وادي الكرم: عندما يحوّل الإهمال القرى إلى أطلال


2021-08-25    |   

وادي الكرم: عندما يحوّل الإهمال القرى إلى أطلال
بيوت مهجورة في الوادي (تصوير لمياء الساحلي)

لم تدخل الكهرباء إلى وادي الكرم إلّا قبل عام ونصف العام من اليوم. وهي حتى اللحظة وصلت إلى جزء من بيوتها فيما ما زال الجزء الأخر قابعاً في الظلام يتفرّج أهله على مصابيح جيرانهم مندهشين. يومها أحيا أهل الوادي، وتحديداً منطقة الشطاح فيها، حفلة “عرمرميّة”، كما يصفها ابنها علي حسن مرتضى لـ”المفكرة”، وهنّأوا بعضهم البعض فرحين مسرورين بأنّ دولتهم تذكّرتهم بعد 68 عاماً على استقلال البلاد، وعفتهم من إضاءة مصابيح الكاز ليلاً. لكن الأزمة الاقتصادية منعت الفرحة المنقوصة عن جزء آخر من أهالي الشطاح حيث لم يبق “دولارات في مصرف لبنان”، كما يفيد مصدر في شركة كهرباء لبنان، لتلبية طلبات الآخرين بقطع عدادات (ساعات كهربائية) لإنارة منازلهم.

تصل وادي الكرم، وهو أحد أودية جرود الهرمل، من رأس المال، جنوب غرب المدينة على الطريق نحو جرد آل دندش في جباب الحمر واستكمالاً نحو الضنية. ووادي الكرم، وفق مختاره علي رشيد مرتضى، من أكثر الأودية اختلاطاً وتنوّعاً، إذ تعيش فيه عائلات صغيرة إلى جانب عشائر علوه (وهم قلّة فيها) وعوّاد، فيما يمسكها الدنادشة من أعلاها في البويب وجباب الحمر. ويحدّها آل علوه من الشمال الغربي عبر منطقة السَّوَح صعوداً نحو مرجحين. ويتألّف وادي الكرم من مراح السيّاد ومراح بيت غصن والزويتينة ومزرعة فقيه والشطاح ووادي الزراقط.

أمر آخر تجدر الإشارة إليه بشأن وادي الكرم وهو أنّه يتصدّر المناطق التي هجّر الحرمان أهلها عن “بكرة أبيهم”. فبعد وصول الكهرباء إلى الشطاح بنحو 8 أشهر، أي قبل أقل من عام من اليوم، ركّزت شركة كهرباء لبنان محطة كهربائية في مزرعة فقيه، إحدى مناطق وادي الكرم أيضاً، ولكن بعد فوات الأوان. فهي فعلت ذلك بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على تحوّل المزرعة إلى أطلال بعدما هجرها أهلها بسبب عدم وجود طريق ومدرسة ومياه وكهرباء.  

وكما مزرعة الفقيه، هجر سكان مراح السيّاد منازلهم. نزح هؤلاء نحو الهرمل ومنهم من تابع نزوحه نحو أحزمة البؤس في المدن، وصارت منازلهم خراباً. وكذلك فعل آل عوّاد تاركين مراحهم كمكان سكن دائم، فيما استمرّوا في زراعة أراضيهم. 

وحدها الزويتينة نجت من الاضمحلال بفضل الأوتوستراد الذي ربط قضاءي الهرمل والضنية ومرّ بها كونها تلتصق به. فبقي سكانها فيها “لا حول لهم ولا قوّة إلّا بضع شجر مثمر وأراض مستصلحة جزئياً يزرعون فيها بعض الحبوب، ويعيشون على “قوت لي ما يموت”، كما يصف حالهم مختار الزويتينة نزيه فخرالدين.

 

مين الدولة؟

يشعر أهل وادي الكرم بمرارة كبيرة نتيجة الحرمان الذي ما زال مستمرّاً لغاية اليوم ودفعوا ثمنه غالياً من علم أولادهم وتحسين أوضاعهم ونمط عيشهم وإنتاجيّتهم. لماذا على منطقة يلامس عدد ناخبيها (مع الزويتينة) 4000 ناخب، أن يتهجّر ناسها ويتركوا بيوتهم للخراب وهم لا يبعدون عن الهرمل أكثر من كيلومترين (مراح السيّاد) إلى 3 كيلومترات (مزرعة الفقيه). وفق المختار علي مرتضى “بيقدروا يعيشوا بمنطقتهم لو كان عندهم من الأوّل مدارس ومي وكهرباء وطرقات، مش مضطرين ينزحوا”. يتكلّف هؤلاء إيجار بيوت في الهرمل أو شراء أراض لا يقل ثمن الألف متر فيها عن 30 ألف دولار في أطراف المدينة وعلى هوامشها البعيدة، فقط ليتسنّى لهم إرسال أبنائهم إلى المدارس، أو للتوقّف عن نقل المياه على الدواب قديماً وبالصهاريج المكلفة حالياً، ولكي لا يعيشوا حياتهم على ضوء الشموع، ولا يجدون سيارة او حافلة تنقلهم بالأجرة على طرقات ترابية محفّرة ومليئة بالصخور والأرج (الحجارة الكبيرة). 

وفق المختار مرتضى، لم تضمحلّ الشطاح كما مزرعة الفقيه ومراح السيّاد لسبب وحيد “نمط عيش أهلها الذين يقتاتون من الزراعة البعلية شجراً وحبوباً ومن تربية المواشي، وليس لديهم خيارات أخرى في الهرمل”. 

إذا وضعنا الزويتينة جانباً كونها استقلّت عن مخترة وادي الكرم قديماً وأنشأت مخترة خاصّة بها لعائلة فخرالدين، فإنّ الشطاح هي الوحيدة التي صمدت في وادي الكرم برغم أنّ الحرمان “ضارب طنابه فيها”، وفق مرتضى “لهلأ ما في بير مي واحد بالشطاح والناس حافرة آبار تجميع”. يملأ الأهالي آبار التجميع ممّا يهطل من أمطار وثلوج وعندما يستهلكونها يأتون بالمياه بالسيترن من آبار جباب الحمر في الجرد الأعلى (نحو 5 كيلومترات) أو من رأس المال، نبع الهرمل الأساسي ويبعد عنهم نحو 10 كيلومترات هو الآخر. قدّم المختار علي مرتضى طلباً إلى وزارة الطاقة قبل سنتين لحفر بئر تغذّي الشطاح ووادي الزراقط جاره “ولم يعودوا إلينا بجواب حتى اليوم بسبب عدم توفّر اعتماد مالي”. يترك أهل الشطاح منطقتهم شتاء سعياً وراء تعليم أبنائهم ويعودون في الربيع لحراثة أراضيهم “حتى اليوم بعد في جزء من الطريق بحص وتراب”، يقول مرتضى وهو ما تأكدت منه “المفكرة” خلال زيارة المنطقة. هناك تمّ شقّ طريق عامّة للشطاح ولم يصل الإسمنت (حيث لا أسفلت للطريق) إلّا إلى بيوت من استطاع للواسطة سبيلاً. 

يرى علي حسن مرتضى، ابن الشطاح، منطقته جميلة “حايدة (أي بعيدة عن المدينة) وحلوة وأرضها خيّرة”. يعتاش علي وعائلته من خيرات أشجار الكرز والمشمش “وموسمها مميّز عن كرز ومشمش بقية المناطق”. وإلى جانب الزراعة يعمل علي على تراكتور للحراثة “أنا ما بحب أترك الشطاح، ومش لازم نتركها”، يقول وهو يشير إلى الطريق الرئيسية التي تبعد عن منزله نحو 700 متر “تخيلي مثلاً الطريق مش واصلة لعنّا”. وبرغم أنّ علي يأتي بالماء من جباب الحمر أو من رأس المال، لكنّه يفضّل العيش في الشطاح “الناس كرمالها عم تعرف قيمة هيدي المناطق وقديش الحياة صحّية وجميلة فيها”، يؤكّد وهو يشير إلى البيوت الجديدة التي بناها أصحابها حديثاً “في ناس نزحت من زمان بس هلأ رجعت لمّن صار في طريق وكهربا، وحتى لو رجعت بس بالعطل”.

 

آل الفقيه ينوون إحياء مزرعتهم

بعد حي رأس المال الذي يختم الهرمل ليفتح على حدودها مع وادي الكرم، جنوب غرب، وتحديداً عند الحاجز اليتيم للجيش اللبناني في الجرد نحو آل دندش، تنعطف بنا السيارة يساراً نحو مزرعة الفقيه. وبعد نحو 1500 متر من حاجز الجيش تنتهي الطريق المعبّدة لنقود السيارة على طريق تبدأ ترابية وتنتهي صخرية غير صالحة إلّا للآليات الرباعية الدفع. ثم يصبح الاستمرار بقيادة السيارة مخاطرة كبرى قد تؤدّي إلى خرابها، فنتركها في وسط طريق لن يعبر به أحد ونقصد مزرعة الفقيه سيراً على الأقدام. 

وإذ تدخل المزرعة لا شيء يشي بالحياة الآن، وإن كان كلّ شيء يقول إنّ حياة غنية كانت ها هنا. لم يبقَ من منازلها الترابية والحجرية المبنيّة على نمط أودية جرود الهرمل والمناطق الفقيرة في الأرياف، سوى جدران أو نصف جدران وقد نجت أسقف محدودة من الانهيار. وحدها الأعمدة الصفراء الفاقعة التي مدّتها شركة كهرباء لبنان قبل نحو عام من اليوم، لتركّز محطّة فيها، تلوّن المزرعة ترابية اللون مع حقولها المتروكة وجلولها ومنازلها المتهالكة.

هناك، تقابلنا مع “الأستاذ” علي مرشد الفقيه وهو معلّم المزرعة، وقد عاد بنا إلى ماضيها. “عندما كنت طفلاً، كان سكّان مزرعة الفقيه، كما سكّان كلّ وادي الكرم فقراء ومعتّرين عايشين من الزراعة وتربية المواشي في الجرد”. يومها كانت الطرقات في الستينيّات، تقتصر على “طريق للدابّة، لا مدرسة ولا كهربا ولا مي، يعني عايشين من قلّة الموت. بعد أربعة أولاد لم يرسلهم إلى المدرسة، فكّر والدي أنّه آن الأوان لتعليم أحد أبنائه وكان حظّي حلو لأنّي كنت الصغير حينها”. وعليه وضّبت والدة علي صرّة فيها بعض ملابس ومؤن، وأمسكه والده من يده، وكان في الثامنة من عمره، وسار به على الطريق الترابية إلى الهرمل “هونيك وَدَعني (من وديعة) عند ناس بيقربونا”، بعدما استسمحهم بأن يعيش ابنه مع أولادهم “حابب علّم هالصبي، قال لهم”. وهكذا تناوب والد علي ووالدته وأخوته على زيارته في بيت الأقارب كلّ يوم جمعة حيث يحملون له “زوّادة الأسبوع”. مع إنهاء علي صف الرابع ابتدائي، حضر والده وشكر العائلة التي استضافته كلّ هذه المدة وقال له “لهون بيكفّي يا بيي، بدي إيّاك تساعدني بالطرشات (قطيع المواشي) وبالأرض”. 

بعد عودته إلى مزرعة الفقيه بأربع سنوات، بنى علي، وكان في 17 من عمره، غرفة ترابية ليتزوّج فيها. وبينما هو يحضّر نفسه للزواج، سمع أحاديث عن وجود نحو 15 ولداً وفتاة في سنّ الذهاب إلى المدرسة من دون وجود أي سبيل لذلك. جمع الأهالي على الفور واقترح عليهم “بدّكم افتح غرفتي مدرسة؟ وعلّم هالأولاد؟”. “قلت يمكن يقدروا يكفّوا علمهم في وقت أنا عجزت عن ذلك”. وعليه، حوّل علي غرفته إلى مدرسة. مدّ في أرضها حصيرة، وقصد الهرمل على الدابّة واشترى خشباً وصنع منه لكل تلميذ “طبلية”، أي طاولة خشب، بارتفاع 40 سنتمتراُ وبطبقتين إحداهما للكتب والثانية للكتابة عليها جلوساً. طلب من كلّ ولد وفتاة، أن يأتوا بـ”طرّاحة” للجلوس عليها، واستعمل “صوبة حطب” من جهاز بيته، بعدما طلب من كل تلميذ أن يأتي يومياً بحطبة من منزله. واشترى علي لوح خشب “معاكس” وطلاه بالأسود وجعله لوحاً، وجهز حقيبة صغيرة للإسعافات الأوّلية، ولم يبقَ سوى وضع المنهاج والبرنامج: “قلت بعلّمهم لي بعرفهم وبوصّلهم للصف التالت حتى يصيروا قادرين يروحوا ع الهرمل”. قصد مدرسة الهرمل وسأل عن كتب التمهيدي واشترى لكلّ منهم نسخة منها، واتّفق مع المدرسة (مدرسة الهرمل) على منحه المنهاج ودفاتر علامات للتقييم. لم يترك شيئاً إلّا وفعله لتصير غرفته مدرسة “شرعية” جدّية “حدّدت موعداً ثابتاً لبدء الدروس عند الثامنة صباحاً، وأحضرت جرساً أدقّه بين انتهاء حصّة وبداية أخرى، وخصّصت لهم ساعة رياضة بدنية في الأسبوع، وكنت أعطيهم فروضاً منزلية كلّ يوم”. مسألة واحدة لم يستطِع فرضها وهي الزيّ الموحّد “كان في أهالي ما معهم ثمن المريول فسمحت باللباس الحر”. لم يحقّق علي حلمه بأن يصبح أستاذ مدرسة فقط، بل صار صاحب مدرسة ومديرها والأستاذ الوحيد، في الآن عينه. كان يلحق بالتلميذ الضعيف إلى منزله: “أعيد له شرح الدرس لكي أتأكّد أنّه استوعب كما رفاقه ورفيقاته”. كان الأهالي يدفعون له على الموسم “يبيعوا القمح ويعطوني، ع موسم الحمّص تجيني دفعة، وفي إحدى المرّات دفع له والد أحد التلامذة خروفاً”. وبرغم سعادته وشعوره بأهمية ما يفعل، إلّا أن جائزته الكبرى كانت بنجاح كلّ من نزل إلى مدرسة الهرمل في نهاية الصف الثاني ابتدائي وخضع لامتحان الدخول إليها “كل تلاميذي نجحوا”، يقول بفخر وكأنّ النتائج قد أُعلنت للتوّ. يكفي علي اليوم، كما يقول، أنّه عوّض غياب المدرسة الرسمية التي لم تنشئها الدولة، وساهم في إنقاذ مجموعة كبيرة من ذلك الجيل “تخرّج 4 منهم من الجامعات، وهذا أمر يسعدني وأفتخر به”.

خلال زيارتنا للمزرعة، التقينا أستاذ المدرسة حالياً والنقابي التربوي ركان الفقيه، وهو بالمناسبة أحد تلامذة الأستاذ علي.

يقول ركان، ابن المزرعة، لـ”المفكرة” إنّ مجموعة من الجيل الجديد تنوي إحياء مزرعة الفقيه “عم نسعى حتى نعمّر فيها عن جديد ونسكنها”. فالمزرعة لا تبعد عن الهرمل سوى 3 كيلومترات “يعني ضربة حجر”، وينوي هؤلاء العودة للعيش فيها “أوّلاً هيدي أرضنا وفيها ذكريات طفولتنا وبدنا نعيش فيها، وتانياً بحق أرض أو شقة بالهرمل منعمّر أحلى بيوت ومعظمنا عاجز عن تحمّل كلفة السكن بالهرمل، معظمنا مستأجرين بالمدينة وما عنّا بيوت فيها”. ولكن للعودة مقوّماتها “نطالب الدولة بتعبيد كامل الطريق إلى المزرعة بحيّيها السفلي والعلوي، وحفر بئر ومدّ المياه إلى المنازل، وإحياء المدرسة التي أقرّتها بعد نزوح كل أهل المزرعة عنها، أو بالأحرى تهجيرهم لأنّ الإهمال هجّرنا”. 

 

الزويتينة سكن المقطوعين من شجرة

لا يوجد في الزويتينة سوى الطريق التي تربط الهرمل بالضنّية، وتقع الزويتينة إلى جانبها، معبّدة. كانت الطريق “صعبة ووعرة قبل الأوتوستراد” يقول مختارها نزيه فخرالدين لـ”المفكرة”. أما الماء فقد أمّنته جمعية أرجنتينية بعدما حفرت بئراً في التسعينيّات وأوصلته إلى البيوت من خزّان بنته في أعلاها. جمع أهالي الزويتينة المال في السبعينيات وبدأوا ببناء مدرسة لتعليم أولادهم “بعدين الدولة كمّلتها”. كان الأساتذة يومها، ومنهم أستاذ يتذكّره المختار جيداً “اسمه يحيى العبدالله”، يسكنون في منازل الأهالي “بيعطوه غرفة ويصير كل يوم واحد يعزمه ع الغدا”. 

قدّم المختار نزيه فخرالدين طلباً لإنشاء بلدية للزويتينة “عنا 700 ناخب وبيطلع لنا بلدية، ووافقوا على طلبنا ونحن بانتظار التنفيذ، على أمل نقدر نعمل شوية إنماء”. 

لا يعيش في الزويتينة اليوم سوى المرضى والمسنّين وهناك أربعة إلى خمسة أشخاص من ذوي الإعاقة “حتى هودي لو قادرين يعيشوا بالهرمل ما بيبقوا هون بفصل الشتاء”. يرى المختار أنّ الأهالي لا يمكنهم استصلاح أراضيهم “الناس فقيرة وما معها والأرض مش مفروزة”. ويضرب مثلاً عن عدد الذين يقصدونها صيفاً “في كتير من أهلها بيرجعوا بالصيف”، ليقول إن منح الزويتينة حصتها من الإنماء “يحييها ويعيد أهلها إليها”.  

 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، فئات مهمشة ، مجلة لبنان ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني