معمل الزوق الحراري: “الموت” مقابل 60 دقيقة كهرباء


2022-09-26    |   

معمل الزوق الحراري: “الموت” مقابل 60 دقيقة كهرباء

نفثت دواخين معمل الزوق الحراري مؤخراً دخاناً أسود أعاد طرح إشكالية المعمل، والجدوى من إعادة تشغيله. فهو يبث سموماً تزداد قدرتها على القتل في حين أنّ المنفعة منه ما فتئت تتراجع. بعد الذعر الذي أثاره الدخان الأسود، وإذ أكدت مؤسسة كهرباء لبنان أنّها لن تعيد تشغيله إلّا بعد موافقة مجلس الوزراء، فإنها عادت على غفلة من الجميع لتشغّله وإن جهدت لإبقاء الدخان أبيض اللون، علماً أنّ هذا الدخان كما الدخان الذي لا لون له لا يقلّ قدرة على القتل، وبخاصة في ظل تواجد المعمل في قلب مجمّع سكني. فكأنّما المطلوب هو تجنّب إثارة الذعر بمعزل عمّا قد يتسبّب به المعمل من أضرار بيئية جسيمة وقاتلة.  

المفكرة حاولت هنا رسم الصورة كاملة عن شعب بات عالقاً بين سموم معامل الكهرباء وسموم موتيرات الأحياء (المحرر).

منذ أكثر من خمسة عقود ابتُليَ سكان منطقة زوق مكايل وذوق مصبح بمعمل لإنتاج الطاقة الكهربائية، تم تشييده في العام 1956 في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون. لكن المعمل أتى على سكان المنطقة بالعتمة والمرض بدلاً من النور والطاقة. ومنذ ذلك الحين بات سكان المنطقة المحيطة بالمعمل يعيشون في سحابة غبار أسود يملأ بيوتهم وشرفاتهم وسياراتهم ويقضي على مزروعاتهم. وإلى اليوم لا تزال اللعنة مستمرة، تتوارثها أجيال السكان الذين تنتشر بينهم الأمراض السرطانية وأمراض الجهاز التنفّسي، فيدفعون من صحتهم وهناء عيشهم ثمن معمل الجدوى منه الآن صفر. 

ولعنة المعمل اشتدّت في العام 1983 عندما عمدت الدولة إلى استعمال مادة “الفيول” لتشغيله بدلاً من البخار بحسب رئيس البلدية الحالي، إلياس بعينو. ومنذ ذلك الوقت وأجيال سكان تلك المنطقة يناشدون المعنيين لإيجاد حلول ولكن من دون جدوى. ونظّم السكان على مرّ السنين تظاهرات وعقدوا اجتماعات ومؤتمرات لا تعدّ ولا تحصى ومنها مؤتمر عقده رئيس البلدية السابق نهاد نوفل في العام 2016 لمناقشة التلوث الناتج عن معمل الزوق، وحضره يومها جميع المعنيين بالملف ومختلف الجهات السياسية والدينية في المنطقة. عرض خلاله نوفل جميع الإصلاحات المستعجلة الواجب تنفيذها أبرزها تركيب فلاتر لتنقية الانبعاثات، إلّا أنّ معظمها بقي كلاماً في الهواء.

وحلّت الأزمة الاقتصادية الحالية، وباتت الحكومة عاجزة عن استيراد الفيول، فأقفل المعمل قسرياً” في 23 آب 2021 بسبب عدم توفر نوعية الفيول المطابق من نوع Grade A. حينها فقط ارتاح سكان المنطقة من تنشق الغبار الأسود، إلاّ ان هذه النعمة لم تدم أكثر من سنة. فما إن عاد المعنيون للتفكير بحلول لأزمة الكهرباء عادت المأساة إلى سكان المنطقة. وفي 25 آب 2022، اتخذ قرار بإعادة تشغيل المعمل وذلك “من أجل الاستمرار في تأمين التغذية الكهربائية بحدودها الدنيا، للمرافق الأساسية الحيوية في لبنان (مطار، مرفأ، مضخات مياه، صرف صحي، سجن رومية، الإدارات والمرافق الأساسية في الدولة…)”، بحسب ما جاء في بيان مؤسسة كهرباء لبنان، كتدبير “استثنائي يقضي باستخدام كمية من مادة الفيول أويل (Grade B) من موقعي الذوق والجية”، في إشارة إلى المعملين الجديدين اللذين أنشئا بـ “محركات عكسية” في الموقعين وعادا وأوقفا أيضاً بسبب عدم مطابقة الفيول فيهما للمواصفات التشغيلية.

وبقرار إعادة التشغيل، وضمن مسار سياسة الترقيع والتلكؤ عن وضع حلول جذرية لأزمة الكهرباء في لبنان، ضربت الحكومة مجدداً أمن سكان المنطقة الصحي والبيئي والمعيشي عرض الحائط، وذلك في سبيل إنتاج كمية ضئيلة من كهرباء لن تغذي المنطقة بالتيار الكهربائي سوى بساعة أو ساعتين في اليوم كحدّ أقصى. فرغم الضريبة الباهظة التي يتكبدها أهل المنطقة جراء وجود المعمل ضمن نطاق سكنهم، لم تمنح المنطقة أي امتيازات تذكر على صعيد ساعات التغذية، بل تُعامل مثلها مثل بقية المناطق.

ولم تمرّ عشرة أيام على إعادة تشغيل المعمل حتى نفثت دواخينه سحابة هائلة من الدخان الأسود غطّت سماء المنطقة المحيطة، وأدّت بحسب تعبير إحدى الساكنات في المنطقة إلى “تساقط الغبار الأسود علينا مثل البوشار”، ما استدعى إيقافه فوراً في حينها. وبررت المؤسسة سبب الدخان بأنه ناتج عن “خضوع الشبكة للانقطاع الكلي نتيجة عدم ثباتها”، وقالت إنّها ستتريّث “في معاودة وضع المجموعة الإنتاجية في الخدمة مجدداً” لحين أن يتم إيداعها الموافقة الخطية من قبل مجلس الوزراء ووزير الطاقة بناءً لطلب المدعي العام البيئي في جبل لبنان، بحسب ما جاء في بيان مؤسسة كهرباء لبنان بعد أن حازت إعادة تشغيله أساساً على موافقة رئيس مجلس الوزراء، ووزير الطاقة والمياه.

إلّا أنّ “المفكرة” رصدت استمرار تصاعد الدخان الأبيض وبعد التقصّي تبيّن أنّه أعيد تشغيله من دون انتظار موافقة الحكومة. وبحسب المعلومات التي توفّرت لـ “المفكرة” فقد أعيد تشغيل المعمل بأقل من طاقته القصوى ما يعني أنّه مستمر في بث سمومه.

 واللافت أنّ مؤسسة كهرباء لبنان في بيانها الذي تبرر فيه سبب الدخان بأنه تقني، تشير إلى أنه غير مضرّ، متناسيةً عقوداً من التلوّث جعلت منطقة جونيه تحتلّ المرتبة الخامسة عربياً والـ 23 عالمياً كأكثر تلوثاً من ناحية الهواء والسبب هو معمل الزوق.

إضافة إلى كلّ ذلك فإنّ كلفة تشغيل معمل الزوق الحراري والفيول الذي يحتاجه لذلك، مرتفعة جداً مقارنةً بكمية الإنتاج نظراً لأنّه معمل قديم، ما يشكّل هدراً للمال العام. وبالتالي فإنّ جميع المعطيات تصبّ في خلاصة واحدة وهي ضرورة إقفال المعمل نهائياً وهو ما يدعو إليه مدير العمليات نفسه في الشركة المشغّلة لمعملي الذوق والجية (MEP) يحيى مولود.

قرار إعادة تشغيل معمل الزوق

على الرغم من أنّ انقطاع التيار الكهربائي عن معظم المناطق اللبنانية هو معطى ثابت، إلّا أنّ أسباب وذرائع الانقطاع تختلف من مرحلة إلى أخرى، ومؤخراً أي خلال شهري آب وأيلول من العام الجاري، كانت الذريعة بحسب مؤسسة كهرباء لبنان هي عدم توريد شحنة من مادة الغاز أويل لصالح مؤسسة كهرباء لبنان بواسطة وزارة الطاقة والمياه – المديرية العامة للنفط بموجب اتفاقية التبادل العراقية، ونفاد كامل خزين المؤسسة من مادتي الغاز أويل والفيول أويل (Grade A).

وفي بيانها الأخير أوضحت مؤسسة كهرباء لبنان أنّ “نفاد كامل خزين المؤسسة من مادتي الغاز أويل والفيول أويل (Grade A)، أدى إلى اتخاذ مجلس إدارة المؤسسة في قراره رقم 301-20/2022 تاريخ 11/08/2022 تدبيراً استثنائياً يقضي باستخدام كمية من مادة الفيول أويل (Grade B) من موقعي الذوق والجية، بدلاً من مادة الفيول أويل (Grade A) في معملي الذوق والجية الحراريين، بعد أخذ موافقة كل من دولة رئيس مجلس الوزراء ومعالي وزير الطاقة والمياه على هذا التدبير، وذلك تفادياً للوقوع في المحظور في البلاد، وتجنباً للعتمة الشاملة في لبنان، وما يترتب عن ذلك من تداعيات اقتصادية، اجتماعية وصحية على البلاد”.

في لبنان أربعة معامل رئيسية، عدا عن المعامل الصغيرة، لإنتاج الطاقة في لبنان هي: معملا دير عمار والزهراني المصممان للعمل على الغاز لكن تقوم المؤسسة الكهرباء بتشغيلهما أحياناً باستخدام مادة “الديزل”، وهما اليوم متوقّفان عن العمل بسبب نقص الفيول.

والمعملان الآخران هما الجية والزوق “الحراريان”، وهما معملان قديمان يتمّ تشغيلهما بفيول من نوع (Grade A)، وقد أعلنت مؤسسة كهرباء لبنان توقف الجية عن العمل في 15 أيلول الجاري بسبب اقتحام عدد من الشبان للمعمل. وتوقف معمل الزوق قسرياً في 23 آب 2021 بسبب عدم توفر نوعية الفيول المطابق من نوع Grade A قبل إعادة تشغيله مؤخراً وإقفاله مجدداً في 6 أيلول الجاري بسبب سحابة الدخان، علماً أنّ المعملين كانا يعملان بحدودهما الدنيا بحسب ما جاء في بيان المؤسسة. 

وفي العام 2016 تم إنشاء معملين جديدين في الجية والزوق بـ “محركات عكسية”، يعملان بفيول من نوع Grade B وهما أيضاً اليوم متوقفان عن العمل لأسباب أهمها عدم مطابقة الفيول المتوفّر للمواصفات التشغيلية ومصدره العراق. وهو ما يؤكده يحيى مولود، مدير العمليات في الشركة المشغّلة لمعملي الذوق والجية (MEP) الجديدين وتنفيه مؤسسة كهرباء لبنان في بيانها في 8 أيلول.

مطابق أم غير مطابق: معمل قديم لا يجب تشغيله

يوضح مولود في اتصالٍ مع “المفكرة” أنّ توقّف المعملين المذكورين عن العمل يعود أولاً إلى انتهاء عقد التشغيل وعدم دفع الوزارة المستحقات المالية المتوجبة عليها، وثانياً إلى عدم تطابق مادة الفيول (Grade B) المقدمة من العراق مع المواصفات التشغيلية الخاصة بماكينات المعملين والتي وصلت إلى لبنان مع بداية العام 2022، والتي رفضت حينها الشركة المشغلة استعمالها. ويتابع مولود أنّه وبدلاً من إعادة الفيول في حينها إلى الدولة المصدرة أو استبداله بمادة فيول مطابقة للمواصفات تمّ الإبقاء عليه. ويضيف أنّه ومع اشتداد الأزمة خلال شهري آب وأيلول، قرّرت وزارة الطاقة استعمال هذا الفيول لإعادة تشغيل معملي الجية والزوق الحراريين.

أما مؤسسة كهرباء لبنان فتشير في بيانها في 8 أيلول إلى أنّ “أسباب توقف معملي الجية والذوق “المحركات العكسية”، عن إنتاج الطاقة الكهربائية من كلي المعملين يعود لأسباب إدارية خاصة بالمشغّل ولحاجته إلى العملات الصعبة (Fresh Dollars)، وعدم تقاضيه إياها بما يكفي للاستمرار بعمليات التشغيل”. وتضيف في بيانها نفسه أنّه “من الناحية الفنية، جودة مادة الفيول أويل (Grade B) أفضل من جودة مادة الفيول أويل (Grade A)، وجميع الكميات المتوفرة من هذه المادة، مطابقة للمواصفات التعاقدية التي أعدت من قبل كل من مشغل معملي المحركات العكسية في الذوق والجية، تحالف شركات MEP/OEG/ARKAY ENERGY، والاستشاري العالمي شركة كهرباء فرنسا EDF، ومؤسسة كهرباء لبنان وفق محضر الاجتماع الموقع بهذا الخصوص بتاريخ 08/07/2020”. وأضافت أنّ سبب انبعاث الدخان هو فني محض نتيجة الانقطاعات المتكررة جراء عدم ثبات الشبكة.

وعلمت “المفكرة” أن ما تمّ تشغيله في المعمل الحراري مؤخراً، هو المجموعة رقم واحد فقط، وهي المجموعة التي سبق واستبدلت حراقاتها القديمة بأخرى حديثة، وأنّ الفيول المستخدم مطابق كون نسبة الكبريت في الفيول (Grade B) المستعمل هي أقل من 1% كما تنص الشروط.

وبعيداً عن سجال “مطابق” أم “غير مطابق”، يؤكد مولود أنّ سبب الدخان الأسود الذي انبعث فور تشغيل المعمل لا يعود للفيول المستخدم، إنّما لانتهاء صلاحية تشغيل المعمل وقدمه “عادة عمر المعامل بتكون حد أقصى 30 سنة، هيدا المعمل عمره صار 50 سنة، يعني ما بقى لازم يشتغل”.

من صفحة الصحافية رنيم بوخزام على تويتر وتعود للعام 2018

عقود من التلوث

في بيانها في 8 أيلول، قالت مؤسسة كهرباء لبنان إنّ الدخان الأسود الذي نبثه المعمل مؤخراً غير مضرّ ولكن الخبراء البيئيين يؤكدون أنّ أي دخان ينبعث من معمل الزوق هو ملوّث ومضرّ لأنه ناتج عن احتراق الوقود الأحفوري الذي يصدر عنه انبعاث غاز ثاني أوكسيد النتيروجين والنيتروجين NO2 وأوكسيد النيتروجين NOx، اللذين يعتبران من أخطر الانبعاثات على الصحة وخصوصاً الجهاز التنفسي والرئتين ويساهمان بانتشار الأمراض المزمنة.    

وبحسب تقرير لمنظمةغرينبيس نشر في العام 2018، يتبيّن أنّ جونية التي يقع المعمل في نطاقها هي المدينة الخامسة في المنطقة العربية والـ 23 عالمياً الأكثر تلوثاً بثاني أوكسيد النيتروجين وأوكسيد النيتروجين، الناتجين عن إحراق الوقود أو النفط أو الغاز، ومصدرهما بشكل خاص معمل الزوق. وثاني أوكسيد النيتروجين هو سبب مباشر لزيادة الوفيات في العالم إذا ما تمّ التعرّض له لفترات طويلة.

وحلّلت “غرينبيس” بيانات حديثة للقمر الصناعي  “سينتينل 5 ب” التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، الذي يقوم برصد البؤر الساخنة لمراكز تلوث الهواء في العام.

وتؤكد النائب والخبيرة البيئية نجاة صليبا في اتصال مع “المفكرة” أنّه وبناء على دراسات سابقة أجرتها في العام 2017، يتبيّن ضرر الدخان المتصاعد من المعمل سواء عند إعادة تشغيله مؤخراً أو في السابق حين كان يخرج منه دخان أبيض أو لا لون له. وتشير صليبا إلى أنّه يبدو أنّ وزارة الطاقة والحكومة مجتمعة يريدان إعادة تشغيل المعمل بالقوّة، غير عابئين بنصائح المهندسين وخبراء البيئة.

وبالفعل يتم التباحث اليوم مجدداً في إمكانية إعادة تشغيل المعمل على الرغم من أنّ مؤسسة كهرباء لبنان أعلنت في 7 أيلول الجاري أنّها غير قادر على الالتزام بعدم انبعاث الدخان الأسود منه ورغم أنّ رئيس المعمل، سعادة حداد، أكّد أيضاً خلال إدلائه بإفادته أمام المدعي العام البيئي في جبل لبنان أنّ “هناك إمكانية حصول انبعاثات دخان أسود في بعض الحالات المحددة”.

وكانت “المفكرة” قد تواصلت مع سعادة الذي اعتذر عن الحديث لعدم وجود تصريح من مدير عام مؤسسة كهرباء لبنان، وقد تعذّر الاتصال بمدير المؤسسة، كمال حايك.

صحة السكان تباع بساعة كهرباء

وكان عدد من أطباء مستشفى سيدة لبنان قد أجروا دراسة استمرت من العام 1991 لغاية العام 2014، رصدوا خلالها أنواع الأمراض التي يصاب بها سكان المنطقة، ونسب تزايدها. وفي اتصال مع “المفكرة” يقول د. بول مخلوف، وهو عضو في اللجنة التي أعدّت الدراسة، إنّ سكان المنطقة من صغار السن يعانون من أمراض “حساسية الجلد” والحروقات الجلدية، إضافة إلى الربو والحساسية الأنفية وأمراض الجهاز التنفسي.

أما كبار السن فيعانون، إضافة إلى الحساسية، من الأمراض السرطانية وأكثرها في الجهاز التنفّسي وذلك بمعدل ارتفاع سنوي يتراوح بين 1.5 و3%، كذلك لوحظ أنّ هناك إصابات عدة بمرض الانسداد الرئوي لأفراد غير مدخنين “عادة هذا المرض يصيب المدخّنين وهذا يدلّ على أنّ الإصابات هي بسبب تنشق الغبار الأسود”.

المعمل يحتجز السكان في منازلهم على العتمة

يروي سكان المنطقة لـ”المفكرة القانونية” معاناتهم اليومية مع الدخان المنبعث من المعمل والذي ألحق الضرر بهم صحياً وبيئياً وحتى اقتصادياً، فهم على الرغم من ذلك مضطرون للبقاء حيث أرزاقهم ومنازلهم مستسلمين للأمر الواقع.

وتقول دونا التي تسكن في منطقة أدونيس في حي مواجه للمعمل، أنّ معاناتها مع الدخان المنبعث تاريخية، فسكان المنطقة يتنشقون الغبار بدلاً من الهواء والأوكسيجين، والغبار الأسود يمنعهم من فتح نوافذهم المقابلة للمعمل أو الجلوس على الشرفات، بل يضطرون للبقاء في الداخل وإقفال النوافذ “ما فيكي تنشري غسيل بيصير كلّو أسود، نحن ما فينا نفتح شباك بدنا نضل قاعدين جوا وفطسانين”، وأثر الغبار يظهر جلياً على المزروعات البيتية كالورد “يعني أي شتلة بتحطّيها عالبرندا ما بتعيش كثير، يومين وبتموت”.

أما إليسا ابنة الـ 18 عاماً التي تقطن بالقرب من المعمل، فتقول إنّها ولدت وترعرعت في منزل يطلّ على “داخونَين” بدلاً من أن يطل على البحر، أمضت سنواتها برفقة “الشحتار الأسود”، ولا يقتصر أثر المعمل على الغبار بل يتعداه إلى ضجيج الماكينات وروائح الفيول المنبعثة، “نحن تعوّدنا بس لي بيجي لعنّا بيقول كيف عايشين بالريحة”، وتضيف أنّه “للمفارقة فإنّه رغم كل هذه المعاناة، حتى الشارع الذي تقع فيه شركة الكهرباء معتم كذلك المعمل ذاته، يعني الماكينات شغالة وإزعاج كل الوقت بس كل شي معتم”. 

ويعاني كريم، الذي يقطن بالقرب من المعمل أيضاً، من سعال دائ وحساسية في الصدر بسبب تنشقه الدائم للغبار، ويقول لـ “المفكرة” “ما فيكي تقعدي برا من الريحة وجوا ما فيكي لأن ما في تكييف نتيجة انقطاع الكهربا”، ويضيف أنّ جميع سيارات المنطقة تتراكم عليها طبقات الغبار الأسود، ما يضطر أصحابها إلى إصلاح هياكلها كل سنة تقريباً، الحال ذاته ينطبق على ألواح الزجاج والألمنيوم. ويعتبر أنّ سكان المنطقة يتعرّضون لظلم مضاعف فهم رغم كل ذلك لا يتمتّعون بأي امتيازات لجهة عدد ساعات التغذية.

أما لبيب الذي لطالما اعتاش وعائلته من زراعة الأراضي الذي يملكها قرب المعمل، فقد أدّى الغبار المنبعث من المعمل إلى الإضرار بإنتاجه الزراعي “يعني البندورة الخيار كل الخضرة صارت تموت مع الوقت بسبب السموم بالجو”، كذلك أثر وجود المعمل على تدهور قيمة الأراضي القريبة منه والتي باتت مصنّفة صناعية، ويقول إنّه لو عرض أرضه للبيع مجاناً فلن يشتريها أحد.

الصورة من العام 2015 ويبدو الدخان الأبيض يتصاعد من المعمل (نقلاً عن “إل بي سي”)

مخطط توجيهي جذب السكان إلى “منطقة الموت”

من جهة ثانية كان للمعمل أثره الاقتصادي والاستثماري على المنطقة، وكانت “المفكرة” قد نشرت تحقيقاً  لاستديو أشغال عامة ضمن ملف خاص عن “مناطق الموت”، عن كيفية تحوّل اقتصاد الزوق فعلياً من زراعي إلى تجاري مع حرب 1975-1990. وقد عمل رئيس بلديتها السابق المحامي نهاد نوفل منذ انتخابه في عام 1963 على جعلها منطقة نموذجية “أوروبية الطابع بنظافتها وحدائقها وإنمائها دون أن تفقد منها روح القرية اللبنانية”، فتم إصدار التصميم التوجيهي الأوّل عام 1973، والذي شمل بلدتي ذوق مصبح وزوق مكايل والتصميم الثاني مخصّص لزوق مكايل في العام 1998. فتم رفع معدلات الاستثمار وجذب المقاولين كذلك عمدوا إلى تقديم تسهيلات في الدفع. ساهم كل ذلك في زيادة عدد السكان في منطقة يقتلها المعمل بسمومه اليومية.

ويقول رئيس البلدية الحالي إلياس بعينو لـ”المفكرة” إنّ نوفل أراد منطقة “نموذجية” للتعويض عن التلوث الحاصل جرّاء معمل الزوق، فأرادها كالواحة الخضراء، ويروي أنّ أراضي المنطقة لطالما اشتهرت بخصوبتها الزراعية وكانت تسمى بأرض وطى نهر الكلب. وعن المخطط التوجيهي للمنطقة، يفسّر بعينو، أنّ المنطقة الواقعة شمالي المعمل صنّفت سياحية وهي تشتهر اليوم بعدد المنتجعات السياحية كـ “سوليمار” و”سمايا” المخالفين، أما المنطقة القريبة من المعمل فصنّفت صناعية ثم عادت وصنفت تجارية، في حين صنفت المناطق المرتفعة بالسكنية. اللافت أنّ هذين المخططين ساهما، رغم السموم الذي يبثها المعمل في تحويل “منطقة موت” إلى منطقة سياحية تجارية يقطنها اليوم حوالي 55 ألف نسمة تقريباً.

وقف المعمل ضرورة حفاظاً على البيئة والصحة والمال العام

يعتبر يحيى مولود أنّه لا بدّ من وضع معملي الجية والزوق الحراريين خارج الخدمة كونهما باتا قديمين ويحتاجان إلى كمية كبيرة من الفيول بقدرة إنتاجية ضئيلة، “يعني باستهلاك سنتين يمكن بناء معمل ثالث”. ويشرح أنه في حين تستهلك المعامل الحديثة حوالي 190 غراماً من الفيول للكيلواط في الساعة، يحتاج معمل الجية الحراري حوالي 360 غراماً من الفيول للكيلواط في الساعة، أما معمل الزوق الحراري وعلى الرغم من تحديثه في العام 2007 فيستهلك 270 غراماً في الكيلواط الواحد.

ويؤكد مولود أنّ على الحكومة قبل اتخاذ قرار بإعادة تشغيل المعمل الحراري أن تضع خطة واضحة، وأن تبدأ بمناقشة شروط المناقصة للشركات المشغلة، محذراً من أنّ عقدي الشركتين المشغّلتين لمعملي دير عمار والزهراني سينتهي في غضون أشهر “يعني أي شركة بدها تقبل تشغّل المعامل إذا ما عم يندفعلها مستحقات؟ وكيف رح يندفعلها باللبناني؟ ولا دولار فريش خاصة ومعدات صيانة الماكينات لا تباع إلاّ بالدولار”. ويخلص مولود إلى أنّ رفضه إعادة تشغيل المعمل لا يعود فقط إلى الأثر البيئي فقط إنما أيضاً إلى الكلفة الإنتاجية العالية. وهو ما يلقى صدى عن رئيس البلدية الذي يعرب عن رفضه القاطع إعادة تشغيل المعمل، متمنياً تلبية مناشدات الأهالي ومطالبهم التي، على مدى سنوات، لم تلق آذاناً صاغيةً.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني