لبنان، بلد الاستعباد المنزلي، من جديد تحت الأضواء


2012-10-31    |   

لبنان، بلد الاستعباد المنزلي، من جديد تحت الأضواء

رلى أبي مرشد
غادة جبور
عادت أوضاع عاملات المنازل المهاجرات في لبنان لتشكل مركز اهتمام المجتمع الدولي. ففي تقريرها[1]الذي صدر في جنيف في 13-9-2012، لفتت المقررة الخاصة لدى الأمم المتحدة المعنية بأشكال الرق المعاصرة، غولنارا شاهينيان، الانتباه إلى وجود حالة من الاستعباد والرق المنزلي في لبنان وإلى مواطن الضعف المحددة لدى عاملات المنازل المهاجرات.[2]
يستعرض هذا التقرير، الذي يُعتبر حصيلة بعثة السيدة شاهينيان إلى لبنان خلال الفترة الممتدة بين 10 و17 اكتوبر/تشرين الأول 2011، الأسباب الجذرية للاستعباد المنزلي وطرق الاستقدام وممارساته والتحديات والإطار التشريعي والمؤسسي الحالي والتوصيات. سنقدّم في هذه المقالة لمحة موجزة عن التقرير وعن رد الحكومة اللبنانية إزاء النتائج التي خلصت إليها السيدة شاهينيان وتحليلاً نقدياً لهذا الردّ.
النتائج التي خلصت إليها المقررة الخاصة
حددت المقررة الخاصة في تقريرها عدة أسباب جذرية للاستعباد المنزلي: غياب القوانين وحظر السفر المفروض من قبل بلدان المنشأ ونظام الكفالة. فعاملات المنازل، سواء كن لبنانيات أو مهاجرات، مستثنيات من قانون العمل اللبناني، ولا يستفدن تاليا من الضمانات الرامية إلى حماية العمال؛ كما أن السياسات التي وضعتها الهيئات الحكومية، مثل عقد العمل الموحد، لا تعالج مواطن الضعف الخاصة بعاملات المنازل المهاجرات بالشكل الملائم.
يؤدي حظر السفر أيضا إلى جعل عاملات المنازل المهاجرات أكثر عرضة للاستعباد المنزلي. فعلى الرغم من أن العديد من بلدان المنشأ قد فرضت حظرا لمنع عاملات المنازل من السفر إلى لبنان لغرض العمل، إنهن يجدن سبلا بديلة لدخول البلاد؛ كما أن وكالات الاستقدام غالبا ما تتجاهل هذا الحظر فتفرض رسوم استقدام عالية لإستقبال العاملات. لقد سلط التقرير الضوء على عدة أمثلة حول كيفية تحايل العاملات على هذا الحظر، مثل النيباليات اللواتي يعبرن الحدود مع الهند ومن ثم يسافرن من هناك إلى لبنان.
يؤكد التقرير أيضا على أن نظام الكفالة يدفع بالعاملات في فخ أوضاع تعسفية. فهذا النظام يجعل صاحب العمل مسؤولا من الناحية القانونية عن وجود العاملة في البلاد. كما يتم ربط إجازة عملها وإقامتها بصاحب عمل واحد (أي الكفيل) طوال مدة عقدها؛ لذا، فهي تحتاج إلى تنازل موثق لدى كاتب العدل من قبل صاحب عملها لكي تتمكن من الانتقال للعمل لدى صاحب عمل آخر. يوقع هذا النظام العاملة في فخ إذ يجعلها مهاجرة غير شرعية فور مغادرة منزل صاحب العمل وبالتالي عرضة للتوقيف والاحتجاز والترحيل. فعلى حد تعبير المقررة الخاصة، يتم انتهاك حقوق عاملات المنازل المهاجرات “من قبل أصحاب العمل، ولكن يتم التعامل معهن كمجرمات وليس كضحايا إذا ما حاولن الفرار”.
يسلط التقرير الضوء أيضا على عوامل أخرى تساهم في الاستعباد المنزلي. فغالبا ما تواجه عاملات المنازل المهاجرات التمييز بسبب العرق والجنسية ونوع الجنس. ويشجع التنميط الجنساني، الذي ينيط الأعمال المنزلية بالنساء، على النظر إلى العمل المنزلي وكأنه ليس عملا حقيقيا. كما أن الآراء المسبقة بشأن مختلف جنسيات العاملات تؤدي إلى تفاوت في الأجور الشهرية والتمييز ضدهن كافة في الأماكن العامة. وتاليا، “لا يتم النظر إلى العديد من عاملات المنازل المهاجرات على أنهن متساويات مع المواطنين اللبنانيين، وإنما ينظر إليهن على أنهن سلع، مما يزيد من ترسيخ فكرة ملكية أصحاب العمل اللبنانيين لعاملات المنازل والتمتع بكامل السيطرة عليهن”.
يلفت التقرير الانتباه أيضا إلى الدور الذي تقوم به وكالات الاستقدام في استدامة أوضاع الرق على أساس الدين والاتجار بالبشر. فغالبا ما تضطر عاملات المنازل المهاجرات إلى دفع مبالغ لوكالة استقدام معينة من أجل تأمين عمل لها في لبنان. ويمكن أن يتم تسديد هذا الدين عبر حسم مبلغ شهري يقطع من راتب العاملة. وفي بعض الحالات الأخرى، قد تُحرم العاملة من رواتب الأشهر الثلاثة الأولى من العقد لتسديد المبالغ المستحقة لوكالة التوظيف في بلد المنشأ أو لتسديد صاحب العمل كامل تكاليف عملية الاستقدام. ويعمد بعض الوكالات إلى خداع العاملات بشأن شروط العمل الذي سيقمن به أو نوعه، مما يؤدي إلى الاتجار بالعاملات وزجّهن في حالة من الاستعباد المنزلي.
بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما تبقى عاملات المنازل مجردة من أي سلاح قانوني قادر على ضمان حقوقهن، بما فيها حقهن بالتعويض، في حال حدوث أي انتهاكات. وعلى سبيل المثال، يتم تحديد أسباب العديد من وفيات العاملات من قبل قوى الأمن الداخلي على أنها حوادث انتحار، وذلك من دون التحقيق بشكل واف وسليم في أسباب الوفاة. فضلا عن ذلك، يؤدي بطء الإجراءات القضائية والتمييز ضد عاملات المنازل المهاجرات في كثير من الحالات إلى تسوية قضاياهن خارج المحكمة. وقد يعمد أصحاب العمل في بعض الأحيان إلى القيام بادعاء مضاد- فيتهمون العاملات بالسرقة، مما يؤدي إلى احتجازهن.
في الختام، تقدم المقررة الخاصة عدة توصيات مهمة، بما في ذلك: إلغاء نظام الكفالة وضمان حق عاملات المنازل المهاجرات بفسخ عقود العمل والإقامة خارج منازل الأسر التي يعملن لديها واعتماد حد أدنى للراتب لا يقل عن الحد الأدنى الوطني للأجور ودفع هذا الراتب في حساب مصرفي وإنشاء محكمة عمل لمعالجة القضايا بالسرعة المطلوبة ووضع قائمة سوداء بأصحاب العمل والوكلاء، وما الى ذلك من توصيات.

ردّ الحكومة اللبنانية على التقرير
يتضح لنا عند النظر في رد الحكومة الخطي على التقرير أن صميم المشكلة يكمن في انعدام وجود الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ أية تغييرات قيمة من شأنها حماية عاملات المنازل المهاجرات من الاستعباد المنزلي وغيره من أشكال الاستغلال.
فلقد استندت الحكومة اللبنانية بشكل كبير إلى مشروع القانون المتعلق بتنظيم العمل اللائق للعاملين في الخدمة المنزلية، الذي اقترحه وزير العمل السابق بطرس حرب خلال مؤتمر صحافي عقد في عام 2011، في ردها على الأسباب الجذرية والتحديات التي سلط التقرير الضوء عليها. غير أن هذا القانون لا صلة له بالموضوع حاليا إذ أنه لا يزال مجرد مشروع وأنه، لو تم إقراره، سيضفي طابعا مؤسسيا على التمييز ضد عاملات المنازل المهاجرات إذ ينص على معايير ومستحقات عمل أدنى من تلك التي يستفيد منها العمال المشمولون بقانون العمل؛ كما أنه يضفي الطابع الرسمي على نظام الكفالة الذي يجعله جزءا من القانون فيما هو اليوم مجرد مجموعة من التنظيمات. وعلى سبيل المثال، ينص مشروع القانون هذا على منح عاملات المنازل المهاجرات راتبا أدنى من الحد الأدنى للأجور مع ساعات عمل أطول – 60 ساعة في الأسبوع بدلا من 40 ساعة وعدد أقل من أيام العطل – ستة أيام في السنة بدلا من 15 يوما، الخ.
بالإضافة إلى ذلك، وفي حين أن مشروع القانون الخاص هذا قد صمم تحديدا لمعالجة حالة عاملات المنازل الفريدة من نوعها، لقد تجاهل أكثر الانتهاكات شيوعا التي تواجهها هؤلاء العاملات في موازاة ايلاء أهمية كبرى لمصالح أصحاب العمل. فهو يجعل قدرة العاملة على مغادرة منزل الأسرة التي تعمل لديها في يوم إجازتها رهنا بموافقة صاحب العمل، كما أنه لا ينص بشكل واضح على حق العاملات في الاحتفاظ بوثائقهن الشخصية، بما في ذلك جوازات سفرهن، ويسمح لأصحاب العمل بإجبار العاملات على العمل في أيام إجازاتهن في الحالات الاستثنائية من دون بدل اضافي.
فضلا عن ذلك، أشارت الحكومة إلى أن قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص الذي تم اقراره في 2011 يردع  بشكل واف ممارسات الرق والاستعباد المنزلي. غير أن هذا القانون يشمل هنا أيضا العديد من القيود التي تحول دون تأمين الحماية الكافية للضحايا. وعلى وجه الخصوص، يلزم هذا القانون الضحية بإثبات أنها ضحية اكراه وارغام لاعفائها من العقوبات الجزائية التي قد تترتب عليها من دون مراعاة وضعها كضحية، ويجعل مسألة منحها إقامة مؤقتة رهنا بقرار يتخذه القاضي. بالإضافة إلى ذلك، لم يتم تضمين القانون أية أحكام لتمكين الضحايا من العودة طوعاً إلى بلاد المنشأ حفظا لسلامتهن.
علاوة على ذلك، تشير الحكومة إلى وجود أنظمة وخدمات (مثل العقد الموحد والخط الساخن التابع لوزارة العمل) من شأنها معالجة أوضاع العاملات بشكل ملائم وواف من دون اعطاء أية معلومات أو أرقام بشأن مدى قابلية هذه الآليات لحماية هؤلاء من الانتهاكات والاستغلال. وعلى سبيل المثال، يتضمّن العقد الموحد ثلاثة شروط تمكّن عاملة المنزل من فسخ عقدها، في حال ثباتها. وهذه الشروط هي: عدم دفع الراتب لمدة ثلاثة أشهر متتالية والتعرض لاعتداء بدني أو جنسي وقيام صاحب العمل بإرغامها على مزاولة عمل غير العمل المنصوص عليه في العقد. أما عبء إثبات أي من هذه الحالات فيقع على العاملة. بالإضافة إلى ذلك، لم تناقش الحكومة الدور الذي تقوم به وكالات الاستقدام في استغلال عاملات المنازل المهاجرات والاتجار بهن، تشجيعا ومشاركة. فهي تركّز على واقعة وجود قرار ينظم عمل الوكالات من دون اعطاء أية معلومات حول مدى فعالية هذا القرار في منع الاعتداء ومعاقبة الوكالات المخالفة. كما أن الحكومة لا تقدّم أية معلومات حول وضع قائمة سوداء بالوكالات المخالفة.
ويمكن إثارة العديد من الانتقادات الأخرى إذا ما أمعنا النظر في رد الحكومة اللبنانية. ففي عدة حالات، تقلل الحكومة من حجم الانتهاكات أو تنفي وجودها تماما. على سبيل المثال، تعترف الحكومة باحتمال وجود عدد ضئيل من حالات الرق لكنها تشير إلى أنها حالات نادرة إذ أن أعداد العاملات الوافدات إلى البلاد تزداد كل سنة. غير أن ارتفاع عدد العاملات الوافدات إلى لبنان لا يشير إلى ظروف عمل وعيش جيدة وخالية من الاستغلال؛ فالعاملات يأتين جراء عوامل ضغط في بلاد المنشأ وفي ظل اعتقاد بأنهن لن يخضعن لظروف سيئة في لبنان. وأهم من ذلك، فان هذا الرد يتجاهل المشاكل الهيكلية، مثل نظام الكفالة والانتهاكات الأخرى الشائعة، بما في ذلك حجز رواتب العاملات وجواز سفرهن، مما يؤدي إلى تفاقم خطر تعرضهن للاستعباد المنزلي.
ينفي رد الحكومة أيضا حدوث أي اعتداء جسدي وجنسي في مركز الاحتجاز التابع للأمن العام إذ أن هذا المركز مجهز بالكاميرات ومفتوح أمام المنظمات المحلية والدولية. غير أن وجود آليات مراقبة ورصد داخل مركز الاحتجاز قد لا يكون كافياً في حد ذاته لحماية العاملات من إساءة المعاملة الجسدية والجنسية. وتنفي الحكومة أيضاً وجود أي تمييز من حيث الأجر بين عاملات المنازل المهاجرات على أساس العرق والجنسية، مشيرة إلى أن ذلك غير صحيح ولا أساس قانوني له. وهو إنكار يتناقض مع المعلومات التي تم جمعها حول الأجور من خلال إفادات عاملات المنازل ووكالات الاستقدام وأصحاب العمل.
وأخيرا، لا تعالج الحكومة اللبنانية مسألة الاتهامات بالسرقة التي يسوقها صاحب العمل أو التمييز الذي يمارس ضد العاملة ضمن منظومة القضاء. وفي ردها بشأن فترات الاحتجاز الطويلة لعاملات المنازل المهاجرات التي أشارت إليها المقررة الخاصة، ركّزت الحكومة على التعاون الذي أبدته مع المقررة الخاصة إذ سمحت لها بزيارة مكاتب الأمن العام ومركز الاحتجاز، مفيدة أن احتجاز العاملات لا يتعدى الأسبوع الواحد في الحالات العادية والشهر الواحد كحد أقصى في الحالات الاستثنائية، متجاهلة العديد من الحالات المبلغ عنها والتي تفيد عن بقاء بعض العاملات قيد الاحتجاز أشهرا عدة.
الخلاصة
يتضح من هذه الردود أن الحكومة اللبنانية لا تلتزم بشكل كامل بمبدأ العناية الواجبة الذي يوجب عليها التأكد من أن الأنظمة والمؤسسات والجهات الفاعلة التابعة للدولة تؤمّن الحماية الكافية للضحايا وتمنع الاعتداء وتتصدى للانتهاكات عند حدوثها.
ولمنع حدوث المزيد من حالات الانتحار بين عاملات المنازل[3]، وقبل صدور تقرير آخر يسلط الضوء على فشل لبنان في الدفاع عن حقوق عاملات المنازل المهاجرات والوفاء بالتزاماته الدولية، يجدر بالحكومة اللبنانية اتخاذ تدابير جذرية وجادة للتصدي للانتهاكات الواسعة النطاق. وتقضي إحدى الطرق لتنفيذ هذه الإصلاحات بتوسيع نطاق الحماية التي يؤمنها قانون العمل اللبناني ليشمل العاملين والعاملات في الخدمة المنزلية وإلغاء نظام الكفالة ووضع مخطط بديل قائم على حقوق الإنسان لضمان حقوق كل من العاملات وأصحاب العمل والتوازن بينهما.
أي تدبير أقل من ذلك إنما يساهم في استدامة النظام الحالي القائم على التمييز والتعسف ويبقي لبنان ضمن المجموعة الخاطئة من البلدان، على القائمة السوداء باعتباره دولة لا تزال تحضن الرق والاستعباد رغم مضي نحو قرن ونصف على إلغائه.
باحثتان من منظمة كفى عنف واستغلال (كفى)

لقد قامت منظمة كفى عنف واستغلال (كفى)، وهي عبارة عن مجموعة ناشطة في مجال الدعوة ومناصرة حقوق المرأة، في وقت سابق خلال هذا العام[4]، باقتراح مجموعة من البدائل لنظام الكفالة القائم حاليا، تتمثل في: زيادة المرونة في الانتقال إلى عمل جديد لدى عاملات المنازل المهاجرات وفصل العلاقة بين صاحب العمل والعامل وتحسين عملية الاستقدام وتنظيم الوكالات الخاصة بمزيد من الصرامة توخفيض عدد المهاجرين الذين لا يتمتعون بوضع قانوني والحدّ من حالة ضعفهم وضمان الحماية الاجتماعية والتعويضات القانونية وبناء قدرات المؤسسة الوطنية للاستخدام لتكون بمثابة هيئة تنسيق مركزية تضطلع بمسؤولية تنظيم سوق العمل اللبنانية في ما يتعلق بعاملات المنازل.

 

نُشر المقال في العدد السادس من مجلة المفكرة القانونية
[2] تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 000,200 عامل، غالبيتهم من النساء؛ لهذا السبب، سيتم التركيز في هذه المقالة على عاملات المنازل المهاجرات.
[3] في عام 2008، قامت منظمة هيومن رايتس ووتش بتوثيق وفيات عاملات المنازل المهاجرات في لبنان فوجدت أن ثمة وفاة واحدة كمعدل في الأسبوع جرّاء أسباب غير طبيعية، بما في ذلك الانتحار والسقوط من مبان عالية. كما وثقت منظمة كفى معلومات عن تسع وفيات في شهر أغسطس/آب 2010 وحده.
[4] كاثلين هاميل، ورقة عمل بشأنإصلاح “نظام الكفالة” الخاص بعاملات المنازل المهاجرات: نحو نظام بديل في لبنان، منظمة كفى عنف واستغلال (كفى)، بيروت، 2012.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني