أبعد من قضية الزواج المدني، المبدأ هو الحرية.. (1)


2013-04-26    |   

أبعد من قضية الزواج المدني، المبدأ هو الحرية.. (1)

في 25-4-2013، أقرت وزارة الداخلية بعد طول تردد بصحة الزواج المدني الأول في لبنان. وبذلك  أودع الزوجان "خلود ونضال" ومعهما مصمم هذه المعركة طلال الحسيني والكاتب العدل جوزف بشارة الذي صدق على العقد، أسماءهم في سجل المواطنة "الايجابية" في لبنان. وما يسعى هذا المقال الذي نشرت أجزاء أساسية منه في العدد الثامن للمفكرة القانونية هو استعادة الجدل القانوني الحاصل حول صحة هذا العقد، تبيانا لأبعاد القضية التي تتجاوز بكثير مسألة العقد وتتصل في طبيعة المبادئ الأساسية للقانون في لبنان. فمع الاقرار بصحة هذا الزواج، خطت اليوم دولة المواطنة والحق خطوة أساسية الى الأمام (المحرر).
 
لذلك، لا بد من سن قانون سواء لانتماء لبناني الى غير الطوائف الدينية كما وسن قانون يرعى أحكام عقد الزواج المدني".هذه العبارة وردت في خاتمة الرأي الصادر عن "رئيس" هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل "القاضي" ماري دنيز المعوشي. والواقع أن التدقيق بهذه العبارة على قصرها انما يظهر الأبعاد القانونية والاجتماعية والسياسية بالغة الأهمية لهذه الاستشارة: فبغياب قانون ينظم أوضاع الراغبين بالخروج من الأطر الطائفية، يتعين على هؤلاء أن يبقوا ضمن أحد هذه الأطر، بمعزل عما لهم من معتقدات. ولا يهم وفق الاستشارة أن تنص المادة 9 من الدستور على أن حرية المعتقد مطلقة، أو أن يقر القرار رقم 60 ل/ر بوجود أفراد لا ينتمون الى أي طائفة أو أن تجمع الوثائق الدولية على اطلاق حرية المعتقد، فهذه الأمور تبقى كلها غير منتجة: العامل الوحيد الذي يدخل في حسبان الهيئة، هو وجود قانون يؤكد على امكانية انتماء لبناني الى غير الطوائف الدينية، وذلك من خلال انشاء "طائفة مدنية يصح الانتماء اليها اداريا". فبغياب طائفة مماثلة، لا يمكن الخروج من الطوائف المعترف بها حاليا. وللوصول الى هذه الغاية، لم تجد الاستشارة حرجا في تشويه نص المادة 10 من القرار رقم 60 ل/ر التي شملت المواطنين الذين لا ينتمون الى أي طائفة من دون اشتراط انتمائهم الى أي طائفة. الأمر نفسه بشأن الزواج، فلا هم ما نصت عليه المواثيق الدولية لجهة الحق بالخصوصية والحق بانشاء عائلة، فوفق الفقه الفرنسي، "الزواج هو عمل قانوني ذات طابع رسمي يقيم بموجبه رجل وامرأة اتحادا تنظمه بصورة الزامية القوانين سواء فيما يتعلق بشروط عقده أو بأصول انحلاله أو النتائج التي تترتب عليه". وتبعا لذلك، "لا عقد زواج… الا بالاستناد الى قانون صادر عن سلطة مخولة التشريع في هذا المجال تابعة لدولة معينة والا خضع اتحاد المرأة والرجل الى قواعد المساكنة concubinage".
هكذا، بكل بساطة: وبالنتيجة، يبقى الفرد وفق الاستشارة في ممارسة حرية المعتقد أو في ممارسة حرية انشاء عائلة أسيرا لنموذج رسمي (أو لنماذج رسمية) يحدده(ا) المشرع، وهو يكون حتما نموذجا طائفيا في حال امتنع المشرع عن تنظيم الزواج المدني. وبذلك، يعكس هذا الرأي حذرا شديدا ازاء أي مبادرة مواطنية نحو انتزاع حق بغياب قانون يقر به ويكرسه وينظمه بشكل واضح، ويؤدي تاليا الى عد الحقوق الأساسية حقوقا غير ملازمة للفرد انما حقوقا ممنوحة وحده النظام يقرر مدى ملاءمة منحها. وبذلك، يظهر مفهوم "النظام العام" ليس على أنه نظام حام للحقوق الأساسية بل على أنه نظام حام لحقوق النظام بضبط الحريات والحقوق، مهما كانت أساسية، وبمنعها اذا أراد وفق ما يراه ملائما. بكلمة أخرى، أنه بمثابة اخضاع منظومة حقوق الانسان لإرادة الحاكم ومستلزماته، فيصبح مفهوم النظام العام مرادفا تماما لهذه الارادة. وما يزيد هذا الرأي قابلية للنقد أنه استباح الحقوق الأساسية باسم غياب القانون الناظم لها، من دون أن يتضمن أي انتقاد لتقاعس المشرع عن القيام بواجبه أو على الأقل دعوة له للقيام بذلك ضمانا لممارسة الحقوق بشكل سليم. فلا شيء يحدث من دون ارادته، ولا اشكال في حال تقاعسه عن ممارسة مسؤولياته وان أدت الى تعطيل هذه الحقوق.
وما يمكننا من فهم الأبعاد العميقة لهذا الرأي هو مقارنته بالرأي الاستشاري الصادر عن الهيئة الاستشارية العليا. فبعدما ذكرت هذه الهيئة بالنصوص الدستورية والدولية المكرسة لحقي المعتقد والزواج، قفزت الى اعلان ثلاثة مبادئ من شأنها أن تنسف تماما الحيثيات التي انبنى عليها رأي هيئة التشريع والاستشارات:
الأول، أن "ثمة مبدأ مفاده أن الأصل هو الاباحة والمنع هو الاستثناء، وليس في التشريع اللبناني نصوص تمنع عقد الزواج المدني في لبنان" للذين لا ينتمون الى أي طائفة، وبالطبع هذا المبدأ يتناقض تماما مع حيثيات الرأي الأول القائلة بأن لا حرية معتقد ولا حرية زواج الا بقانون، والذي يقلب هذا المبدأ على نحو يصبح معه المنع هو المبدأ والاباحة هي الاستثناء.
والثاني، أن "المبدأ هو تفعيل النص ولا تعطيله"، اذ يقتضي تفعيل المادة 10 من القرار 60 ل/ر التي تخضع المواطن غير المنتمي الى طائفة دينية للقانون المدني؛ وهذا المبدأ أيضا ينسف الرأي الاستشاري بحيث يبين المبادئ المقيدة للحقوقي عند تفسيره للنص بحيث يتعين عليه قراءة النص الذي يبيح حقا معينا على نحو يؤدي الى تفعيله وليس الى تعطيله.
والثالث، أن القانون اللبناني يعترف بالزواج المدني المعقود في الخارج، وبالتالي فمن باب أولى أن يعترف بالزواج المدني المعقود في لبنان وذلك تطبيقا لحرية المعتقد… من جهة و"لعدم تشجيع فكرة المداورة على القانون واللجوء الى خارج لبنان لعقد زواج مدني من جهة ثانية". والواقع أن ورود هذه الحيثية بعد المبدأين السابقين اللذين يكفيان بحد ذاتهما لتجويز حق الزواج المدني، انما هو بمثابة حجة زائدة الهدف منها استباق أي انتقاد ايديولوجي أو ديني لعمل الهيئة. فكيف للمفتي وسواه أن يواجهوا الزواج المدني المعقود في لبنان وكأنه معصية كبرى، فيما أنهم قبلوا طوال عقود بالزواج المدني المسجل في الخارج؟ وألا تفضح هذه المواقف المتشددة باطنية فائقة من قبل هؤلاء، تسقط معها مصداقيتهم بشكل كامل أو يتحول معها اتهامهم للآخرين بارتكاب معصية اتهاما ضدهم بارتكاب معصية أكبر طوال عقود؟
وبالنتيجة، يظهر بوضوح أن الجدل حول الزواج المدني هو في عمقه جدل سياسي اجتماعي بالغ الأهمية، بشأن العلاقة بين الحريات العامة والحقوق الأساسية وارادة المشرع. فوفق قراءة الهيئة الأولى، تبقى حقوق الفرد ومعها التطورات القانونية للحياة المدنية أسيرة داخل ردهات البرلمان بما فيه من قوى تستمد مشروعيتها من النظام الطائفي وتحرص على مصالحه. بالمقابل، تفتح القراءة الثانية للأفراد (وفي طليعتهم أصحاب المهن القانونية والحقوقية) أبوابا واسعة للتحرك في اتجاه تطوير المنظومة القانونية واخراجها من قمقم النظام السائد، وتاليا للمجتمع أبوابا للاصلاح من القاعدة، وفق وتيرة الحياة المدنية ومدى ديناميتها. وهذا يفتح الباب أمام مفهوم دولة الحق.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني