لم تكن سنة 2016 كسابقاتها في المغرب، اذ شهدت وبعد طول انتظار صدور قوانين السلطة القضائية، بعد معركة شدّ وجذب طويلة بين وزارة العدل ونادي قضاة المغرب، معركة حسمها المجلس الدستوري بقرار وصف بالتاريخي.
في نفس السياق عاد الجدل ليحتدم من جديد حول مفهوم واجب التحفظ الذي كان سببا لعزل قاض، وتوقيف قاضية على خلفية تدوينات تضمنت نقدا لمشاريع القوانين الحكومية المتعلقة بإصلاح القضاء، عزل "قضائي" بطعم سياسي ألقى بظلاله على المشهد القضائي برمته في مرحلة حاسمة.
وكان الحدث الأبرز هو انتخابات المجلس الأعلى للسلطة القضائية، التي شكلت بداية التحول داخل المشهد القضائي. فقد أفرزت هذه الإنتخابات فوز مجموعة من النخب القضائية الشابة، وتمثيلية منصفة للمرأة القاضية، إلا أن تأخير تنصيب المجلس وتحركات وزارة العدل والحريات في المرحلة الانتقالية، أكدت أن عملية فك الارتباط بينها وبين السلطة القضائية لن تكون بالأمر الهين.
تأديب قضاة الرأي بالمغرب .. واجب التحفظ حين يتمدد
في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المغربي الذي يبقى حديث العهد بممارسة القضاة لحريتهم في التعبير، تقدمت مكونات فرق الأغلبية البرلمانية بمجلس النواب بشكاية لوزير العدل والحريات جاء فيها أن القاضي محمد الهيني "أدمن من خلال مداخلاته في عدد من الندوات على الإساءة إلى مكونات الأغلبية البرلمانية، حيث لا يفتأ يكيل الإتهامات والأحكام القيمية عن سبق إصرار وترصد، وذلك كله وهو يرتدي جبة القاضي، منصبا نفسه حارسا على المؤسسات الدستورية". وقد ذكرت الشكاية بشكل خاص مقالة نشرها بجريدة الأحداث المغربية بتاريخ 09/07/2015 في عددها 5640 تحت عنوان: "ألا في الفتنة الدستورية سقطوا" والتي اعتبر فيها وفق الشكاية "أن تعديلات الأغلبية على مشروع النظام الأساسي للقضاة موقف مخطط له، ومناورة كبرى زئبقية تتعامل مع القضايا الكبرى بمنطق المصلحة وليس الدستور..".
على إثر هذه الرسالة، قرر وزير العدل والحريات تحريك سلاح التأديب وإحالة القاضي محمد الهيني على المجلس الأعلى للقضاء، فضلا عن إحالة القاضية آمال حماني على خلفية تدويناتها بصفحة نادي قضاة المغرب والتي انتقدت فيها مشاريع إصلاح القضاء. وبعد محاكمة ماراتونية عرفت مؤازرة عدد كبير من القضاة والمحامين، في مشهد أعاد الى الأذهان أجواء محاكمات قضاة الرأي في مصر سنة 2005، قرر المجلس الأعلى للقضاء اتخاذ عقوبة العزل في حق القاضي الهيني، وتوقيف زميلته لمدة ستة أشهر. كانت العقوبتان قاسيتين، وانصرفتا إلى تأثيم التعبير عن الرأي دون مواربة. وكان تأديب القضاة المزعجين قبل ذلك يتم تحث غطاء أخطاء مهنية بحتة. نهج رأى فيه كثير من المتتبعين رغبة من جانب الدولة لفرض الإنضباط الذي افتقد داخل الجهاز القضائي طيلة أمد الحراك القضائي، ورأى فيه آخرون محاولة لتقييد الحراك القضائي بدليل أن إعلان عقوبتي الهيني وحماني تصادف مع مصادقة مجلس المستشارين على القانونين التنظيميين حول النظام الأساسي للقضاة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية".
المحكمة الدستورية تصدر قرارها حول مدى دستورية قوانين السلطة القضائية
وضع قرارا المحكمة الدستورية بخصوص النظام الأساسي للقضاة وقانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية حدّا للخلاف المحتدم بين وزارة العدل والحريات ونادي قضاة المغرب، حيث حسم في أهم النقاط اثارة للجدل بين الفريقين:
أ-وضعية قضاة النيابة العامة: حسم القرار في الجدل القائم حول طبيعة جهاز النيابة العامة عند مناقشته لمقتضيات المادة 25 من مشروع النظام الأساسي للقضاة، فنصّ بشكل صريح على أنها مكون من مكونات السلطة القضائية، وأنه مشمول بصبغة الاستقلال شأنه شأن قضاء الحكم، و أنه تبعا لذلك لا يمكن إسناد مهمة رئاسته لمكون خارج السلطة القضائية.
وعند مناقشة الفقرة الأخيرة من المادة 43 من مشروع النظام الأساسي للقضاة، التي تلزم قضاة النيابة العامة بالامتثال للتعليمات الشفوية لرؤسائهم، واعتبر المقتضى مخالفا لمقتضيات المادة 110 من الدستور التي تلزم قضاة النيابة العامة بتطبيق القانون أساسا، واستثناء تنفيذ التعليمات القانونية الكتابية لرؤسائهم.
ب-مبدأ حصانة القضاة من النقل: اعتبر المجلس الدستوري عند مناقشته لمقتضيات المادتين 35 و 72 من مشروع النظام الأساسي لرجال القضاء، أن عـدم القـابلية للنقـل من الضمانات الأساسية المخولة لقضاة الأحكام، وأنه لا يجوز أن يقرر نقل قضاة الأحكام، دون طلب منهم إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين؛
ج-الخطأ الجسيم الموجب للمسؤولية التأديبية للقضاة: صرح المجلس الدستوري بعدم دستورية بعض المقتضيات الواردة في المادة 97 المتعلقة بالخطأ الجسيم، المتسمة بالعمومية، معتبرا أن الإدلاء بتصريحات تكتسي صبغة سياسية لا يمكن اعتباره خطأ جسيما موجبا للتوقيف الفوري للقاضي.
د-استقلال المفتشية العامة عن وزارة العدل: اعتبر القرار أن مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، المقرر في الفصل 107 من الدستور، يقتضي إسناد مهمة تفتيش الشؤون القضائية – التي لا تكتسي صبغة إدارية أو مالية محضة – إلى جهة تنتمي إلى السلطة القضائية؛ وذلك ردا على محاولات وزارة العدل على الإبقاء لتبعية المفتشية العامة لها.
في المقابل، أقرّ القرار بدستورية حظر تأسيس وتسيير القضاة لجمعيات مدنية.
انتخابات المجلس الأعلى للسلطة القضائية بداية عهد جديد
بتاريخ 23/07/2016 أجريت انتخابات المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب والتي عرفت نسبة مشاركة مكثفة تجاوزت 93 بالمائة، رغم توقيتها الذي صادف العطلة القضائية، وقد عرفت هذه الإستحقاقات اجراءات تنظيمية جديدة، اذ تم فرز الأصوات لأول مرة بمكاتب التصويت، وتجميع النتائج بمقر محكمة النقض بحضور ممثلين عن المرشحين ومراقبين لضمان الشفافية. ومرت الحملة الإنتخابية في ظروف عادية. ويلاحظ أن التعددية الجمعوية انعكست على المشهد الانتخابي. ففي الوقت الذي قررت فيه الودادية الحسنية للقضاة تزكية لائحة الائتلاف التي تضم في تشكيلتها أعضاء سابقين، اختار نادي قضاة المغرب الحياد بين جميع المرشحين مقدما ميثاقا للسلوك الإنتخابي للقضاة.
وأفرزت النتائج اكتساحا للائحة الائتلاف بفوز غالبية الأعضاء السابقين، فضلا عن دخول وجوه شابة للمجلس على رأسهم الرئيس السابق لنادي قضاة المغرب ياسين مخلي الذي انتخب ممثلا عن محاكم الإستئناف، ونائبة رئيس النادي القاضية حجيبة البخاري التي فازت برصيد كبير من أصوات زملائها عن المحاكم الإبتدائية أهلتها لدخول المجلس دون اعتبار الكوتا النسائية، الى جانب القاضي كريم الأعزاني عضو المكتب التنفيذي لنادي قضاة المغرب. بينما خرجت جمعية رابطة القضاة التي انشقت عن الودادية خالية الوفاض رغم ترشح كثير من قياداتها. وكان اللافت في نتائج هذه الإستحقاقات عدم تقديم أي طعن انتخابي.
تعثر إنطلاقة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إنعكاس لأزمة التأخر في تفعيل المؤسسات الدستورية
استمرارا لأزمة التأخير في تنصيب عدد من المؤسسات الدستورية الجديدة، شارفت سنة 2016 على الإنتهاء دون تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما حتّم عقد اجتماع طارئ للمجلس بأعضائه السابقين بتاريخ 06/12/2016 للبت في نقطة وحيدة تتعلق بدراسة ملفات التمديد لعدد من القضاة الذين سيبلغون سن التقاعد في 31 كانون الأول 2016.
ومن الإنعكاسات السلبية للتأخير في تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية عدم تضمين مشروع قانون المالية لسنة 2017 بندا يتعلق بميزانيته. ويعتبر هذا الأمر مؤشرا سلبيا على انطلاقة متعثرة للمجلس الجديد، تضاف إلى مؤشرات مقلقة أخرى على رأسها المقر المخصص له. وقد أثار هذا المقرّ حفيظة الجمعيات المهنية القضائية التي أصدرت بتاريخ 04/10/2016 بيانا أعلنت فيه عن استيائها من المقر الجديد، باعتباره لا يليق كمقر للمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي ينبغي أن يتوفر على مقر مناسب له يتناسب وقيمته الدستورية. كما أن من بين المؤشرات المقلقة على بطء تنصيب المجلس الجديد التأخر في تعيين باقي الأعضاء غير المنتخبين، وعودة المجلس القديم إلى العمل.
دوريات وزارة العدل حول القضاء، تدبير زمن الإنتقال أم محاولة التفاف؟
في غمرة انتظار القضاة لتنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية بعد انتخابه، بادرت وزارة العدل الى توجيه مجموعة من المراسلات والمناشير للمسؤولين القضائيين، تتناول عدة مواضيع أهمها: تحديد آجال افتراضية للبت في القضايا المعروضة أمام المحاكم، ربط تقييم القضاة بمؤشر قياس نسبة ارتفاع تصفية القضايا، وتحديد معايير جديدة لتقييم قضاة النيابة العامة، وآليات اتخاذ قرار الإعتقال.
لقد أعطت هذه المراسلات إشارات سلبية لنية الوزارة في إبقاء وصايتها على الشأن القضائي، وجاءت استباقا لعمل المجلس المنتخب، ودون تشاور مع القضاة سواء كانوا منتخبين أم ممثلين لجمعيات مهنية. كما رفعت شعار الإنتاجية، عدالة الكم دون عدالة الكيف، وكأنها تحاول أن تكرس مسؤولية القاضي في التأخير الذي يتم في تصريف القضايا. والحال أن معضلة بطء العدالة مردّها بالأساس معضلة التبليغ، والقاضي مجرد حلقة في منظومة العدالة التي يتدخل فيها أطراف آخرون. وردا على هذه المناشير، أصدر نادي قضاة المغرب بيانا أكد فيه أن ما تضمنته بعض المناشير الصادرة عن وزارة العدل "يشكل مسا باستقلال القضاة ومحاولة لفرض سياسة الأمر الواقع".
نادي قضاة المغرب يواصل الحراك ويدعو الى بعث الجمعيات العامة للمحاكم
عرفت سنة 2016 ميلاد جمعية مهنية جديدة هي اتحاد قاضيات المغرب، ليصبح عدد الجمعيات القضائية بالمغرب سبع جمعيات تتمثل في الودادية الحسنية للقضاة، نادي قضاة المغرب، الجمعية المغربية للقضاة، الجمعية المغربية للنساء القاضيات، منتدى القضاة الباحثين، رابطة قضاة المغرب.
وقد شكلت مناقشة قوانين السلطة القضائية، إحدى لحظات الصفاء" التي وحدت القضاة، وكانت السبب في بعث ائتلاف بين هذه الجمعيات المتباينة، التي فرضت نفسها كمخاطب في المشهد القضائي الجديد. وبالرغم من ذلك استأثر نادي قضاة المغرب بالقوة الإقتراحية إذ بادر إلى إطلاق عدة مبادرات كان أهمها الدعوة إلى بعث الجمعيات العامة للمحاكم كآلية ديمقراطية في توزيع الاشغال داخل المحاكم، رافضا استئثار الإدارة القضائية بسلطة اتخاذ القرار باعتبارها قد تشكل مسا باستقلال القضاة، فضلا عن ورشات التخليق وإعداد مشاريع مدونة السلوك والنظام الداخلي للمجلس. كما انفرد النادي بمواصلة الأشكال الاحتجاجية والتي ظلت رمزية ومن أهمها اعتصام القضاة بمقر ناديهم احتجاجا على تعديلات فرق الأغلبية حول مشاريع قوانين السلطة القضائية، الى جانب الاستمرار في فضح كل أشكال التدخل. وكان أهمها مبادرة قاضية متخرجة حديثا من المعهد العالي للقضاء بالتبليغ عن محاولة تدخل نائب برلماني في ملف معروض أمام القضاء"، فضلا عن استمرار حالات الاحتقان التي عرفتها بعض المحاكم بين القضاة وبين المحامين على خلفية بعض الأحداث والتي وإن بدت معزولة إلا أنها تخفي في عمقها أزمة تدبير الخلاف بين جناحي الع
–عبد اللطيف الشنتوف: قرار دستوري بشأن قوانين السلطة القضائية في المغرب، مكاسب كثيرة في معركة استقلال القضاء، المفكرة القانونية تونس، العدد الرابع، آذار مارس 2016، ص 24.
– المهدي شبو: خمس سنوات من الحراك القضائي في عشر محطات منتقاة، مقالة منشورة بموقع هسبريس.
– وضع المجلس الدستوري تعريفا للخطأ الجسيم في صلب قراره جاء فيه :
"الخطأ الجسيم يتمثل في كل عمل إرادي أو كل إهمال أو استهانة يدلان على إخلال القاضي، بكيفية فادحة وغير مستساغة، بواجباته المهنية لدى ممارسته لمهامه القضائية".
–بلاغ المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 23/07/2016.
– أنظر لمزيد من التفاصيل المقال التالي المنشور بموقع المفكرة القانونية:
ملاحظات على مذكرة المفتشية العامة حول تقييم قضاة النيابة العامة، المفكرة القانونية
– بيان المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب المنعقد بتاريخ 03/12/2016.
– المهدي شبو: خمس سنوات من الحراك القضائي في عشر محطات منتقاة، مرجع سابق.
– بيان المكتب الجهوي لنادي قضاة المغرب بسطات بتاريخ 04/05/2016.