مرضى السرطان: أوقفوا إبادتنا الجماعية


2021-08-27    |   

مرضى السرطان: أوقفوا إبادتنا الجماعية

“بقول الحكيم لازم آخذ العلاج كل ثلاث أسابيع، بس من شهرين ما في دوا… مريض السرطان بصير عندو فقر دم، بس ما في دوا…، هر شعري، راحوا ضفيري، ونفسيتي تعبانة وما حدا سأل عنّي.. شو المطلوب؟ بدفع مصاري… بس لاقولي الدوا”.

لم تخرج هذه العبارات من فم شابّة مُصابة بالسرطان سوى لأنّ القهر والمعاناة مع رحلة البحث عن الدواء في “المغارة” اللبنانيّة أوصلتها إلى مرحلة من اليأس. فلجأت إلى الشارع لتعبّر عن غضبها، ذلك خلال مشاركتها في اعتصام دعت إليه الخميس   26 آب جمعية باربارة نصّار المعنية بمساعدة مرضى السرطان أمام مبنى لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “إسكوا”، وشارك فيه حشد من مرضى السرطان وأهاليهم وعدد من المواطنون.

الشابّة التي تخوض معركتها مع مرض السرطان منذ أيلول الفائت، عبثاً حاولت تمالك دموعها لكنّ القهر خانها وهي تعبّر عن خوفها من خسارة سلاحها ضدّ المرض وهو الدواء. “أنا مهندسة، كلّ لي بدّي ياه إنّي إشتغل”. وأضافت، “مريض السرطان يُعاني أيضاً من فقر الدم، وحتى هذه الأدوية غير موجودة”.

في لبنان، لا يطيح عصف الأزمة الاقتصاديّة وتداعيات احتكار كلّ شيء في البلاد، سوى بالمواطن الضعيف، حتى وصل الأمر بمرضى السرطان أن ينزلوا إلى الشارع رغم آلامهم أملاً في هزّ ضمائر المسؤولين وإيقاظهم من سباتهم ليؤدّوا دورهم تجاه المرضى الّذين لا يموتون بسبب المرض بل بسبب تلكّؤ الدولة عن تأمين الدواء. وأبدى المعتصمون خيبة أملهم من الدولة اللبنانيّة فذهبوا يُطالبون المجتمع الدولي والأمم المتحدة التدخّل لإنقاذ مرضى السرطان في لبنان.

ومنذ أشهر بدأت الأدوية تُفقد من السوق، ومنها أدوية للعلاج الكيميائي كما أدوية المناعة، ولم يتمكّن رئيس جمعية بربارة نصّار، هاني نصّار من الحصول عن إجابات حول أسباب هذه الأزمة من أحد من المعنيين إذ أكدّ خلال الاعتصام أنّ “وزارة الصحّة رمت المسؤولية على مصرف لبنان الذي لا يفتح اعتمادات لتغطية دعم دواء السرطان، فيما حمّل الأخير المسؤولية لوزارة الصحّة عندما تمّ التواصل مع المسؤولين فيه”.

وإضافة إلى ذلك، لا يستبعد المشاركون في الاعتصام أن تكون الأدوية فعلاً موجودة إنّما يتمّ إخفاؤها من قبل الشركات المستوردة والموزّعين، بخاصّة بعد مداهمة مستودعات أدوية في العاقبية في جنوب لبنان وفي مناطق أخرى  قبل  أيّام مما يفضح  إخفاء الأدوية وتخزينها واحتكارها. وعبّر المشاركون في الاعتصام عن غضبهم تجاه السلطة السياسية التي تأخذ المريض بيدها إلى الموت، من خلال يافطات رفعوها كتبوا عليها: “أيتها السلطة أوقفي الإبادة الجماعية بحق مرضى السرطان”، “نرفض أن نعيش العد العكسي”، و”دولتنا تقتلنا”.

وما يزيد من قساوة الصورة أنّ المشكلة مُضاعفة بالنسبة لمرضى السرطان، فليس كل مريض سرطان قادر على تأمين الدواء من الخارج ودفع ثمنه بالدولار، وحتى لو أمّن الدولار فلن يتمكّن من تأمين كلّ الأدوية. المشكلة أنّ بعض هذه الأدوية يتمّ استيرادها بطريقة خاصّة، وتحتاج للنقل بطريقة مبرّدة وآمنة. أي أنّ المغترب لن يتمكّن من وضع دواء للسرطان في حقيبته لإنقاذ أحد أفراد عائلته.

 

“الدولة تُحاربنا”

على مقعد محاذي للمعتصمين، يجلس فايز صفوان، 73 عاماً، يحمل بيده يافطة كتب عليها “لا للإبادة الجماعية”. يشرح لـ”المفكرة” أنّه مريض سرطان ويقوم أيضاً بغسل الكلى. يقول: “هذا الشهر أخذت علاجي، لكن يمكن الشهر المقبل ألّا آخذه بسبب الانقطاع المستمر للدواء”. يُضيف: “أغسل الكلى ثلاث مرّات أسبوعياً، وفي حال ارتفع البوتاسيوم في جسمي، أحتاج لجلسة إضافية”. ويلفت إلى أنّه علم منذ فترة من المستشفى أنّ أدوية غسيل الكلى على وشك النفاد. يستعيد صفوان بعض من مراحل حياته فيقول: “كنت أضرب الحيط بإيدي، لكن أنظري إلى حالي اليوم”. يضيف: “في العام 2002 علمت بعد عدّة فحوصات أجريتها أنّ لديّ تورّم، حينها بعت سيارتي واشتريت حقن علاج سعرها نحو 7 ملايين، فساعدتني هذه الحقن بتجميد نمو الأورام لكن لم أُشفَ منها فعاودني المرض قبل نحو ثماني سنوات”.

السنوات السبعة الأخيرة مرّت بين غسيل الكلى، وعلاج السرطان وزادت صعوبة تلقيه العلاج مؤخراً: “بضلّ بالمستشفى، واليوم بات الوصول إليها أصعب، البنزين مقطوع، إذا توفّر، أقود سيارتي لأصل، وأحياناً أستعين بسيارة أجرة”. يتابع: “حين أخضع للعلاج الكيميائي، أكون مرهقاً، فيأتي ابني ويعيدني إلى المنزل”.

يتكلّم صفوان وكأنّه قطع الأمل من إيجاد  دواء: “كنا نشتري علبة البنادول بخمسة آلاف ليرة، اليوم أصبحت بعشرين ألفاً، وعلبة فيتامين الحديد كان سعره 50 ألف، اليوم لا يقلّ عن 120 ألف”. يُتابع، “هناك دواء آخر نسيت اسمه كنت أشتريه بثمانية آلاف ليرة فقط، منذ فترة وجدته في الصيدلية بمئة ألف، فقلت للصيدلي لا أريده”. وهكذا توقف صفوان عن شراء بعض من أدويته بسبب الغلاء، فيما يتوقّع توقّف علاجه بين اللحظة والأخرى، متخوّفاً من احتمال تدهور الأوضاع أكثر. ويلفت إلى أمر آخر يزيد من بشاعة ما نراه من مآسي، “حتى الإبرة التي أستخدمها لأحقن الدواء كانت بـ 500 ليرة أصبحت اليوم عشرين ألف، هذا الغلاء لم يعد مقبولاً”.

السيدة ثريا حلبي قاومت مرض السرطان خلال خمس سنوات من العلاج، ووصلت اليوم إلى المرحلة الأخيرة، تقول لـ “المفكرة”: “أنا ناجية من المرض، لكن المقاومة لم تنته، لأنني لا زلت بحاجة لأدوية آخذها بشكل شهري”. الدواء الذي تأخذه ثريا حلبي مقطوع، وسعره نحو 200 دولار أميركي في حال أرادت استيراده من الخارج، لكن حين كان موجوداً في لبنان كانت تشتريه بنحو 250 ألف ليرة لبنانية لأنّه مدعوم، بحسب تعبيرها. واليوم مع  تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، ووصول الدولار إلى عتبة 20 ألف ليرة، يستحيل على الكثير من المرضى أن يؤمّنوا علاجهم. وتشرح: “آخذ دوائين، الأوّل يحتاج لتبريد لأجل نقله، ويستحيل أن أتمكّن من استيراده حتى لو توفّر معي المال، والثاني حبوب نأخذها لتفادي عودة المرض إلى أجسادنا، وهذه الحبوب أيضاً مقطوعة من السوق ونقوم باستيرادها من الخارج بالدولار”.

وخلال الاعتصام، شاركت السيدة راشيل ملحم قضيّتها مشيرة إلى أنّها مُصابة بمرض نادر يضرب النخاع العظمي. قالت: “نحن نخوض معركة كبيرة مع المرض، ومضطرون أيضاً اليوم أن نحارب على جبهة أخرى لأجل الدواء، والدولة هي التي تحاربنا”. أضافت، “نحن مش عم نشحذ، هيدا حقنا، ممنوع دولتنا تقتلنا، ممنوع حدا يموت كرمال الدوا، عنّا أولاد وبدنا نعيش، بدنا نشم هوا، مش ننطر الموت كل ليلة”. وتابعت، “نحن مش  ضعاف، بل الدولة تُريد إضعافنا”.

“دوا السرطان مش مقطوع، الدوا مسروق، منهوب ومحتكر”: خطّت الشابة كريستين طعمة هذه العبارة على يافطة حملتها وهي تقف أمام وسائل الإعلام تُناشد المعنيين تأمين الدواء لمرضى السرطان، فقالت: “حين يحرمونا من الدواء هم يقتلوننا بطريقة غير مباشرة، أين ضميرهم؟، ما أحد فوق رأسه خيمة، كلهم معرّضين هم وأولادهم”. وسألت الشابة وهي تدين وزير الصحّة حمد حسن لأنّه لم يتخذ إجراءً مناسباً بحق محتكر الدواء عصام خليفة الذي داهم مستودعه في بلدة الغازية قبل أيّام، متوجهة إلى الوزير سائلةً، “ليه ما حطيته بالحبس، ليش طنشت، شو هالتمثيليّة”.

وشارك رجل قصته أيضاً في الاعتصام معرّفاً عن نفسه بأنّه أحد الناجين من مرض السرطان. وقال: “بعد مروري بستّة أشهر من العلاج الكيميائي، أعلم ما هو الوجع”. وناشد  الرجل “الأمم المتحدة أن تفعل شيئاً، فحكومتنا غير موجودة، أين أنتِ عليكِ التحرّك”. وتابع، “الناس يموتون، الأصدقاء وأفراد العائلة، افتحوا عيونكم وتصرّفوا بسرعة”.

 

آلاف المرضى سنوياً مهدّدون

يؤكد الأطباء الّذين شاركوا في الاعتصام أنّ الموت ليس المصير الوحيد للمريض، بل المصير متعلّق بتوفّر العلاج اللازم. وبحسب رئيس جمعية أمراض الدم ونقل الدم الطبيب أحمد ابراهيم الذي حذّر من انقطاع الدواء مورداً  حالة مرضى سرطان الدم نموذجاً،  فإنّ “الإصابة السنوية بسرطان الدم في لبنان تتخطى 3000 مريض، وغيرهم آلاف من المرضى السابقين يقاومون المرض، وفي حال تأمن العلاج فإنّ 80% من بينهم يتعافون”. وشرح إبراهيم أنّ “انقطاع الدواء اليوم يُهدد حياة الآلاف من المرضى”. وطرح  أسباب كارثة انقطاع الدواء، مشيراً إلى “مشكلة الوكالات الحصريّة”، وأضاف “إذا كانت الشركات تخفي الدواء ولا توزعه، فهذا يعني أنّه ليست كلّ أدوية السرطان مقطوعة”. ومن جهة ثانية، لفت إلى أنّ “أنواع العلاجات مختلفة ولا يُمكن لكل المُصابين الاستعانة بنوعية العلاج نفسه”، ومن جهة ثالثة، أشار إلى “أزمة الدولار، والانهيار الناتج عن اقتصاد غير منظم من سنوات، لذلك بات علينا أن نبحث في تأمين الدواء عبر المساعدات الدولية”. وتابع، “نحن بحالة انتحار، من غير المقبول الاستمرار بهذه السياسة”، ودعا  إلى تشكيل حكومة بأسرع وقت لتعمل على حلّ هذه الأزمة.

وختم إبراهيم قائلاً “لم يعد باستطاعة الطبيب تأمين الدواء للمريض، فيطلب من الأخير أن يؤمنه”.

بدوره، ناشد البروفيسور المتخصّص بأمراض الدم والسرطان في مستشفى أوتيل ديو د. فادي نصر مصرف لبنان وكل المسؤولين أن يرفعوا “يد السياسة عن مرضى السرطان والأمراض المزمنة، ولا تدخلوها بالمتاهات السياسية”. وتوجّه إلى المسؤولين، “أتركوا الأمراض السرطانية  خارج البازار السياسي”، وأن يرصدوا لها موازنة خاصة لا تُكلف الكثير، “أقلّه لعام واحد إلى حين الخروج من الأزمة، وإلاّ ما منعرف ماذا سيحصل، قد يدخل  المرضى إلى منازلكم ويسحبوكم حتى يصلوا إلى حقهم”. وفي حديث مع “المفكرة” أكّد نصّار أنّ معدّل الاصابات سنوياً بمرض السرطان هي نحو 15 ألف حالة، ومعها الحالات التي تتلقّى العلاج، واليوم نعاني من انقطاع أكثر من 20 دواءً أساسياً لعلاج المرضى”. ويُضيف: “المرضى نوعان، منهم من يتعافى والآخرون نساعدهم بإطالة حياتهم، وإذا تلقوا العلاج سيعيشون لخمس سنوات إضافية رغم إصابتهم بالمرض، لكن اليوم بانقطاع الدواء يتم قتلهم بطريقة غير مباشرة”.

 

المرضى يحتاجون للملايين شهرياً لتأمين كلفة العلاج

من جهته شرح رئيس جمعية بربارة نصّار، هاني نصّار، أنّ “مريض السرطان كان يدفع في السابق 500 ألف ليرة فرق الضمان، وهو مبلغ مرتفع. أمّا اليوم فقد أصبحت فاتورة المستشفى لكلّ جلسة علاج كيميائي لا تقلّ عن مليوني ليرة. في الوقت نفسه، إنّ الحد الأدنى للأجور هو 675 ألف ليرة”. وأشار إلى أنّ المستشفيات  تفتح وحدة العلاج الكيميائي ليومين فقط ثم تقفل بسبب عدم وجود العلاج أو تقفل الأقسام نهائياً “والمريض لديه أمل أن يعيش لخمس سنوات إضافية لو العلاج موجود”. وأكّد أنّ استيراد الدواء من الخارج مكلف جداً وبالدولار الأميركي، مثلاً في حال أراد شخص استيراد الدواء على نقفته سيدفع نحو 200 مليون ليرة ثمن كل جرعة شهريا. وأشار إلى أنّ رواتب المرضى وعائلاتهم لا يمكن أن تغطي هذه المبالغ الهائلة.

وشرح نصّار أنّه بعد محاولات عدّة للتواصل مع وزير الصحة لم ينجحوا بالاجتماع معه لكن في النهاية تمت إحالتهم إلى مستشار الوزير الذي حمّل هذه المسؤولية لمصرف لبنان. وتابع، “حين تواصلنا مع مصرف لبنان، قيل لنا أنّ المسألة لدى وزارة الصحة”.

وفي ختام الاعتصام سلّم نصّار منسقة الشؤون الانسانيّة في الأمم المتحدة د. نجاة رشدي كتاباً يناشد المنظمة الدولية التدخّل لمساعدة مرضى السرطان في لبنان. بدورها أكدت رشدي حرصها على متابعة هذا الأمر وإيصال الرسالة إلى المجتمع الدولي، مشيرة إلى  أنّ “الحصول على الصحّة هو حق”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، قطاع خاص ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، الحق في الصحة والتعليم



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني