مفقودو فض اعتصام القيادة في الخرطوم: هل من أمل؟


2019-12-09    |   

مفقودو فض اعتصام القيادة في الخرطوم: هل من أمل؟

ما زالت دفاتر الحقوقيين السودانيين مفتوحة بلا إجابة عن سر وحقيقة إختفاء الشاعر الشاب أبو ذر الغفاري الذي دهمت منزله في سنوات حكم البشير الأولى قوة مسلحة وأخذته إلى وجهة مجهولة لم يعد منها حتى اليوم ولم يعلم عن تلك الوجهة ولا الجهة أي شيء. وفيما ظل الاستفهام قائماً، بدأت رحلة جديدة للبحث عن مفقودين جدد. فعقب فض اعتصام السودانيين أمام القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو، كانت النتيجة أنه مات من مات وهم أكثر من مائة ونجا من نجا. لكن مع مرور الأيام، برزت أسئلة عن مصير أشخاص لم يعثر لهم على أثر الواقعة البشعة، رغم البحث الكثيف ومراجعة سجلات الشرطة ومكاتب الأجهزة الأمنية وحتى مشارح المستشفيات.

في الخرطوم، أطلقت في الأسبوع الرابع من يوليو حملة برعاية تجمع المهنين السودانيين الذي التقط حراك الشارع الثوري منذ ديسمبر. هدف تلك الحملة البحث عن أولئك المفقودين والكشف عن مصائرهم وقبلها، التحقق من عددهم. فقد ظلت الأرقام متضاربة أو تكاد تكون غير معلومة تتراوح ما بين الثلاثين والسبعين شخصاُ.

ومع بداية الحملة الإعلامية للبحث عن المفقودين، تواترت أنباء عن جثث محفوظة بثلاجات إدارة المباحث الجنائية التابعة للشرطة. لكن أهالي وأصدقاء بعض المفقودين أكدوا إنها صور لجثث أشخاص مجهولي الهوية، تم دفنهم بعدما لم يتعرف عليهم أحد ولم يبلغ عن مفقودين بنفس صفاتهم. وبذلك، ضاع الخيط الوحيد الذي ظهر. وتعود الحملة لنقطة الصفر وتتناسل الأسئلة عن وضعهم القانوني وكيف يتم التعامل معه في الراهن ومستقبلاً أيضاً.

في الأسبوع الأول من أكتوبر، تأكد بفحص الحمض النووي إن جثة ترقد بمشرحة مستشفى أم درمان التعليمي تعود للمفقود قصي حمدتو سليمان. نفس الشخص الذي عاود أهله وأصدقاؤه ذات المشرح لمرات ومرات ولم يجدوا له أثراً على الإطلاق. وبعدها بيومين فقط، ظهر جثمان المفقود حسن عثمان أبو شنب بنفس السيناريو: بحث مستمر من الأهل والأصدقاء ومرور بذات الأماكن، ونتيجة فحص حمض نووي تؤكد أنه بات شهيداً.

جثة قصي وجدت وفق تقرير الطب الشرعي يحملها النيل جنوب مدينة الخرطوم بحري عند ضاحية “الإزيرقاب” مكبلة اليدين والقدمين ومربوطة بحجارة بناء إسمنتية ومصاب بطلقتين واحدة في الرأس والأخرى في الصدر وكلاهما من مسافة قريبة جداً، وفق حديث المحامي الموكل عن أسر بعض المفقودين عثمان البصري.

أما الشهيد حسن، فتلقى طلقتين في الصدر أودتا بحياته كما أورد التقرير. انتشلت جثته أيضاً من النيل بعد بضعة أيام من فض الإعتصام في الثالث من يونيو الموافق التاسع والعشرين من رمضان. ورغم العثور على الجثث من وقت مبكر ووجود بلاغ مدون بقسم شرطة الدروشاب محل دائرة اختصاص الحادثة بحكم تبعية منطقة الإزيرقاب لها، لكن لم يتم في أي وقت تقديم أي إفادة بخصوص صلة الجثمانين بفض إعتصام القيادة العامة في الخرطوم، التي تبعد نحو كيلومترين من مكان ظهور الجثث المغرقة.

تسلمت لجنة برئاسة المحامي المعروف نبيل أديب في نهاية أكتوبر مهمة التحقيق في قضية فض اعتصام القيادة، وأعلنت نيّتها البدء في سماع شهادات الشهود. لكن بعض أسر الشهداء تتحفظ على قيادة أديب لتلك اللجنة، بينما تواصل أسر المفقودين ورفاقهم التظاهر للمطالبة بالوصول لخيط يدل على مصائر أحبابهم. فانطلقت في الأول من ديسمبر مظاهرة ضخمة وصلت إلى مكتب النائب العام ومنه إلى القصر الجمهوري تجدد التمسك بضرورة الكشف عن مصائر المفقودين وسط هتافات غورت وسط الخرطوم تقول “يا مجرم ما في حصانة، يا المشنقة يا الزنزانة”.

في الثلاثين من أغسطس تزامناً مع اليوم العالمي للمفقودين، زحف الآلاف على شوارع وسط العاصمة السودانية الخرطوم في مظاهرات ضخمة وفاءً للمفقودين وللضغط على السلطات للتحرك للكشف عن مصائرهم. لكن لم يحدث شيئ. غير أن أمراً غريباً تكرر في مناطق مختلفة من الخرطوم، حيث ظهر أشخاص فاقدو التركيز وبعيون زائغة ومظهر رث يتحدثون بهمهمات عن فض الإعتصام أو ينزعجون بشدة لدرجة الهلع حال ورود ذكر اعتصام القيادة. فبدأ المواطنون بتصويرهم ونشر صورهم في وسائل التواصل الإجتماعي ليتأكد معارفهم وأهاليهم فيما إذا كان أي منهم ممن يجري البحث عنهم. وكانت آخرهم إحدى بائعات الطعام الشابة ( آمال أ) التي خرجت في يوم عادي وتركت أطفالها مع والدتها لتذهب لمقر الإعتصام حيث تصنع الطعام هناك. لكنها لم تعد إلا في نهاية سبتمر وهي شبه فاقدة للذاكرة والنطق أيضاً وفي حالة نفسية وصحية سيئة للغاية، ما دعا لإيداعها في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بعدما عجزت عن التعرف على أطفالها.

وتقول المعالجة النفسية سليمى إسحاق ل “المفكرة” إنها تابعت حالات لناجين من فض اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني ووجدت أن الجامع بينهم هو تعرضهم للعزل القاسي والتعذيب النفسي، مؤكدة إنهم في غالبهم تعرضوا لإنتكاسة نفسية جديدة بعد الكشف عن مصير المفقود قصي حمدتو وكذلك حسن عثمان أبو شنب .

ويقول المحامي عثمان البصري إن إحدى المشاكل التي تواجه قضية المفقودين من مجزرة فض اعتصام القيادة العامة هي أن القانون السوداني لا يوجد فيه أي إشارة للمفقودين بنص واضح ومخصص، بل لا يمكن التعامل مع وضع المفقود إلا وفق اعتبارهم كمخفيين قسرياً وبالتالي إصدار ما يعرف ب “نشرة مفقود”. لكن يرى المحامي البصري إن المفقودين يمكن إدراج وضعهم تحت المادة (186) من القانون الجنائي السوداني الفقرة (ن) المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية وتنص على (القبض على شخص أو أشخاص بواسطة الحكومة أو بمعاونتها أو بواسطة طرف ثالث بموافقة الحكومة وإخفائه في جهة غير معلومة ومن بعد ذلك إنكار الجريمة، مشيراً إلى اعتراف السلطة الحاكمة وقتها “المجلس العسكري الإنتقالي” بأن فض الإعتصام السلمي للمواطنين كان بواسطة قوات نظامية. وهو ما شاهده كل العالم عبر شاشات التلفزيونات.

تلقت المفوضية القومية لحقوق الإنسان في الأسبوع الأخير من يوليو مذكرة من مجموعة محامين موكلين عن أهالي أكثر من (16) من المفقودين تطالب بالكشف عن مصيرهم , غير أن عدد المفقودين ظل متأرجحاً طوال الوقت بسبب ظهور بعضهم , أو الكشف عن مختفين جدد لم يتم التبليغ عن فقدانهم من قبل.

ويشير البصري إلى أن قانون الأحوال الشخصية السوداني يعتبر المفقود بحكم الميت بعد أربع سنوات من اختفائه، إذا أختفى في منطقة عادية وسنتين في حالة غيابه في منطقة يغلب عليها الهلاك وفق نص المشرع. لكن يتجاهل الأمر تماماً في القانون الجنائي، بمعنى أنه يتعامل مع المختفي فقط في أغراض الميراث والتطليق الغيابي.

وتوسعت الحملة للبحث عنهم حتى باتت شبه أسبوعية في شكل مظاهرات عارمة بل ومضت في ترتيب جهودها لدرجة تخصيص دار بوسط العاصمة وفي قلب مركزها كملتقى لأسر المفقودين للتفاكر في شأنهم وتخطيط الحراك. ويلفت المحامي عن أسر بعض المفقودين عثمان البصري إلى الاتجاه لتحويل البلاغ بخصوص المختفين للمادة (186\ ن ) بغرض مواجهة المتهمين بإرتكابها حال إثباتها لعقوبة الإعدام وفق نص عقوبة جرائم الحرب.

وفق رفاق وأقارب لأحد الشهداء، وجدت في جيب سرواله بعد بدء تحلل جثته في مياه النهر ورقة تبينت منها كلمة ” فض الاعتصام”، بينما ظهرت أربع سيدات من بائعات الطعام المختفيات لحظة فض الإعتصام. لكن حالتهن الصحية والنفسية لا تسمح بزيارتهن في المستشفى بحسب إفادة الأطباء المعالجين. وحتى الآن لم يظهر بصيص أمل في عودة أخريات وآخرين فقد أثرهم في الثالث من يونيو، ومع طول أمد الأحداث لأكثر من ستة أشهر، هل تراهم يعودون؟

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، السودان



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني