الأمن العام بدور الحكومة، طالما أن عمل الحكومة لم يكن يوما معطلا.
  • أن أي تعديل لشروط دخول وإقامة السوريين في لبنان يجب أن يراعي الاتفاقيات الدولية الموقعة مع سوريا والتي تضمن حرية التنقل للأشخاص بين البلدين وحرية الإقامة والعمل.

إلا أنه وعلى الرغم من أهمية هذا القرار، فإن الحكومة ما تزال إلى الآن متقاعسة عن تطبيقه، علما أن الحكومة كانت بحكم المنحلة خلال أكثر من تسعة أشهر من الفترة التي أعقبت صدور هذا الحكم. وتتجه “المفكرة” حاليا إلى الضغط لإعادة تفعيل هذا الحكم.

محاكم الاستئناف تستبعد تطبيق المادة 534 عقوبات أيضا:

جيل الشباب يقنع الجيل الذي سبقه

بتاريخ 26/1/2017، أصدر القاضي المنفرد الجزائي في المتن ربيع معلوف قرارا استبعد فيه تجريم المثليين على أساس المادة 534 عقوبات بعدما اعتبر أن ممارسة العلاقات المثلية هي حق طبيعي وأنه لا يجوز معاقبة أي شخص عن اي فعل ارتكبه في سياق ممارسته حقا مشروعا من دون تجاوز. غداة صدور هذا الحكم، تعرّضت المراجع الدينية المحافظة للقاضي معلوف طالبة من المراجع القضائية التدخل لضمان التزام القضاة بنص المادة 534 عقوبات التي تعاقب المثليين من دون تجاوز. ومع بداية سنة 2018، بدا واضحا أن إحدى أهم الدعاوى المنتظرة هي الدعوى المقدمة ضد هذا الحكم من قبل النيابة العامة أمام محكمة استئناف الجنح في جديدة المتن. فهل ترضخ محكمة الاستئناف لضغوط الجهات المحافظة فتلتزم بقراءة تقليدية للمادة 534، أم أنها تصدّق توجه الحكم الابتدائي لتكون أول محكمة استئناف تنخرط في مسار إسقاط هذه المادة قضائيا؟

وبتاريخ 12/07/2018، أصدرت محكمة الاستئناف[5] قرارها بالأكثرية بتصديق النتيجة التي وصل إليها الحكم وإن أسندت قرارها على حجج مختلفة. وبذلك، سجلت محكمة استئناف المتن الحكم الخامس الذي يحصر تطبيق المادة 534 عقوبات، وإن كان الحكم الاستئنافي الأول. صدر القرار عن محكمة الاستئناف الجزائية في جبل لبنان (الغرفة الثانية عشرة برئاسة القاضية رندى كفوري، والمستشارين زيدان وبو نصار) بأكثرية أعضاء الهيئة بعدما سجّل بو نصار مخالفة. ويسجل أنه أتى في سياق الاستئناف المقدم ضد الحكم الرائد الذي كان أصدره القاضي المنفرد ربيع معلوف بتاريخ 26/01/2017 في الاتجاه نفسه، فانتهى إلى تصديق الحكم المذكور ولو بحجج تختلف بعض الشيء عن الحجج التي استند إليها معلوف.

ومن أبرز ما تضمنه القرار، حيثيات ثلاثة:

الأولى، أنه اعتبر أن للقاضي تفسير عبارة القصد من “المجامعة خلافا للطبيعة” (الواردة ضمن المادة 534 من قانون العقوبات المدعى بها)، من منطلق أنها وردت ضمن الفصل الثاني من الباب السابع من قانون العقوبات والذي عنوانه هو التعرض للآداب والأخلاق العامة. بمعنى أن غاية المشرع من هذه العبارة، ليس بالضرورة معاقبة “الشذوذ الجنسي” (العبارة للمحكمة)، إنما أولا معاقبة التعرض للآداب والأخلاق الخاصة الذي هو مفهوم ذات مضمون متغير، يتعين على القاضي تحديده على ضوء التطور الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، تحررت المحكمة من التفسير التقليدي القديم للمجامعة خلافاً للطبيعة والذي كان يعتبر أنها تشمل بالضرورة العلاقات المثلية.

الحيثية الثانية، لم تكتفِ المحكمة بتفسير النص على هذا النحو. بل أنها أبدت في قرارها فهماً خاصاً للوظيفة القضائية، وتحديداً لكيفية تأويل النص القانوني. وهذا ما نقرؤه بوضوح في القرار حيث جاء حرفياً “يجب دوماً تفسير النص وتحديد نطاق تطبيقه بما يتلاءم معه (التطور الإجتماعي)، وإلا أضحى تطبيق النص غير مقبول إن من ناحية المنطق السليم أم العدالة الإجتماعية”. وعلى ضوء هذه العبارة، يتأتى أنه يتعين على القاضي دائماً أن يفسر النص على النحو الذي يجعله متناسباً، ليس فقط مع التطور الاجتماعي، بل أيضاً مع المنطق السليم ومع العدالة الاجتماعية. ومن هذه الزاوية، بدت محكمة الاستئناف وكأنها تتبنى تصوراً للوظيفة القاضي يخرج عن التصور الذي يجعله خادماً للقانون لينحاز إلى التصور الذي يجعله رائداً في مجتمعه، وعاملاً أساسياً في سبيل تطوير منظومته القانونية. وبذلك، تلتقي محكمة الاستئناف مع موقف القاضي الابتدائي الذي كان أعلن أن وظيفة القاضي هي “حماية الحقوق والحريات”.

الحيثية الثالثة، انطلاقاً مما تقدم، خلصت المحكمة إلى تحديد مضمون “التعرض للآداب والأخلاق العامة” على أنه يشمل “المجامعة التي تخرج عن المفهوم التقليدي للعلاقة الجنسية الطبيعية بين رجل وامرأة، متى حصلت على مرأى من الغير أو مسمعه أو في مكان عام أو متى تناولت قاصراً يجب حمايته”. وعليه، وفق هذه القراءة، تكون العلاقة المثلية بين راشدين حرة لا يعاقب القانون عليها، إلا إذا حصلت في مكان عام أو مع قاصر.

وفيما أملت “المفكرة” أن تتوسع دائرة الاجتهاد لمواكبة التطور العلمي والإجتماعي، وضمناً قضاة النيابات العامة. فتكف ملاحقة مثليي الجنس على خلاف الحقوق والحريات الأساسية المحمية في الدستور اللبناني وفي المعاهدات الدولية، لم تتأخر محكمة استئناف بيروت عن ذلك. وهذا ما نستشفه من قرارها الصادر بتاريخ 14/11/2018 وبخاصة من المخالفة التي أبداها القاضي ربيع معلوف (الذي تم نقله من مركزه السابق كقاض منفرد جزائي ليصبح مستشارا لدى محكمة الاستئناف) والتي عاد وأكد فيها أن ممارسة العلاقات المثلية هي حق طبيعي، لا يمكن معاقبته سندا للمادة 183 من قانون العقوبات التي تنص أنه “لا يعتبر جريمة الفعل المرتكب في ممارسة حق دون تجاوز”.

  • مقالات ذات صلة:

أبرز الأحكام القضائية في لبنان – 2018: نقابيو سبينس يحققون انتصارا ثمينا

أبرز الأحكام القضائية في تونس – 2018: ومضات ضمانا للمحاكمة العادلة

أبرز الأحكام القضائية في المغرب-2018 (1): أحكام هامة لإلزام الإدارات العامة بتنفيذ أحكام القضاء

أبرز الأحكام القضائية في المغرب – 2018 (2): أحكام هامة لإلزام الإدارات العامة بتنفيذ أحكام القضاء

  • نشر هذا المقال في العدد | 59 |  نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

 لمن القانون في لبنان؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة تونس ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مجلة لبنان ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني