مذبحة قضاة تونس تعيد الذاكرة إلى مذبحة قضاة مصر 1969: ترهيب القضاة وصولا إلى تسييسهم


2022-06-03    |   

مذبحة قضاة تونس تعيد الذاكرة إلى مذبحة قضاة مصر 1969: ترهيب القضاة وصولا إلى تسييسهم

أصدر أمس رئيس جمهورية تونس قيس سعيّد قرارا بعزل 57 قاضيا تونسيا من دون أي محاكمة ومع تعليق حقهم بالتقاضي إلى أجل غير معلوم. سارعت “المفكرة القانونية” إلى توصيف هذا القرار بـ “مذبحة قضائية” جديدة. وتعود “المفكرة” اليوم لتستذكر المرة الأولى التي تمّ فيها استخدام هذا المصطلح في المنطقة العربية في ردّة فعل على عزل جماعي لأكثر من 189 قاضيا مصريا وذلك على خلفية نقاش حول كيفية دمج القضاء في مشروع النظام السياسي القائم آنذاك، وبكلمة حول كيفية تحويل القضاء إلى قضاء نظام. ولهذه الغاية، ننشر هنا مقتطفا من الدراسة السابقة المنشورة على موقع المفكرة تحت عنوان: “القضاء العربي في زمن الاستبداد” للكاتبين سامر غمرون ونزار صاغية وهي حصيلة بحث ميداني أجرته في تونس ومصر في 2011 (المحرّر).

 

قاضي النظام، أو رفض نظرية فصل السلطات

(مذبحة القضاء، مصر أغسطس):

برز بالطبع نموذج “قاضي النظام” بشكل عام من خلال المحاكم الاستثنائية التي أوجدتها أنظمة عربية عدة أو ورثتها من حقبات الاستعمار، وهي محاكم اختصت بالنظر في المحاكمات التي تهم هذه الأنظمة بشكل خاص (المحاكمات السياسية) على نحو يلغي أي حاجة إلى التدخل في أعمال القضاء العادي أو يخفف منها. وهذا ما عبر عنه الرئيس جمال عبد الناصر ببلاغة كلية بقوله في الاجتماع الأول “للجنة العامة للمواطنين من أجل المعركة” في 1 نيسان/إبريل 1970 بقوله :

 “حقيقة احنا لم نتدخل في القضاء منذ سنة 1952 حتى الآن… استقر الرأي على أنه إذا كان فيه قضية سياسية بنعمل إحنا أنفسنا قضاة، وبنحكم زي ما احنا عاوزين، ونبعد القضاة عنهم، ولا نتدخل في القضاء، بدأنا هذا الموضوع بمحكمة الشعب، وكان أعضاء مجلس الثورة هم اللي بيحاكموا، وكان دى بيدي الناس المعنى بأن هذه القضية سياسية”[1].

ومن هذا المنطلق، بدت المحاكم الاستثنائية وكأنها تتكون من فئة من القضاة (مندمجين تماما في النظام من دون مواربة) يتميزون عن القضاة العاديين الذين هم يحكمون من دون تدخل. وفيما استمرت المحاكم الاستثنائية تحت تسميات مختلفة حتى الثورة المصرية عام 2011، فإن نظام زين الدين بنعلي عمد إلى الغائها في تونس من منطلق مماشاة (شكليا طبعا) المبادئ المعمول بها في الدول الديمقراطية في مجال القضاء.

ولكن إلى جانب حالة القاضي الاستثنائي، يبيّن تاريخ القضاء المصري تجربة أخرى لتعميم هذا النموذج تحت شعارات إيديولوجية، مفادها تحقيق مبادئ العدالة الاشتراكية وقيمها بعد ثورة يوليو. ولا مجال هنا لإعادة سرد ما حصل أثناء هذه الحقبة الشهيرة في تاريخ القضاء المصري، والتي ما زال يذكرها ويتناقلها العديد من القضاة اليوم من ضمن التراث القضائي الاستقلالي تحت عنوان “مذبحة القضاة”، كما يعرفها معظم المحامين والصحفيين القضائيين في مصر والعالم العربي. الأحداث معروفة، وتفاصيلها كُتب عنها وتمّ عرضها عشرات المرات في العديد من النصوص والندوات والمقالات[2]. إلا أنه من اللافت أن معظم الروايات المعاصرة اليوم لم تحفظ من تلك المحطة سوى مسألة محاولة التدخل في شؤون القضاء والتأثير عليهم، وردة فعل القضاة الشجاعة تجاه ذلك، وهي عوامل كانت موجودة فعلا إنما لا يمكن أن تختزل ما حدث في هذه المرحلة على صعيد محاولة إعادة رسم حدود الوظيفة القضائية وموقع القاضي في المجتمع وعلاقته بالسياسة. فالمسألة لم تكن مسألة تدخل في القضاء فقط، إنما محاولة لانتاج قاضٍ مصري جديد يتماشى مع تطلعات النظام الإيديولوجية الاشتراكية. فبعكس ممارسات أنظمة كنظاميْ حسني مبارك وبنعلي حيث التدخلات في شؤون القضاة وأعمالهم كانت دائما تحصل بشكل مُقنّع غير معترف به وحول قضايا معيّنة وتغطى بشتى الخطابات الرسمية حول ضرورة استقلال القضاء والقضاة، فإن صدام الستينيات حصل في ظلّ تشكيك علني ورسمي بجدوى مفهوم الاستقلالية القضائية بحدّ ذاته في مجتمع اشتراكي كالذي كان جمال عبد الناصر يريد بناءه في خطابيات نظامه، وحول مدى ضرورة وجود هذه الاستقلالية أم لا داخل فلسفة النظام السياسية.

وكانت هذه المسألة طرحت مع انشاء الاتحاد الاشتراكي في 1962. فقد صُمِّم هذا الاتحاد بأنه تنظيم سياسي يضمّ كل قوى الشعب العاملة (فلاحين ونقابات الخ..)، وقد أعلن سريعا بعد إنشائه عن انضمام ملايين الأعضاء إليه. إلا أن مسألة انضمام القوات المسلّحة والقضاة إلى هذا التنظيم استدعتْ منذ البداية نقاشا طويلا دام طوال ستينيات القرن الماضي، بين ضرورة “تسييس” الجيش والقضاء لخدمة النظام والمجتمع الجديد من جهة وخصوصيات المهنتين من جهة أخرى[3]. فهل يتعين على الجنود والقضاة أيضا الانضمام إلى الاتحاد أسوة بسائر المواطنين تحقيقا لمبادئ النظام الاشتراكي أم أن هكذا انضمام يشكل خروجا عن تقاليد الوظيفة القضائية وما تفترضه من حيادية وابتعاد عن الأحزاب والسياسة؟

وكانت المسألة تطرح على صعيد نقطتين تحديدا: الأولى تخص كيفية انضمام الجنود والقضاة إلى تنظيم سياسي بينما الابتعاد عن السياسة هو في صلب قيم المهنتين القضائية والعسكرية. والنقطة الثانية تخص المساس بالهرمية التي تشكل – حسب الكثيرين – إحدى دعائم تنظيم تلك المهنتين، إذ كيف ينضم العسكريون – من أصغر جندي إلى أكبر ضابط – والقضاة – من أصغر وكيل نيابة إلى أكبر مستشار – إلى تنظيم سيتمّ فيه انتخاب ممثلين في عملية انتخابية قد نرى خلالها قضاة صغار ينتصرون أمام رؤسائهم الهرميين في المحاكم والتنظيم القضائي (علما أن تنظيم الانتخابات داخل نادي القضاة المصري قد تلافى منذ البداية هذه العقبة إذ أنّه تجنب أيّ تنافس بين المستشارين وقضاة النيابة العامة الشباب مثلا عبر توزيع المقاعد مسبقا بين الفئات القضائية، مؤمّنا بالتالي حصصا انتخابية للمستشارين والنواب العامين كلّ على حدة، وحاميا مبدأ الهرمية بهذه الطريقة). وإزاء المشكلة الأولى (الانضمام إلى تنظيم سياسي)، أبدى مؤيّدو الانضمام أن الاتحاد الاشتراكي العربي ليس حزبا سياسيا يواجه أحزابا أخرى للوصول إلى السلطة لكي يمتنع القضاة (والعسكريون) من الانضمام إليه، إنما تجمعا وطنيا جامعا لكل التيارات والقوى والمهن في المجتمع المصري ولا يشكل الانضمام إليه بالتالي تعاطيا بالسياسة إنما عملا وطنيا محمودا. كما أن النظام حاول طمأنة القضاة عبر اقتراح إيجاد فرع خاص داخل التجمع ينفرد القضاة بالانضمام إليه فلا يختلطون بالتالي بسائر الناس والقوى، بشكل يضمن حيادهم.

وفيما تحمّس عدد من القضاة لهذه الفكرة إلى درجة انخراطهم ليس فقط في الحزب إنما أيضا في خلايا سرية دأبت على رفع تقارير لبيان العناصر غير المتعاونة، من ضمن عمليات ما كان يسمى التنظيم الطليعي السري[4]، فإن المسألة سحبت من التداول في معظم الستينات بسبب اعتراض جزء كبير من القضاة على فكرة الانضمام (إنما ليس جميعهم، إذ أنه كان هناك أقلية كبيرة من القضاة غير ممانعة لا بل متحمّسة للانضمام إلى الاتحاد وعبرت عن ذلك في أكثر من مقال ومناسبة)، وتفهم عبد الناصر لوضعيتهم الخاصة كما تبرزه تصريحات عديدة له أوردها عبدالله إمام في كتابه. إلا أن المسألة قد طرحت من جديد على بساط البحث بعد سلسلة مقالات نشرها الأمين العام للاتحاد الاشتراكي آنذاك علي صبري في جريدة الجمهورية ابتداء من 18 آذار/مارس عام 1967، ليطرح بقوة مسألة مشاركة القضاة في الحياة الوطنية، إذ اتهمهم بالانقطاع الكلي عن حياة الشعب، وبممارسة قضاء طبقي موروث من مرحلة ما قبل الثورة.

جمال عبد الناصر مع عدد من القضاة

المهم في مسألة إثارة انضمام القضاة للاتّحاد ليست في نتيجتها الممكنة فقط، أي المساس باستقلالية القضاة المنضمين، كما تبرزه معظم الروايات لهذه الحقبة التي تركز على ردة فعل القضاة الشهيرة. وكان القضاة قد أصدروا في 28 آذار 1968، أي بعد عام تماما من نشر مقالات علي صبري وبضعة أشهر بعد هزيمة 1967، بيانا باسم ناديهم رفضوا فيه فكرة الانضواء في الاتّحاد وربطوا فيه إمكانية الخروج من النكسة بضمان الحقوق الشخصية والجماعية والحريات الفردية والعامة. وقد تبع ذلك فوز ساحق لمؤيدي البيان في انتخابات نادي قضاة مصر عام 1968. وقد أدى هذا التشنج الشديد بين القضاة والسلطة إلى عزل 189 قاضيا في 31 آب/ أغسطس 1969 عبر أربعة قوانين أعيد من خلالها تنظيم كل الجسم القضائي، بالإضافة إلى عزل القضاة المعارضين الناشطين.

إلا أن ما هو أهم من كل هذه الأحداث التي يمكن الاطلاع عليها في مراجع أخرى[5] هو نوع الحجج التي استعملتها السلطة ونوع الحجج التي واجهها القضاة بها خلال النقاش بينهما حول ضرورة الانضمام إلى الاتحاد. فالنقاش الحاصل في الستينيات لا سيما بعد مقالات علي صبري كان نقاشا بين نظريتين للسلطة القضائية في الأنظمة السياسية. النظرية الأولى تعتبر القضاة جزءا من النظام السياسي عليهم الالتزام بمبادئه وقيمه وهي قيم اشتراكية فيما يخص النظام المصري في الستينيات، كما عبر عنه لاحقا وزير العدل آنذاك أحمد أبو نصير، عندما هاجم مباشرة مبدأ فصل السلطات معتبرا انه مبدأ فشل تطبيقه حتى في دول أوروبية مثل فرنسا أو إيطاليا، فلا حاجة إليه بالتالي في مصر حيث النظام الاشتراكي يفترض تداخلا بين الشعب والعدالة والقضاء وليس فصلا بينهم، متهما القضاة هنا أيضا بتشكيل أقلية طبقية تحتكر العدالة على حساب الأكثرية الساحقة من الشعب. ومن هذا المنطلق طرحت في الفترة نفسها مسألة القضاء الشعبي والمحاكم الشعبية التي يجب استحداثها تماشيا مع هذه المبادئ، والتي رفضها القضاة بنفس القوة والممانعة باسم مبدأ مهنية القضاء وضرورة تخصّص القضاة.

وفي المقابل، واجه القضاة المعارضون للانضمام هذه النظرية المشكّكة بجدوى الاستقلالية بالتمسّك بها باعتبارها مبدأ مؤسسا لأي نظام ديمقراطي، وصولا إلى أفكار مونتسكيو حول فصل السلطات التي تم استثمارها في النقاش من قبل كل الأطراف، ولا سيما من قبل رئيس نادي القضاة آنذاك القاضي ممتاز نصار، الذي نشر عدة دراسات ومقالات حول الموضوع، بالإضافة طبعا إلى كتابه سابق الذكر، قبل أن يطاله هو أيضا العزل عام 1969 إلى جانب زملائه المعارضين[6]. ومن المفيد أن يرى الباحث الغارق اليوم في شؤون القضاء المصري ويومياته هذا النقاش الفلسفي بين القضاة أنفسهم، وبين بعض القضاة والسياسيين، بشكل جعل مبدأ الاستقلالية الذي يحظى اليوم على إجماع لا غبار عليه وجهة نظر فلسفية بين وجهات نظر أخرى تعطي كل واحدة منها للقاضي موقعا مختلفا في النظام السياسي.

مهما كان الأمر، فقد أدت وفاة عبد الناصر عام 1970 إلى تجميد هذه الجهود، وصولا إلى التراجع عنها عبر إعادة العديد من القضاة الذين أبعدوا عام 1969 إلى القضاء بقرارات قضائية أو بقوانين. وكانت هذه المرة الأخيرة والوحيدة التي يحاول النظام المصري التدخل بهذا الشكل المباشر لبناء قضاء على صورته، فيما اقتصر دعم بعض القضاة للنظام فيما بعد على صمتهم أمام تجاوزاته وممارساته ضمن العقيدة التي سنعرضها لاحقا. لكن لماذا تم التراجع بهذا الشكل عن مشروع إنتاج قاضٍ مصريّ جديد بالكامل؟ أهي قوة مقاومة الجسم القضائي أمام عبد الناصر التي أقنعتْ نظام السادات ومن بعدها نظام مبارك بالتراجع عن هذه الأساليب وبالاكتفاء باللجوء إلى المحاكم الاستثنائية أو بمحاصرة القضاة من خلال تقاليدهم وصمتهم كما نرى أدناه؟ أم أن التبدّل الإيديولوجي الذي شهدتْه مصر في سنوات حكم السادات، عبر الانتقال من الاشتراكية إلى الليبرالية الاقتصادية التي تمّ تكريسها تحت حكم مبارك، جعل محاولات إنتاج قاضٍ مماثل من الماضي، إذ أن أدبيات فصل السلطات واستقلال القضاء (بغض النظر عن الواقع المعاكس على الأرض) كانت قد فرضت نفسها على الجميع ابتداء من السبعينات من ضمن أساسيات هذه الإيديولوجيا الليبرالية نفسها؟


[1] يذكر هذا الحديث عبدالله إمام في كتابه : عبدالله إمام،  مذبحة القضاء (القاهرة: مدبولي، 1976).

[2] ومن أهم المراجع التي تناولت الموضوع بالتفصيل من وجهة نظر فاعلين أو مراقبين عايشوا الأحداث أثناء وقوعها، وإن عرضوها من وجهات نظر مختلفة وأحيانا متضاربة : عبدالله إمام، 1976، المرجع السابق ; ممتاز نصار, معركة العدالة في مصر (القاهرة: دار الشروق, 1974).

[3] حول هذه المسائل، أنظر كتاب عبدالله إمام (مذبحة القضاء) السابق الذكر، وهو كتاب ينحاز علنا للدفاع عن نظام جمال عبد الناصر ونظرته للأمور في مواجهة قضاة النادي، لذا يجب مقاربة مضمونه بشيء من الحذر. إلا أنه يقدم معلومات ومستندات مهمة لفهم كل أبعاد المواجهة آنذاك، في حين أن “الرواية الاستقلالية” لا تركز سوى على مسألة المس باستقلالية القضاء، بشكل يلغي من المعادلة الكثير من العوامل المهمة التي نحاول استعادتها هنا. وللاطلاع على وجهة نظر مختلفة تعرض نظرة القضاة المتصادمين مع عبد الناصر أنفسهم، يمكن مراجعة :نصار، معركة العدالة في مصر. أما لوجهة نظر تحليلية باللغة الفرنسية، أنظر : B. Botiveau, “Nasser Et Les Magistrats Égyptiens : L’affrontement De 1969 Et Le Débat Sur La Souveraineté De La Loi,” Annuaire De l’Afrique Du Nord XXXIV (1995).

[4] حول هذا التنظيم، يمكن مراجعة : حمادة حسني، عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري (القاهرة: مكتبة بيروت، 2008).، بالإضافة إلى كتاب إمام (1976) السابق الذكر.

[5] أنظر المراجع أعلاه (أعمال عبدالله إمام وممتاز نصار).

[6] يعرض إمام في الجزء الأول من كتابه هذه النقاشات، كما عاد إليها بوتيفو في مقاله بالفرنسية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، مرسوم ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، مصر ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني