الدولة هذا “الخصم الشريف” الذي يتهرب من المحاكمة


2013-01-31    |   

الدولة هذا “الخصم الشريف” الذي يتهرب من المحاكمة

ما تزال الدولة تتهرب من التبليغ في الدعاوى المقامة بوجهها أمام القضاء العدلي بحجة نقص عدد المحامين، منتهكة المبادئ الدستورية وحق الفرد باللجوء الى القضاء لتحصيل حقوقه.
يلجأ الافراد عادة الى محاكمة الدولة والادارات العامة أمام القضاء الإداري (أي مجلس شورى الدولة بما أن قانون إنشاء محاكم ادارية في المحافظات لا يزال حبرا على ورق) الا أنه يمكن من مقاضاة الدولة أمام القضاء العدلي في بعض الحالات الاستثنائية حيث تفقد الدولة امتيازاتها كسلطة وتتخاصم مع الأفراد على قدم المساواة. ومن أهم هذه الحالات، قضايا التعدي الواضح من قبل الدولة على الحقوق الأساسية (كحق الملكية الفردية والحريات الشخصية) وفقا لنظرية التعدي  Voie de Fait– ومنها قضايا الاحتجاز دون سند قانوني والاعتداء على الحرية الفردية بشكل تعسفي – حيث يكون القضاء العدلي مختصا بصفته حاميا للحقوق والحريات الأساسية. كما يختص القضاء العدلي بالنظر ببعض القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية (كتصحيح أخطاء القيد) وببعض الدعاوى المالية والعقارية والإيجارية.
وتقوم هيئة القضايا التابعة لوزارة العدل بتمثيل الدولة أمام القضاء من خلال المدافعة عنها ورفع الدعاوى باسمها.[1]وقد حصر القانون صلاحية تبليغ الأحكام الصادرة في دعاوى الدولة في رئيس هيئة القضايا – وهو قاض – دون سواه. لكن الهيئة تعتبر أن هذه الاصول تطبق على جميع أوراق الدعاوى كالاستحضار أو الشكوى واللوائح ومواعيد الجلسات…
ويتهرب رئيس هيئة القضايا من التبليغ عن العديد من الدعاوى المقامة بوجه الدولة من خلال رفض توقيع أوراق التبليغ المسجلة في قلم الهيئة. والحجة التي تقدمها هيئة القضايا لعدم التبلغ هو تقاعس الحكومة عن اصدار المراسيم بتعيين محامين للدولة، مما أدّى الى شغور ما يقارب نصف عدد محامي الدولة الستين المنصوص عليهم في القانون.[2]وتعاني محاكم بعض المناطق اللبنانية مثل محاكم الهرمل وغيرها بشكل خاص من غياب محامي الدولة.وبالتالي، يتصرف رئيس هيئة القضايا وكأن له حقا استنسابيا في التبلغ أو عدمه مما يسمح للادارة بالتهرب من المحكمة بالتواطؤ معه، وهو أمر يتناقض تماما مع مبدأ الخصم الشريف في المحاكمة.
ونتيجة هذا التقاعس في اصدار المراسيم وتهرب هيئة القضايا من التبلغ، تجمد دعاوى الدولة أمام القضاء دون أن يتم البت فيها على نحو يحرم الأفراد والمواطنين من تحصيل حقوقهم ومحاسبة الدولة قضائيا. فعلى سبيل المثال، حرم عدد من اللاجئين العراقيين الذين تم احتجازهم تعسفا من قبل المديرية العامة للأمن العام من البت في طلباتهم بوضع حد للتعدي على حريتهم أو للحصول على تعويض من جراء هذا التعدي، ويحرم المواطنون من تصحيح الأخطاء الواردة في قيودهم، كما يحرم الأطفال مكتومو القيد من حل نزاعاتهم مع المدارس الرسمية التي رفضت تسجيلهم لمتابعة تعليمهم.
وفي موازاة ذلك، تبقى المحاكم عاجزة عن محاكمة الدولة غيابيا (طالما أنها غير مبلغة). لذلك، تتمادى الحكومات في عدم تعيين محامي الدولة مطمئنة الى أن رئيس هيئة القضايا لن يتبلغ وأن المحاكم لن تحاكم. ويستمر هذا التقاعس رغم اعتراف الدولة بخطورته اذ بررت حكومة تصريف الأعمال في العام 2011 اصدارها مرسوم المصادقة على عقود محامي الدولة لمدة ثلاثة اشهر “بناء لمقتضيات المصلحة العامة وضرورة تسيير المرفق القضائي في ظل الظروف الاستئثنائية”.[3]
وهنا السؤال، أي ثقة المواطن في دولة لا تتصرف كخصم شريف وتمس بمبدأ الثقة المشروعة حين تعترف بالخطأ ولا تصصحه؟
فإضافة الى إخلالها باستقلالية القضاء وبمبدأ فصل السلطتين القضائية والتنفيذية، تنتهك هذه الممارسة بشكل واضح الحق الدستوري بالمحاكمة العادلة[4]،والذي اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان أنه لا يقتصر على ضمان امكانية اللجوء الى القضاء بل أيضا على ضمان اصدار الحكم للبت بالنزاع وتنفيذه وأنه ينطبق بشكل خاص على الادارة لحماية الفرد من تعسفها.[5]
فهكذا تساهم هذه الممارسة المخلة بالمبادئ الدستورية بتحرير الإدارات العامة من أي محاسبة قضائية عند تعديها على حقوق الأفراد وأملاكها وتصبح الدعاوى القضائية وكأنها غير موجودة بالنسبة للإدارة.

*محامية متدرجة وباحثة في القانون

نُشر في العدد السابع من مجلة المفكرة القانونية

 


[1] المرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 18-9-1983 (تنظيم وزارة العدل)
[2] المرسوم رقم 14801 تاريخ 20-6-2005 وتعديلاته (تحديد عدد محامي الدولة واصول وشروط تعيينهم ونظام عملهم)
[3] المرسوم رقم 5673 الصادر في 7-2-2011 (اعطاء عقود الوكالة للمحامين معاوني رئيس هيئة القضايا في وزارة العدل الصيغة النهائية)
[4] المادة 10 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان: :“لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه.
[5] قرار المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان في قضية هورنسبي ضد اليونان الصادر في العام 1997
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني