حكومة المقالع والكسّارات: تكسير لبنان مقابل لا شيء


2024-06-20    |   

حكومة المقالع والكسّارات: تكسير لبنان مقابل لا شيء

كلمة المفكرة القانونية في المؤتمر الصحافي الذي انعقد اليوم في مكتبها حول “مخاطر قرار منح مهل لاستثمار المقالع وسبل مواجهته”. وقد شارك في المؤتمر النائبة نجاة عون صليبا وتجمّع الناشطين البيئيين في الكورة وجمعية وصيّة الأرض ومجلس البيئة – القبيّات والمعهد الاجتماعي الاقتصادي للتنمية.

أصدرت حكومة تصريف الأعمال في تاريخ 28 أيار قرارًا بمنح شركات الترابة مهلة سنة لاستثمار المقالع والكسارات. وهي بذلك عبّرت ليس فقط عن تخلّيها عن مسؤوليّتها في حماية البيئة والحقّ بالحياة والصحة، ولكن أيضًا عن انخراطها التامّ في فتح الباب أمام شركات تسبّبت في مجازر بيئية قدرتها وزارة البيئة بمليارات الدولارات للاستمرار في تكسير الجبال وتلويث المياه الجوفية وعمليًا في هذه المجازر مقابل لا شيء. وإذ سارعنا إلى تقديم مراجعة بالتعاون مع جمعيات بيئية حاضرة هنا ضدّ هذا القرار أمام مجلس شورى الدولة، مراجعة سُجّلت في تاريخ 7 حزيران تحت الرقم 25722، طالبين فيها وقف تنفيذه ضمن أقصر المهل، فإننا دعونا إلى هذا المؤتمر الصحافي لإطلاع الرأي العامّ على خطورة هذا القرار واستنهاض القوى الاجتماعية كافة لمقاومته. نفعل هذا بشراكة كاملة مع النائبة العزيزة نجاة عون صليبا التي هي هنا في بيتها والجمعيات البيئية والشعبية التي نتشارك العمل على هذا الملف منذ سنوات. فما هي إذا هذه المخالفات؟ وما مدى خطورتها؟ هذا ما سأفعله تحت سبعة عناوين: 

1-أولًا، هو قرار يخالف تمامًا كل القوانين المعمول بها، وبخاصة المرسوم 8803/2002 لتنظيم المقالع والكسارات. إذ أن الترخيص باستثمار المقالع يمنح وفق أصول محددة وبعد التثبت من توفر الشروط البيئية والقانونية، والأهم لا يمكن منحه خارج المناطق المحددة على التخطيط التوجيهي للمقالع (وليست الكورة ولا عكار من ضمنه). لم تلتفت الحكومة إلى أي من هذه الشروط، بل عمدت إلى القفز فوق كل شيء من خلال منح مهلة إدارية جديدة (سنة كاملة) باستثمار المقالع خلافًا للقانون، وبكلام آخر امتيازًا لشركات الترابة بانتهاك القانون بغطاء منها. وبذلك، بات بإمكان هذه الشركات أن تكسر ما تريده من جبال وأن تلوث ما تريده من مياه جوفية وأن تجتاح رئات سكّان أي منطقة تريدها وعمليًا أن ترتكب جرائم جزائيّة بالمفرق والجملة، كل ذلك بتغطية ومباركة كاملة من الحكومة.

2-ثانيًا، وفيما كان واضحًا للحكومة أنه ليس لها أيّ سند قانوني بإمكانها الاستناد إليه، فإنها ظهّرت قرارها وكأنه مجرد تمديد اعتيادي لقرار حكومي سابق، وهو القرار الذي كانت أصدرته الحكومة بنفسها في تاريخ 15/2/2022. ولكن، من فرط حماستها للتعلق بأي أساس قد يمنح قرارها مشروعية معدومة، نسيت الحكومة أنّها بذلك إنما تستند إلى قرار باطل غير موجود، طالما سبق لمجلس شورى الدولة أن أبطله بقرار مبرم في تاريخ 20/4/2023. 

3- ثالثًا، لا تقتصر المخالفة على مخالفة قرار قضائي واحد أو منعزل لمجلس شورى الدولة. ففي السنوات الماضية، عمدت المفكرة القانونية وشركاؤها ومنهم اتحاد بلديات الكورة إلى تقديم 4 مراجعات ضد قرارات حكومية بمنح مهل إدارية تتراوح بين شهر وستة أشهر وربحتْها كلها. قدمنا الطعن تلو الطعن. وربحنا كل الطعون. وفي كل الطعون، قال مجلس شورى الدولة كلمته: منح مهل إدارية أمرٌ غير قانوني. قالها في تاريخ 20/4/2023 و20/1/2022 و 15/3/2022 و19/1/2022 وصدرت هذه القرارات المنشورة كلها على موقعنا عن أكثر من 6 قضاة وقاضية وبالإجماع هم على التوالي: الرئيسة ميريه عفيف عماطوري والمستشارين جهاد صفا، ميراي داوود، ريان رمّاني، يوسف جميّل، و باتريسيا فارس. وقد ذهب أحد هذه القرارات إلى حدّ القول بأن منح الحكومة هذه المهل هو تشجيع على ارتكاب جريمة. وتاليًا، ماذا يعني أن تتجاهل الحكومة كل هذه القرارات لتعود وتتّخذ قرارًا جديدا بمنح المهل الإدارية، بل بمنح أطول مهلة منحتها أي من الحكومات من قبل (سنة كاملة)؟ هذا يعني ببساطة أن الحكومة إنما تقفز فوق كل شيء، فوق القضاء والدستور ونظام فصل السلطات. 

ومن المهم هنا أن نوضح هنا أن المخالفة لا تتوقّف على مخالفة قرارات قضائية لمجلس شورى الدولة، إنّما تشمل أيضًا الالتفاف على وجوبية استشارته مسبقًا: فبعدما سجّل هذا المجلس في آذار الماضي رفضه لمشروع قرار مماثل عملا باجتهاده الثابت، عمدت الحكومة إلى تعديل قرارها من قرار تنظيمي إلى مجرد قرار بمنح مهل إدارية للشركات من دون أي ضوابط بيئية (سوى الإشارة العامة إلى وجوب التقيد بتعاميم وزارة البيئة من دون أي تحديد) وذلك للتفلّت من الاستشارة الوجوبية. وبذلك، أدى تهربها من رقابة هذا المجلس إلى التخلي عنوة عن وضع أي ضوابط بيئية.  

4- الأمر الرابع الذي نودّ لفت النظر إليه هو أن الطابع المزمن والمتكرر لهذه المخالفة. بمعنى أننا أمام تطبيع كامل معها وتأبيد لها، في نموذج آخر لدولة اللاقانون ودولة الجريمة المستمرة والإفلات من العقاب. وفيما دأبت حكومات ما بعد الحرب الأهلية إلى تبريرها بـ “حاجات الإعمار ما بعد الحرب” بانتظار وضع مرسوم تنظيمي للمقالع، فإنّ المخالفات استمرت بالطريقة نفسها بعد صدور المرسوم العتيد في 2002. وهذا ما أعلنت عنه وزيرة الداخلية ريا الحسن في 2019 لجهة أنها اكتشفت عند تولّيها الوزارة أنّ عشرات المقالع (150 على الأقل) كانت تدار من قبل سلفها المشنوق خارج أي صلاحية له. وهذا ما أكده وزير البيئة آنذاك بقوله إنّه لا يوجد إلا موقع واحد مرخّص على أساس مرسوم 2002 لكن توجد بالمقابل أكثر من ألف موقع مخالف وناشط من دون أي ترخيص. آنذاك، سألنا ماذا ستفعل الحكومة بعدما أماطت اللثام عن إحدى أكبر جرائم الفساد؟ الجواب: أعلنوا تسكير المقالع بيد من حديد. لكن لم يمض 20 يوما إلا وعادت هذه الحكومة “التي فضحت الفساد” لترتكب الفساد نفسه الذي فضحته بمنح مهل إدارية جديدة. لماذا؟ ليس لغياب مرسوم بل لأن المرسوم بحاجة إلى تعديل ولا بأس من منح المهل الإدارية حتى ننجز التعديل. واللافت أنّ بعض الكتل النيابية عادت في سياق تعليقها على القرار المخالفة إلى تحويل الإشكال من إشكال مخالفة سافرة للقانون تستوجب المحاسبة الفورية إلى إشكال تشريعي لا يحل إلّا بقانون جديد.   

5- الأمر الخامس الذي يجدر أيضًا لفت النظر إليه هو أن المخالفة تأتي لترسي احتكارًا جديدًا. ففضلًا عن أن الحكومة منحتْ شركات الترابة العاملة احتكارًا على إنتاج الإسمنت بعدما منعت بموجب قرار حكومي استيراده وهو احتكار ارتفعت في ظله أسعار الترابة في السوق المحلية لتصل إلى 90 د.أ أي ضعف سعر استيراده من الخارج أو توريده إليه، ها هي تمنح شركات الترابة نفسها احتكارًا أو امتيازًا ثانيًا، هو امتياز تكسير الجبال واستثمار مقالع مما سيسهم في مضاعفة أرباحها وأسعارها كل ذلك على حساب الوطن والمواطن. وتاليًا أحد مفاعيل هذا القرار أيضًا أنّه يفتح الباب واسعًا أمام تحقيق ثروات طائلة، ثروات لم يكن من الممكن تحقيقها إلا بإرادة حكومية وتاليًا صرف نفوذ، مع ما يستتبع ذلك من باب للابتزاز السياسي والمحاصصة الاعتيادية. فمن سيستفيد من هذه الثروات؟ وما هي علاقة رئيس الحكومة أو أي من الوزراء أو القوى السياسية معهم؟ هذه هي الأسئلة التي يجدر بالنيابات العامة ومجلس النواب والصحافة الاستقصائية أن تنكبّ عليها وصولًا إلى إماطة اللثام عن كل مستفيد من هذه الاحتكارات، داخل الحكومة أو القوى السياسية أو خارجها. من حقنا أن نعلم من هو بصدد تحقيق إثراء غير مشروع مستفيدًا من نفوذه على حساب المجتمع برمّته.

6-سادسًا، وما يفاقم من هذه المخالفة، هو أنّها تحصل بعد سنة من نشر وزارة البيئة تقريرًا عن الأضرار الناجمة عن المقالع والكسارات المخالفة للقانون، وقد بلغ عددها 1237 مقلعًا منتشرة على طول لبنان وعرضه. وأهم ما ورد في هذا التقرير هو أنّ أصحاب المقالع أضاعوا على الدولة مستحقات تقارب 4 مليارات د.أ، جزء منه ضاع إلى الأبد كالرسوم والغرامات بفعل انهيار العملة الوطنية. وجزء آخر لم يضِع بعد طالما أنه تعويض عن الضرر البيئي المتوجّب عليها والذي يقدّر يوم استيفائه. هذا التعويض المتوجّب بلغ حسب أرقام الوزارة الأخيرة مبلغ 2561 مليون د.أ منها منها 1973 (إعادة تأهيل) و588 (ضرر بيئي). وبنتيجة ذلك، تكون الحكومة قد سمحتْ لشركات الترابة أن تضاعف الأضرار البيئية المرتكبة منها، قبل حتى أن تعترف هذه الشركات بالأضرار التي تسببت بها أو أن تلتزم بالتعويض عنها. وهنا نصل إلى قمة التخلّي وعدم المسؤوليّة. فبأيّ منطقٍ نسلّم شركاتٍ مياهنا وجبالنا ورئاتنا بعدما فعلت فيها ما فعلته، تمكينًا لها من مضاعفة ضررها من دون ضوابط بل حتى من دون أن تلتزم أو تقوم بأيّ جهد لإصلاح هذه الأضرار وتسديد تعويض عنها والمبالغ المتوجبة لإعادة تأهيلها؟ فإذا لم تصلح الشركات أيا من الأضرار التي تسببت بها في الماضي، ما الذي يضمن أنها ستصلح أضرار المستقبل، وبخاصة في ظل ضياع موارد الدولة وأموالها؟   

وما يزيد من فداحة هذا الأمر هو أن وزير البيئة دأب في معرض تبرير موقفه من القرار الذي صدر بناء على اقتراحه بأنه في صدد اتخاذ خطوات لاستيفاء حقوق الدولة المالية وبأن الشركات ستسدد رسوما عن استثمار المقالع. وهو بذلك إنما يتناسى أن البيئة (الجبال والمياه وحقوق الناس) ليست للبيع ولا يمكن مقايضتها بمبالغ مالية، وأن التعويض عن الضرر البيئي يجب أن يحصل قبل فتح الباب للتسبب بأي ضرر إضافي، وأن وزارة البيئة انوجدت في مطلق الأحوال لحماية البيئة وليس لتسليعها أو بيعها. فكأننا ليس فقط في نظام إفلات من العقاب عن جرائم الماضي فقط بل في نظام يمنح كارت بلانش لارتكاب مزيد من الجرائم كل ذلك تحت غطاء إيحاءات بمحاسبة لا تحصل. 

وكما المستفيدين هم أنفسهم في مشهدية يصحّ وصفها بمشهدية باتت متكرّرة “جمعية أشرار”، كذلك الضحايا. لتصحّ هنا أيضًا مرة أخرى مقولة أننا بتنا شعب ضحايا لنظام لا يحاسب.  

7- أخيرًا، ما يزيد المشهد قتامة هو أن هذا القرار صدر في فترة جدّت فيها القوى السياسيّة لتقديم اقتراحات قوانين، ذهب بعضها لتسليع كل لبنان، أملاكه العامة، مرافقه العامة، جباله ومياهه وبيئته، وكل ذلك تحت ادّعاء رغبتها في ردّ الودائع أي إطفاء مفاعيل سرقة أخرى. وإذ نقول مجددا لبنان ليس للتسليع ولا للبيع وأن ما ورثناه عن الأجيال السابقة يجدر أن نورثه للأجيال اللاحقة، فإن هذا القرار مع ما ترافق به من تخلّ عن تحصيل حقوق الدولة بالتعويض عن ضررها البيئيّ إنما يكشف بوضوح كلّي أن خطورة هذا التسليع ليس فقط في استباحة ما يجدر منع أي تصرف فيه، بل أنه يحصل أيضا من دون مقابل. 

لهذه الأسباب كلها، 

وإذ قدّمنا مراجعة جديدة ضدّ هذا القرار، آملين أن يبادر مجلس شورى الدولة انتصارا لدوره وقراراته إلى وقف تنفيذه ضمن أقصر المهل، فإننا نطالب: (1) الحكومة بالتراجع الفوري عن هذا القرار و(2) هيئة القضايا باتخاذ الإجراءات اللازمة لاستيفاء التعويض المتوجب عن الضرر البيئي الموثق، و(3) كما نطالب النيابات العامة وكامل أجهزة الرقابة والمحاسبة فتح ملف للتحقيق في المستفيدين الحقيقيين من هذا القرار، بما يحتمل أن يشكل جرائم صرف نفوذ وإثراء غير مشروع.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني