موظفو تلفزيون لبنان سئموا الوعود الفارغة


2023-06-22    |   

موظفو تلفزيون لبنان سئموا الوعود الفارغة

لدى اقترابك من مبنى تلفزيون لبنان في تلة الخياط، تشعر وكأنّك تقترب من بيتك الأوّل، يباغتك الحنين إلى أيام “أبو ملحم” و”أبو سليم” و”أخوت شاناي” و”عشرة عبيد زغار” و”الدنيا هيك”، وغيرها من المسلسلات التي شكلت العلاقة الأولى بالشاشة الصغيرة، ومسرحيات وبرامج حوارية فنية وسياسية تعود لوجوه محببة رحلت أمثال ليلى رستم ونجيب حنكش وعادل مالك وعرفات حجازي. 

لكن وصولك إلى أمام المبنى أمس الأربعاء أثناء اعتصام نفّذه الموظفون يعيدك إلى الواقع المرير فلا حاضر التلفزيون يشبه ذلك “الزمن الجميل”، ولا واقع موظفّيه يختلف عن حاله. وهناك تطالعك وجوه غاضبة مثقلة بالهموم والقلق على المصير. من بين تلك الوجوه وجه إسكندر نهرا الذي يعمل مصوّرًا في مديرية الأخبار منذ  العام 1993، ولا يتجاوز راتبه 30 دولارًا، يقول لـ “المفكرة القانونية”: “حياتنا باتت قاسية جدًا وأكثر، كنشرة الأخبار التي نشارك في صنعها، لكنّها نشرة أخبار فعلية عبارة عن وقائع يومية من الفقر والعوز والقهر، وقائع مفتوحة على انتظار الأصعب والأفظع”. ويضيف: “دائمًا نُستثنى من المراسيم التي تقرّ الزيادات والمساعدات. فمنذ أول شهر أيار قالوا لنا اشتغلوا 14 يوم بتحصلوا على 6 معاشات كمساعدة اجتماعية وبدل نقل 450 ألف عن كل يوم عمل. التزم الموظفون بما طلب منهم، ودفعنا النقل من جيوبنا. وانتظرنا في نهاية الشهر ولم نقبض. ثم وُعِدنا بتسديد مستحقاتنا في منتصف أيار ولم نقبض، وها نحن نغرق بالوعود والوعود فقط”. 

لم يحصل موظفو تلفزيون لبنان حتى اليوم على الزيادة التي نصّ عليها قانون الموازنة العام للعام 2022 ولا على أيّ من المساعدات الاجتماعية وبدلات النقل التي أقرّها لهم مجلس الوزراء أسوة بموظفي القطاع العام، ما يعني أنّ رواتبهم لا تزال على سعر الصرف 1500 ليرة، إذ تتراوح بين مليون ونصف و5 ملايين ليرة، وفق رئيس نقابة الموظفين حنا بواري. وفي آخر أيار الماضي وعدهم وزير الإعلام زياد مكاري خلال مؤتمر صحافي بدفع المساعدة الاجتماعية التي يبلغ مجموع قيمتها 20 مليار ليرة بعد أن حصل على موافقة وزير المال، ولكنهم لم يحصلوا على أي شيء بعد.

بناء عليه أصدرت نقابة الموظفين بيانًا أكّدت فيه أنّها تختار “المواجهة المحقّة كي نحافظ على شركتنا ومصالحنا ولقمة عيشنا وعائلاتنا”، بعد وصول “أحوالنا المعيشية إلى هذا الدرك غير المسبوق وبعد استنفاد كل الوسائل من حوار وانتظار ولم نلق إلّا الوعود”.  

“وضع مهترئ”

يصف بواري في حديث مع “المفكرة” وضع التلفزيون بـ “المهترئ”، مشيرًا إلى أنّ “الموظف وحده يدفع الثمن، وقد تلقينا مرارًا وتكرارًا وعودًا بتحسين أوضاعنا منذ بداية الأزمة الاقتصادية واقتراحات الحلول والمساعدات التي أقرّت، لا سيما بعد أن تبخّرت رواتبنا وأصبحنا أمام انعدام القدرة على تأمين الوصول إلى العمل”.

إذًا، وضع تلفزيون لبنان يشابه وضع  مؤسسات الدولة المعرّضة للانهيار، نتيجة الأزمة، ما انعكس على الموظفين وقدرتهم على الاستمرار والقيام بواجباتهم، لكن ما يزيد  الوضع  سوءًا، هو غياب مجلس إدارة قادر على اجتراح الخطط المطلوبة بعدما حالت التدخلات السياسيّة دون تعيين مديرٍ عامٍ أصيل منذ العام 2014 خلفًا لرئيس مجلس الإدارة السابق إبراهيم الخوري، والاستعاضة عن ذلك بوضع الإدارة بعهدة حارسٍ قضائي بشكل متتالي قبل أن يستلم مكاري نفسه إدارة التلفزيون من المديرة المؤقتة فيفيان لبّس في 20 كانون الثاني 2023 بعد قرار قضائي أعفى الأخيرة من مهامها.

وفي هذا الإطار، يرى بواري أنّ “عدم وجود مدير عام ولا مجلس إدارة على مدى أعوام عدة، سبّب فراغًا كبيرًا في التلفزيون، إذ لا يوجد رأس لحلّ المشاكل، والأمور كانت تجري بالتزبيطات والمَوْنة والواسطة. هذا الخلل أوصلنا لمرحلة مادية زفت. لم نكن نشعر بهذا الفراغ قبل الأزمة، إنما اليوم، نحن بحاجة إلى مسؤولين لاتخاذ قرارات ومتابعة الأمور مع الحكومة ومجلس النواب”.

محسوبيات واستنسابية في الزيادات 

يصف أحد الموظفين خلال الاعتصام ما يحصل بالزبائنية والمحاصصة الحزبية، والاستنسابية في إعطاء زيادات للبعض من تحت الطاولة، ويوافقه المصوّر في نشرة الأخبار فادي أيوب الذي يقول لـ “المفكرة”: “أعمل في المؤسسة منذ العام 1991، راتبي الشهري 30 دولارًا، مع ذلك أرى أنّ المشكلة ليست في الرواتب فقط، بل أيضًا في مخالفة القوانين”. وأوضح أيوب أنّ “أكثر ما نطمح إليه أن تطبّق الإدارة القانون والنظام الداخلي للشركة خلال التعيينات والترقيات والزيادات المخالفة حتى الآن لكلّ القوانين المرعية”. وأشار إلى ما أعلنه وزير الإعلام في المؤتمر الصحافي الأخير من “أنّ المدير المالي السابق مع الحارس القضائي فيفيان دبوس ومن دون وجه حق أُعطوا صلاحيات لإعطاء زيادات لـ 75 موظفًا بالسر من دون أي مشروعية. وبالتالي فوجئنا عندما تغيّرت الإدارة، بأنّ 75 موظفًا أخذوا زيادات منذ سنة ولا نعلم لماذا هم؟”. ويتابع: “أصبح مساعد المصوّر مثلًا وهو فئة سابعة يتقاضى أكثر من مدير برامج فئة أولى. الوزير وعد أن يحوّل هذه المخالفات على التفتيش المركزي أو هيئات رقابية، لكن عالوعد يا كمون”. 

وكان مكاري أوضح في المؤتمر الصحافي أنّه “لم يكن هناك أيّ مشكلة مع الإدارة السابقة إلى أن أقرّ مجلس الوزراء مساعدات اجتماعية، وطلبنا من الإدارة إرسال جداول بأسماء الموظفين بحسب الأصول من أجل رفعها إلى وزارة المالية بغية صرف المستحقات للموظفين. وعندها، فوجئنا بأنّ هناك 5 أو 6 مراسلات مخالفة للأصول على مدى أشهر طويلة، منها بالفرنسية، ومنها غير موقعة، ومنها من دون أسماء كاملة أو من دون تاريخ استخدام أو أرقام ضمان، إلى أن تبلّغنا من الادارة السابقة في أواخر عام 2022 أنّ وزارة الإعلام تتحمّل مسؤولية هذا التأخير في الصرف، وأنّ الموظفين يكافحون ونحن لا نقف بجانبهم. بناء على ذلك، اتخذت قرارًا باسترداد إدارة التلفزيون”.

موظفون سئموا الوعود

رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الذي شارك الموظفين اعتصامهم، أكد في كلمة أمام الموظفين المعتصمين، سعي وزير الإعلام في هذا الأمر. وقال: “تواصلت معه، قبل مجيئي، وهو موجود في الرباط في المغرب وأعلمني بوجود مرسوم سلفة بـ 20 مليار ليرة وقع عليه مدير عام المالية جورج معراوي، بموافقة وزير المالية والمفروض أن يتم تحويله إلى دائرة الصرفيات في أقرب وقت كي يتم إعطاء الموظفين حقوقهم كاملة”، مضيفاً: “أبلغني الوزير أنّه فور حضوره من الرباط سنترافق في رحلة تحصيل الأموال بسرعة”.
ولكن بعد كل الوعود التي أطلقت ونكث بها كيف يمكن للموظفين أن يصدّقوا هذا الوعد الجديد وهو ما عبّر عنه أحد الموظفين بعد انتهاء الأسمر من كلمته: “وعود وعود صرنا سامعين هالكلام كتير. نحنا موظفين مسروقين”. فردّ الأسمر: “الوعد صار ورقيًا والمرسوم الموقّع من الوزير والمالية أخذ طريقه للتنفيذ”.

يتحدث موظفو التلفزيون لـ “المفكرة” عن أوضاعهم الصعبة، من جرّاء حرمانهم من تصحيح الأجور والمساعدات الاجتماعية. أهاشم اللاز يعمل في وظيفة سائق في مديرية الأخبار: “منذ 10 سنوات معاشي مليون و300 ألف ليرة، ولدي عائلة، هذا عدا عن أنّ سكني خارج بيروت. متنا وما عارفين كيف عايشين. وعود وعود ولم نر ولا حتى فلسًا واحدًا. أعطونا مليون ونصف مساعدة وحسموا من المبلغ  ضرائب. اضطررت أن أسكن عند أهلي لأتمكّن من الحضور إلى عملي عندما طلبوا منّا أن نسجّل 14 يوم حضور”.  

ومثل إسكندر وفادي وهاشم، كذلك ريهام منصور ورانيا المصري وهدى أبي ناضر وكثر، ينتظرون آخر الشهر علّ الوعود تتحقق، ويعدون أنّهم لن يتوقفوا عن المطالبة لأنّه “لن يموت حق وراءه مطالب، ونحن أصحاب حق وسنأخذ حقنا”.  

معاناة بدأت منذ فقدانه الحق الحصري للبث

مرّ تلفزيون لبنان بـ 3 مراحل في تاريخه: الأولى من نهاية الخمسينيات حتى بداية الستينيات، عبر شركتين خاصتين بالكامل، والثانية عام 1978 كشركة مختلطة مساهمة مناصفة بين القطاعين العام والخاص باسم تلفزيون لبنان وهي مرحلة الدمج، أما المرحلة الثالثة فكانت في عام 1996، حين اشترى الرئيس الراحل رفيق الحريري حصة القطاع الخاص بالكامل وبالتالي الدولة اللبنانية تملك أسهم تلفزيون لبنان بالكامل. وبعد صدور قانون الإعلام المرئي والمسموع الرقم 382/94، وإثر الترخيص لعدد من المحطات الخاصّة، فقد تلفزيون لبنان الحق الحصري الممنوح له بالبث لغاية العام 2012.
منذ ذلك الحين، باتت المنافسة شديدة على تلفزيون لبنان من المحطات الخاصة الأخرى وإثر ذلك شحـت مداخيله الإعلانية إلى الحدود الدنيا، وتعرّض للكثير من المشاكل إلى أن تمّ إقفاله في آخر شباط من العام 2001، وتمّ صرف جميع مستخدميه الذين فاقوا 550 مستخدمًا بقرار من مجلس الوزراء، على أن يعاد تنظيمه من جديد خلال ثلاثة أشهر. إلّا أنّ فترة الثلاثة أشهر لم تكن كافية لإعادة تنظيم التلفزيون كما يجب وكما تقضي أصول المهنة التلفزيونية، فأعيد فتحه في 25 أيار 2001، وصرفت له موازنة ضئيلة جدًا من قبل الدولة. ومنذ ذلك الحين يحاول تلفزيون لبنان النهوض من جديد في ظلّ ظروف صعبة. 

وبحسب وزير الإعلام يحصل “تلفزيون لبنان على مساهمة شهرية من الوزارة بما يقارب المليار و500 مليون ليرة وقبل الأزمة كان يحصل على مبلغ مليون دولار شهريًا. واليوم، أصبح المبلغ 15 ألف دولار شهريًا”. وهذه المبالغ مخصصة لإدارة المرفق ولا تغطّي رواتب الموظفين. 

يشار إلى أنّ عدد الموظفين الفعليين داخل الملاك في تلفزيون لبنان اليوم بحسب بواري، هو 190 موظفًا، ويوجد بين 30 و35 متعاقدًا منهم مقدّمو برامج ومعدّو برامج ومراسلون، وكان العدد أكثر من 300 قبل الأزمة إلّا أنّ بعضهم بلغ سنّ التقاعد والبعض الآخر استقال وبطبيعة الحال لم يتمّ توظيف أشخاص جدد.  

وبما أنّ التلفزيون شركة خاصة تملك أسهمها الدولة، لا يحصل التوظيف فيها من خلال مجلس الخدمة المدنية، بل يجري وفقًا لآليات التوظيف في الشركات الخاصة من خلال الإعلان عن الحاجة للتوظيف وإجراء مقابلات، ليتم بعدها التوظيف بقرار من المدير العام ومجلس الإدارة. أما رئيس مجلس إدارة التلفزيون وأعضاء مجلس الإدارة فيعيّنون بمرسوم حكومي واحد.

وتعاقب على منصب رئيس مجلس الإدارة المدير العام لتلفزيون لبنان منذ العام 1978 عشرة هم: شارل رزق، موسى كنعان، ريمون جبارة، جورج سكاف، فؤاد نعيم، جان كلود بولس، إبراهيم الخوري، طلال المقدسي، توفيق طرابلسي وفيفيان لبّس. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات إعلامية ، نقابات ، حركات اجتماعية ، قرارات إدارية ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حقوق العمال والنقابات ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني