مكافحة الرشوة المقنّعة في القطاع الصحي: تجّار الدواء خلف ستار الأطبّاء


2023-07-14    |   

مكافحة الرشوة المقنّعة في القطاع الصحي: تجّار الدواء خلف ستار الأطبّاء
رسم رائد شرف

قدّم النائب بلال عبدالله بتاريخ 27/09/2022 اقتراح قانون يرمي إلى “مكافحة الأرباح غير المشروعة في القطاعيْن الطبّي والاستشفائي” موجزه تجريم حصول “المهنيين” (في هذين القطاعين) على منافع غير مشروعة عبر موقعهم الذي يلزمهم بموجب الإرشاد والإعلام تجاه المريض. وهذه الجريمة  تعدّ من الجرائم الشكلية، بما أن الفعل المعاقب – الحصول على أرباح غير مشروعة-  لا يشترط حصول أيّ نتيجة ضارة على المريض (لا صحيًا، ولا لجهة إفقاره)[1].

والمهنيون، بحسب الاقتراح، هم الأشخاص الطبيعيون أو المعنويون المعنيون بصحة مريض لجأ إليهم من أجل علاج أو استشارة، وهم الذين يمكنهم التأثير مباشرةً أو غير مباشرة على المريض أو على الأدوات والمعدات والأدوية والخدمات التي يتم اختيارها له أو المعايير المستعملة أو التي لها علاقة بقيمة فاتورة العلاج، والذين يقع عليهم موجب إرشاد أو إعلام المريض إضافة إلى الموجب الأساسي المتأتي من ممارستهم لمهنتهم[2].

وقد عرّف الاقتراح المنافع غير المشروعة على أنّها “المنافع المادية أو المعنوية أو النقدية الخاصّة أو الإضافات كالعمولات والحسومات والهدايا والسفر التي يحصل عليها المهني، خارج إطار أتعابه المهنية العادية – من أي بائع للأدوية أو المعدّات أو الأدوات أو خدمات أو أي مقدم خدمة أو موزّع أو مروّج – ولو لم تؤدّ إلى إفقار المريض”[3] معاقبًا هذا الفعل بالحبس لمدّة تتراوح بين ستة أشهر وسنتين وبغرامة مالية مرتبطة بالحد الرسمي للأجور[4].

وقد استندت الأسباب الموجبة المرفقة بهذا الاقتراح إلى عدّة مبادئ من مكافحة الفساد، مرورًا بالشفافية والحوكمة وصولًا إلى تضارب المصالح. وعليه، يكون الاقتراح متماشيًا مع انضمام لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من جهة أولى، مؤمّنًا لمبدأ الشفافية في أعمال المهنيين العاملين في القطاع الطبي والاستشفائي حمايةً للمريض الذي يكون في حالة ضعف أثناء مرضه من جهة ثانية، وسدًا أمام تضارب المصالح الذي ينشأ من جرّاء ظاهرة تقاضي العمولات كما ظاهرة تأسيس مؤسسات وشركات تجارية من قبل بعض العاملين في القطاع الطبي والاستشفائي للإتجار بالمستلزمات والمعدّات الطبية والأدوية.

هذا الاقتراح يأتي بعد سلسلة خطوات قامت بها نقابة مستوردي الأجهزة والمستلزمات الطبّية في لبنان في هذا الصدد. فقد أطلقت في تاريخ 15 تشرين الثاني عام 2021، مدونة السلوك لمحاربة الأرباح غير المشروعة في القطاع الصحي ومنع استغلال المريض، ومن ثم قدمت مشروع  قانون  يجرّمُ الأرباح غير الشرعية في القطاع الصحي كي يتحوّل السلوك غير الأخلاقي إلى سلوك “غير قانوني” وبالتالي “يجرّم الفعل في حال حصوله، ويعاقب الفاعل والمشارك في الفعل، كما والذين يغضّون النّظر عند حصوله”، إلى كلٍّ من وزارة الصحة ولجنة الصحة النيابية ورئاسة الوزراء.

كما وأعلنت النقابة على لسان نقيبتها انضمامَها إلى تجمع Mecomed في الشرق الأوسط لتفعيل هذا القرار بآليةٍ عمليةٍ ورادعة. وقد أطلقت للغاية نفسها صفحة خاصة على موقع النقابة الإلكتروني للتبليغ عن المخالفات حيث يتم تحويل أيّ بلاغ بسرية تامّة إلى لجنة محايدة من ذوي الاختصاص الطبي والمالي والقانوني والتجاري، ويتم إيداع تحقيقاتها في حال وجود أي مخالفة إلى الجهات الرسمية وإلى منظمة Mecomed. وفي أذار 2022، أرسلت النقابة إلى الجهات المعنية لائحةً إسميّة بـ 122 شركة التزمت بهذه المدونة.

لم نستطع الحصول  على الاقتراح المقدّم من قبل النقابة ولا على مسودة السلوك. ولكن بعد الاطلاع على  مدونة لقواعد السلوك  لمجموعة mecomed (المصادق عليها كانون الثاني 2021)  نستخلص خمسة مبادئ أساسية تحكمها: (1) التنبّه لأهمية الصورة والنظرة الخارجية من قبل الجمهور (أي ألا يكون هناك بذخ في الصرف)، (2) الفصل في التفاعل  بين الصناعيين ومهنيي الصحة لجهة عدم استغلال هذا التفاعل لغايات ربحية (أي عدم جعل الهدف من التفاعل التأثير في القرار والأداء العلمي لأخصائيي الرعاية الصحية)، (3) الشفافية في العلاقة بين الصناعيين وأخصائيّي الرعاية الصحية، (4) مبدأ التناسب بين البدل المادي الذي تدفعه الشركة العضو مع القيمة المادية العادلة للخدمات التي يؤديها أخصائي الرعاية الصحية، (5) توثيق التفاعلات بين الشركات وأخصائيّي الرعاية الصحية محددين هدف العلاقة وشروطها بطريقة مسبقة ومكتوبة.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى المادة 20 من قانون الآداب الطبية التي تحظر على الطبيب الحصول على “الجعالات لقاء الفحوصات المخبرية والصورة الشعاعية أو لقاء وصف أدوية معينة أو استعمال أجهزة طبية معينة” وقبولها “من المستشفيات أو دور الصحة لقاء إدخال مريض إليها”. هذه المادة، وإن تقاطعت مع نصّ الاقتراح، إلّا انّها تبقى أضيق منه. ذلك أنّها تربط الحظر بهدف العجالة المباشر، فيما الاقتراح أوسع لأنّه يمنع تقاضي الأرباح (على أنواعها) من دون أن يشترط سببًا معيّنًا.

طبعا، في الممارسة، الموضوع أكثر تعقيدًا وليس بهذا الوضوح. فقلما تنفق الشركات مبلغًا ماديا يهدف مباشرةً إلى فرض خيار طبي على الطبيب. لكن تم تسجيل ممارسات عدة تتمثل في إنفاق صانعي ومستوردي ومروّجي الأدوية مبالغ كبيرة من موازناتهم للترويج لبضائعهم عن طريق الهدايا والوجبات المجانية وإعانات السفر والتعاليم التي ترعاها والندوات.

وقد أدّت الدراسات في مختلف الدول إلى استخلاص ما يلي:

  1. وجود علاقة إيجابية قوية بين هدايا شركات الأدوية (ككل) وسلوك الأطباء في وصف الأدوية، حيث أنّ الأطباء الذين يتلقون هدايا من شركات الأدوية يقومون بتوصيات طبية أكثر تكلفة وأقل جودة.
  2. تظهر دراسة أخرى أنّ العمولات النقدية لوصف علامة تجارية معينة، والهدايا ذات القيمة الكبيرة، والعينات الطبية المجانية والمال لتجربة الأدوية لها تأثير أكبر من نفقات الإجازة وتمويل التعليم الطبي المستمر والأتعاب والوجبات الفخمة ووسائل الترفيه.
  3. 3.      قبول الهدايا من مصنّعي الأدوية يضعف من ثقة المريض بطبيبه ومن استعداده الالتزام بتوصياته الطبية.

وإن اعتبر عدد مهم من الأطباء أنّ هذه الممارسات عادية، إلّا أنّ تأثيرها السلبي على كل من المرضى ومهن الرعاية الصحية دفع عددا من الدول إلى تطوير تشريعاتها لفرض رقابة وشفافية عليها لجهة الأطباء[5]، كما دفع باتجاه وضع إطار للتعامل مع الشركات سواء من باب  القوانين الضريبية[6]  أو من باب المسؤولية الجزائية[7].

انطلاقًا من كل ما سبق، يشكّل الاقتراح خطوة إيجابية لجهة تنظيم العلاقة بين شركات مصنعي الأدوية ومستورديها وتجارها ومروّجيها من جهة، والمهنيين الطبيين من جهة أخرى. إلّا أنّه، في الشكل المطروح، يحمل الكثير من الملاحظات، أهمّها التركيز على معاقبة المهني (الفرد) مقابل إعفاء المصنّع والمستورد والمروّج (الشركات). ومن أبرز هذه الملاحظات، الآتية:  

1)    الجرم الأساسي هو جرم قبول المنفعة غير المشروعة وعرضها ليس جرما بحد ذاته

تعرّف المادة الأولى من الاقتراح “المشارك” على أنّه “كل شخص يشارك في عمل محظور بصفته فاعلا أو شريكا أو متدخّلا أو محرّضا”، و”كل شخص وصل إلى علمه وقوع العمل المحظور ولم يقدم على إعلام الجهات المعنية”. ونلحظ تاليا أن الفعل محلّ المعاقبة هو حصول المهني على منافع غير مشروعة، وليس عرض هذه المنافع أو تقديمها. وعليه، لا تكون ملاحقة الشركة العارضة أو المانحة ممكنة من دون ملاحقة المهني (الطبيب أو المستشفى) الذي استفاد فعليّا من هذا العرض. ومن شأن هذا الأمر أن يصعّب من عملية الملاحقة حيث لا يكون من المُمكن ملاحقة الشّركة العارضة على خلفيّة عرضها منافع لم يثبت قبولها من قبل أيّ مهني. بمعنى أن الشركات لا تجد أي رادع لتقديم العروض: فإما يتمّ رفضها وفي هذه الحالة لا يرشح العرض عن أي جرم جزائي، وإما يتم قبولها وفي هذه الحالة يكون من مصلحة قابل المنفعة التكتم بشأنها والتستر عليها أكثر من الشركة العارضة، كونه يصبح عرضة لعقوبة أكبر من العقوبة التي تتعرض لها هذه الأخيرة بصفة متدخّلة.  

صعوبة الملاحقة هذه هي التي دفعت المشرّع الفرنسي إلى إقرار نصّين يجرّم الأول فعل الحصول من جهة أولى[8]، فيما يجرّم الثاني فعل العرض من جهة ثانية[9].

ونلحظ هنا أن القانون الفرنسي ذهب إلى وضع عقوبة أقسى على عرض المنافع غير المشروعة أو الوعد بها من العقوبة التي يخضع لها المهني الذي قبل المنفعة غير المشروعة، حيث تصل الأولى إلى ضعفي الثانية (سنتين حبس وغرامة 150 ألف يورو مقابل سنة حبس و75 ألف يورو).  

2)    منع جزائي مطلق بدل طرح تدابير التدرّج في السلوك

رغم أن الاقتراح يحاول تعريف الأرباح غير المشروعة على أنّها كل ما هو خارج إطار أتعابه المهنية العادية  (من أي بائع للأدوية أو المعدّات أو الأدوات أو خدمات أو من أي مقدم خدمة أو موزّع أو مروّج)، ولو لم تؤدّ إلى إفقار المريض، لكن يبقى العنصر الجرمي المتمثل ب “تقاضي بدل خارج عن أتعابه المهنية العادية” من دون تعريف دقيق، مما يمس بمبدأ شرعية المخالفات والعقوبات. فإذا أخذنا مثلا الإعانة المادية لمناسبة مؤتمر خارجي، كيف يتم تحديد إذا كان الهدف علميًا بحت، أو ترويجيا؟ وأيهما الممنوع بحسب الاقتراح؟

وما يفاقم من عدم وضوح النص العقابي هو تناقضه مع السلوك الواقعي، حيث يعتبر الأطباء أنّ قبول هذه الهدايا “الرمزية” يشكل سلوكًا عاديا، لا يؤثر على عملهم. وعليه، ارتأت بعض التشريعات المقارنة تماشيا مع الواقع، وتطبيقًا لمبدأ الشفافية، اعتماد سلسلة تدابير تضمن الشفافية، أبرزها فرض سجلّ لكلّ مهني يصرّح فيه عن كامل ما يتلقاه[10]، كما وحددت القيمة الرمزية قانونًا[11]، ما يسمح من جهة بفرض آليّات مراقبة وتفعيلها ومن جهة ثانية بتحديد حدود المشروع وغير المشروع للمهني و”العارض” من دون لبس.

للاطّلاع على اقتراح القانون، إضغطوا هنا


[1] المادة الأولى

[2] المادة الأولى

[3] المادة الأولى

[4] المادة الثالثة

[5] نظام الخدمة الصحية الوطنية لعام 2015 الصادر عن وزارة الصحة (The National Health Service (General Medical Services Contracts) Regulations 2015)

[6] مثلًا، قررت  المحكمة العليا في الهند  أنه لا يحق لشركات الأدوية بالإعفاء الضريبي على النفقات المرتبطة بتقديم الهدايا المجانية للأطباء للترويج للأدوية الخاصة بهم.

[7] تعديلات قانون الصحة العامة الفرنسي، عبر استحداث قانون “محاربة الهدايا” (Loi Anti-cadeaux 2020)

[8]Article L1453-3: “Est interdit le fait, pour les personnes mentionnées à l’article L. 1453-4, de recevoir des avantages en espèces ou en nature, sous quelque forme que ce soit, d’une façon directe ou indirecte, proposés ou procurés par les personnes mentionnées à l’article L. 1453-5”.

[9] Article L1453-5: “Le fait d’offrir ou de promettre des avantages en espèces ou en nature, sous quelque forme que ce soit, d’une façon directe ou indirecte, à des personnes mentionnées à l’article L. 1453-4 est interdit à toute personne assurant des prestations de santé, produisant ou commercialisant des produits faisant l’objet d’une prise en charge par les régimes obligatoires de sécurité sociale ou des produits mentionnés au II de l’article L. 5311-1 (…)”.

[10] المملكة المتحدة البريطانية : نظام الخدمة الصحية الوطنية لعام 2015 الصادر عن وزارة الصحة، البند 93

[11] فرنسا: Arrêté du 7 août 2020 fixant les montants en deçà desquels les avantages en nature ou en espèces sont considérés comme d’une valeur négligeable en application du 4° de l’article L.1453-6 du code de la Santé publique.

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، إقتراح قانون ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني