هيئة إدارة قطاع البترول: حملتْ أحلام اللّبنانيين بالثروة ثم انهارتْ معهم


2022-08-25    |   

هيئة إدارة قطاع البترول: حملتْ أحلام اللّبنانيين بالثروة ثم انهارتْ معهم

كان تأسيس هيئة إدارة قطاع البترول إيذانًا باقتراب تحقّق حلم اكتشاف الثروة النفطية. إذ عنى أنه صار بالإمكان المضيّ قُدماً في عملية تلزيم عمليات الحفر والاستكشاف، بعدما وعدت الدراسات التي أجريتْ على البحر اللبناني بالكثير من المكامن الغازية. 

دورة التراخيص الأولى التي أطلقت في العام 2013، استقدمتْ الكثير من الاهتمام الدولي، ومن أكبر الشركات. فوز تحالف توتال – إيني – نوفاتيك برخصة استكشاف الغاز في الرقعتين رقم 4 و9، كان دليلاً على هذا الاهتمام، وزاد من التفاؤل بوجود الغاز، انطلاقاً من أنّ هذه الشركات لن تستثمر الأموال إلا في حقول فرص اكتشاف كميات تجارية فيها مرتفعة. 

في ذلك الوقت، كانت هيئة البترول تنشط لزيادة الاهتمام بالحفر في لبنان. يسعون للاستفادة من خبرات دولية ويتابعون مؤتمرات ودورات تدريبية على مساحة العالم. كان ثمة الكثير من العمل الذي ينتظرهم. لكن كلّ شيء انْقلب رأساً على عقب منذ العام 2019.

من يدخل إلى مقرّ الهيئة اليوم يدرك أنّ الزمن تحوّل. زحمة الأعمال حلّ محلها الصمت والفراغ. بالكاد يداوم من تبقّى من الموظفين الصامدين. حالهم كحال موظّفي القطاع العام الذين تبخّرت رواتبهم. حتى عندما تحوّلت الهيئة إلى تصريف الأعمال بداية العام 2019 كانت الحياة تدبّ في أروقتها، من دون أن تتأثر الأعمال بالخلافات السياسية التي تجددت بشأنها.

في ذلك الوقت، جرتْ محاولات خجولة لتعيين أعضاء جدد أو على الأقل للتجديد لأعضائها أنفسهم (ينص مرسوم إنشائها على إمكانية التجديد لمرة واحدة). لا هذا نجح ولا ذاك. كل شيء بقي على حاله نظرياً. أما واقعياً، فقد تحوّلت الهيئة إلى شبح يسيطر عليه الشلل، لسببين: صراع المصالح وسعي كل الكتل النيابية إما للحصول على دور في الهيئة أو لتعزيز حضورها فيها، والانهيار المالي الذي حوّل العمل في الهيئة من عزّ إلى فاقة. فالهيئة التي كان أعضاؤها يحصلون على رواتب تتخطّى 10 آلاف دولار، بحجّة الحاجة إلى جذب الخبرات من الخارج، تحوّلت، بفعل انهيار قيمة العملة، إلى طاردة لهذه الخبرات، التي تبحث عن فرص عمل في الخارج. 

بدأت قصة الهيئة في العام 2012، عبر المرسوم الصادر في 4 كانون الأول 2012، والذي نُشر في الجريدة الرسمية في 13 كانون الأول. حدّد المرسوم مدّة مجلس إدارة هيئة إدارة قطاع البترول بستّ سنوات قابلة للتجديد لمرّة واحدة، على أن تكون رئاسة مجلس الإدارة مداورةً لمدة سنة واحدة وفقاً للتسلسل الأبجدي المرتكز إلى أسماء عائلات الأعضاء، فترأس الهيئة على التوالي كل من: عاصم أبو ابراهيم، ناصر حطيط، كابي دعبول، وسام الذهبي، وسام شباط ووليد نصر.

وكما يتضح من المرسوم الفريد من نوعه، كانت الأولوية للمحاصصة الطائفية – السياسية لا للكفاءة. إذ لم تحدّد أيّ مهارات أو خبرات ينبغي أن يملكها رئيس الهيئة. كل عضو، وهو في الوقت نفسه رئيس وحدة متخصصة، يكون تلقائياً رئيساً للهيئة لمدة سنة. وهذا يعني أن الرئيس اليوم، سيكون غداً مرؤوساً لمن كان مرؤوسه. 

في مطلق الأحوال، سارت الأمور كما هو مُخطط لها في السنوات الست الأولى، لكن الأمور انقلبت في نهاية العام 2018. حينها كانت حكومة سعد الحريري الأولى بعد انتخابات 2018 في مرحلة تصريف الأعمال. وقد استعان الوزير الأسبق للطاقة سيزار أبي خليل باستشارة من مجلس شورى الدولة، شرّعت استمرار الأعضاء أنفسهم القيام بأعمالهم على قاعدة استمرارية المرفق العام، وإلى حين يتّخذ مجلس الوزراء القرار، إمّا بالتجديد لأعضائها أو تعيين هيئة جديدة. لكن هنا، طرأ “خلل” في إدارة الهيئة. فاستمرارية المرفق العام لا تعني بالضرورة استمرار المداورة في الرئاسة. حينها كان وليد نصر رئيساً وقد بقي كذلك في فترة التكليف، ولا يزال بعد مرور 4 سنوات. 

في آذار 2019، أي بعد تشكيل الحكومة الثانية للرئيس سعد الحريري، رفعت وزيرة الطاقة آنذاك ندى بستاني مشروع قرار إلى مجلس الوزراء تطلب فيه التجديد لأعضاء الهيئة. لكنّها ما لبثت أن استردّت طلبها، لأسباب مجهولة، وإن تردد حينها أن التيار الوطني الحر مستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه، أولاً لأنه يضمن استمرار عونيّ في رئاسة الهيئة تحت غطاء تصريف الأعمال، وثانياً لأن عدم تعيين هيئة أصيلة يزيد من تأثير وزير الطاقة، وزير الوصاية، على الهيئة شبه المستقلة. وقد استمرّ الوضع على حاله حتى الجلسة الأخيرة لحكومة الحريري (21 تشرين الأول 2019) قبل إعلانه الاستقالة في 29 من الشهر نفسه. حينها أُقرّ التجديد لأعضاء الهيئة، بشكل مفاجئ حتى بالنسبة لأعضاء الهيئة أنفسهم. إلا أن هذا القرار لم يصمد أكثر من يوم واحد، حيث جُمّد في 22 تشرين الأول، بناء على طلب من الوزير محمد فنيش الذي استمهل مجلس الوزراء يوميْن من أجل البحث في استمرارية العضو الشيعي ناصر حطيط. لكن حتى بعدما قرّر ثنائي حزب الله وحركة أمل دعم بقاء حطيط في منصبه، لم يحصلْ أيّ تعديل في عملية تجميد القرار الحكومي. 

بالنتيجة، طُوِيتْ صفحة تفعيل عمل الهيئة. ولم تسعََ حكومتا الرئيسين حسّان دياب ونجيب ميقاتي إلى ذلك، لا تجديداً لأعضائها ولا استبدالاً لهم، فبقيت الهيئة في حالة تصريف الأعمال، قبل أن تنتقل حالياً إلى حالة الموت السريري. إذ تؤكد مصادر مُطّلعة أن الشغور في الهيئة صار هو الطاغي، إن كان على صعيد مجلس الإدارة أو على صعيد الموظفين. وبشكل أدقّ، لم يبقَ سوى أربعة موظفين من أصل 14 موظفاً مُتخصّصاً (غير إداري). أما أعضاء الهيئة الستّة، فهم بدورهم لم يبقَ منهم عملياً إلا ثلاثة. أبو إبراهيم استقال وانتقل للعمل في مشروع نيوم في السعودية، حطيط استقال وعاد للعمل في الخارج، رئيس الهيئة وليد نصر لم يستقل لكنه لا يتواجد في الهيئة، وقد تردّد أن بقاءه في عمله، مُرتبط فقط بعدم الرغبة بفرط نصاب الهيئة، التي لم يبق من أعضائها عملياً سوى وسام شباط ووسام الذهبي وكابي دعبول. علماً أن الحفاظ على النصاب قد لا يستمرّ إذا حصل أيّ من الأعضاء الثلاثة على عروض عمل في الخارج. وأكثر من ذلك ثمّة وحدات بكاملها فارغة من أي موظف. بعدما اضطر الجميع إلى البحث عن فرصة عمل بالدولار. 

في المقابل، ثمّة من يعتبر في الهيئة أن النقاش المرتبط بمسألة الاستقالات والنصاب هو نقاش في غير موضعه. فالهيئة في مرحلة تصريف أعمال منذ العام 2018. وبالتالي أسوة بالحكومة عندما تكون مستقيلة، لا يمكن للوزير أن يستقيل من الاستقالة. ما يمكن فعله هو تجميد العمل والتوقّف عن قبض الراتب، من دون أن يعني ذلك عدم استمرار العضوية. لكن ذلك لا يغيّر شيئاً في طريقة عمل الهيئة، التي يتحكّم بها وزراء الطاقة منذ نهاية ولايتها وعدم التجديد لها. علماً أن تحالف شركات النفط المتعاقدة مع لبنان وكذلك الشركات المهتمة بالاشتراك في الدورة الثانية للتراخيص لا يطمئنها وجود هيئة غير أصيلة في إدارة القطاع، انطلاقاً من أن الثبات الإداري هو الحدّ الأدنى للاستقرار، خاصة أنّ الهيئة معنية مباشرة بالتواصل مع الشركات، وهو ما سبق أن عبّرت عنه هذه الشركات بالفعل. 

باختصار، الهيئة في حالة شلل غير مُعلن. وضعها يبدو صورةً مصغّرةً لوضع القطاع وحتى عن وضع البلد برمّته. هي تعبير عن انهيار الحلم اللبناني بالثروة وتعبير عن صعوبة انتشال اللبنانيين من القاع الذي يتعمّق يوماً بعد آخر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني