محوّل الكهرباء “خربان” منذ 1983 لدى الدنادشة: أسطورة “حرز” الوادي


2021-08-23    |   

محوّل الكهرباء “خربان” منذ 1983 لدى الدنادشة: أسطورة “حرز” الوادي
بعض بيوت وادي بنيت المهجورة (تصوير حسن الساحلي)

يضحك رئيس مجلس إدارة مصلحة مياه بيروت السابق ركان دندش حين تسأله عن عشيرة دندش ليقول: “بيقولوا إنّو عيونهم كبار وواسعين قد ما بيلاقطوا” (أي نتيجة المشاكل الكثيرة التي يخوضونها). توصيف، وإن كان يحمل وجه غزل بعيون الدنادشة السوداء الواسعة وحدّتها الواضحة، إلاّ أنّه يشير إلى التنميط السائد بشأن هذه العشيرة. يُعرِّف عنها موقع اتّحاد عشائر بعلبك الهرمل أنّها من “العشائر النافذة والمقاتلة، تتركز زعامتها في وادي النيرة في جرود الهرمل”، وتنتشر في وادي بنيت والسَوَح وجباب الحمر في الجرد. مع الوقت، ومنذ نحو نصف قرن بدأ الدنادشة رحلة نزوحهم من الجرود نحو الهرمل وبلدة العين ورأس العاصي في السهل. ولعبوا منذ أيام الاستعمار التركي ومن ثم الفرنسي دوراً بارزاً في مقاومة المحتل، وكانوا داعمين في معركة وادي فيسان الشهيرة في وجه الفرنسيين التي تلاها مؤتمر مرجحين الذي عقدته العشائر على خلفية المعركة ونتائجها. ونتج عن المؤتمر يومها تشكيل جيش العشائر تحت تسمية جيش أمير المؤمنين (لم يتحوّل إلى جيش فعلي) وتوافقت العشائر على تولّي حسن طعّان دندش، زعيم الدنادشة، قيادته في حينها. استتبع ذلك الدور شنّ الفرنسيين، في أيامهم، أكثر من حملة ضد الدنادشة، فعمدوا إثر هزيمتهم في معركة فيسان إلى تدبير مقتل زعيمهم حسن طعّان دندش عام 1929 في رأس بعلبك، ومن ثمّ سجن الرجال ونفي النساء والأطفال إلى منطقة الميادين في الجزيرة قرب دير الزور السورية لغاية العام 1933، حيث كانوا (أي الفرنسيين) يرسلون كل رجل من آل دندش تنتهي محكوميته وراء أسرته إلى المنفى[1].

حلول الاستقلال لم ينهِ خصومة العشيرة مع الحُكم. فقد شنّت الأجهزة الأمنية حملة في 1948 لاعتقال المشتبه بهم في الاشتراك في قتل مخايل روفايل في رأس بعلبك ثأراً لمقتل زعيمهم حسن طعّان دندش. وقد سقط العديد من عناصر الجيش والدرك في معركة ساند فيها عدد من عشائر المنطقة أبناء عمومتهم الدنادشة. ولاحقاً لم يستجِبْ قائد الجيش فؤاد شهاب للأوامر حين طلب منه تعقّب الطفّار من بينهم والقبض عليهم، ودعا إلى تغيير المعادلة في التعامل مع العشائر[2].

وبرغم الإنماء الذي حملته المرحلة الشهابية، وبغضّ النظر عن النفعية التي اعترته لتفريخ زعامات موالية للدولة بين العشائر، إلاّ أنّ تتبّع سياق التعاطي الرسمي مع جرد آل دندش يبيّن وبالدلائل، كيف دفع الإهمال وغياب الإنماء المتوازن بهم إلى ترك أراضيهم وأرزاقهم والتشتّت في أصقاع المناطق السهلية بحثاً عن العلم ولقمة العيش وفرص العمل والمدخول الضروري لإعالة أبنائهم.

الدنادشة يشقّون طريقهم بمعاولهم

يقول محمد حسن دندش ممازحاً إنّ نهر العاصي أدرك مبكراً أنّ لبنان الرسمي سيدير ظهره للهرمل وأوديتها فجمع روافده وعاكس كلّ أنهار البلاد، واتجه نحو سوريا إلى الشمال الشرقي. هناك في المجرّ (رأس العاصي) من حيث تتدفّق مياه العاصي غزيرة صافية كدموع العين تقودك طريق صخرية غير صالحة إلّا لسير الآليات الكبيرة الرباعية الدفع نحو وادي بنيت، بوّابة جرد عشيرة دندش من ناحية رأس العاصي، والمدرج عقارياً ضمن رأس بعلبك الغربي، ولكنّه يتبع لقضاء الهرمل، كون سجلّات قيد أهله الانتخابية تصبّ حيث تقضي التقسيمات الطائفية. سبق لرجال جيل الخمسينيّات من عشيرة آل دندش، ملّاك الوادي، أن أعملوا معاولهم والرفوش في التلال التي تفصل واديهم عن سهل الهرمل من ناحية الشرقي، وهي المنطقة الفاصلة بين رأس بعلبك والهرمل، مروراً بالمجّر، الرأس الأعلى للعاصي، ليصلوا إلى وادي بنيت، وفق ما يؤكد مختار الوادي قاسم دندش لـ”المفكرة”. ستّون عاماً مضت على رسمهم معالم الطريق ولكن الدولة لم تعبّدها حتى بالأتربة أو الرمول لغاية اليوم.

يصعب أن تجد في كلّ لبنان اليوم طريقاً بوعورة طريق الوادي المعبّدة بالصخور والحجارة، إلى درجة لم تمرّ سيارة محمد حسن دندش التي قادتنا إليه من دون أن يطالها خراب. بدأت معالم الطريق تختفي تماماً كما اختفت آثار أقدام أولئك الذي شقّوها وتعبوا طويلاً بانتظار دولة لم تأتِ فغادروا بحثاً عنها ربما، تاركين وراءهم أراضيهم الزراعية وكرومهم التي يعتاشون منها مع الأشجار الحرجية من سنديان ولزّاب وملّول وغيرها.

في المرحلة الشهابية وصلتهم أعمدة الكهرباء لتضيء عتمة منازلهم. رفاهية لم يعيشوها سوى لعشرين عاماً فقط. ففي العام 1982، احترق محوّل الوادي واستغرق عمّال شركة كهرباء لبنان سنتين ليصلوا إلى بنيت: “فكّوا الترانس وغادروا على أمل إصلاحه، ولم يعودوا حتى اليوم” كما يؤكّد محمّد حسن دندش لـ”لمفكرة”. عادت قناديل زيت الكاز لتضيء بيوت الفقراء، فيما كان الميسورون يحتفلون بضيوفهم فيشعلون “اللوكس” الذي يوازي نوره ضوء مصباح كهربائي بقوّة 150 شمعة. في الستينيّات أيضاً حفرت الدولة لهم بئراً على أمل أن تغنيهم ماؤها عن آبار تجميع مياه الشتاء أمام كل منزل. لم يمدّوا قساطل المياه ليخرجوا الماء من باطن الأرض، وبقي أهالي وادي بنيت عطاشى.

أما من رغب في تعليم أبنائه من بينهم فكان يرسلهم سيراً على أقدامهم الصغيرة ليقطعوا الجبل الفاصل بينهم وبين مزرعة الفقيه التي تبرّع أحد أبنائها، علي مرشد الفقيه، بتحويل غرفته الترابية إلى مدرسة. وكان الفقيه يأتي من المزرعة خلال العطلة الأسبوعية لتقوية من يحتاج من تلامذته بدروس خصوصية “وكانوا يدفعوا له شي صوف، شي لبن، شي قمح، المهم كتير أوقات ما في مصاري ليعطوه”، وفق المختار قاسم دندش.

أمّا المدرسة التي عادت وأتتهم متأخرة، فقد أقفلت بعد موجة النزوح التي تلت احتراق المحوّل الكهربائي، مما أدى إلى موجة رحيل أخرى عن الوادي سعياً وراء تعليم الأبناء علّهم يحظون بفرص حياة أفضل من جدودهم وآبائهم. وهناك في بنيت تركوا نحو 4 آلاف دونم من الأراضي الزراعية البعلية، في بنيت الفوقا وبنيت التحتا، وفيها كرزهم والتفاح والمشمش حيث طالما تعذّر عليهم نقل ثمارها لبيعها في السهل أو بعلبك، المدينة الأقرب إليهم، وإن على مسافة 60 كيلومتراً، بسبب عدم أهلية الطريق لنقل الإنتاج الزراعي.

حارسة الوادي

وحدها هند الستينية، ابنة وادي بنيت، الملقّبة بـ”حرز” الوادي، أي حارسته، عزّ عليها أن ترحل، فعاشت فيه وحيدة صيفاً شتاء لنحو عشرين عاماً، لا تتركه إلاّ في المناسبات لأيام معدودة، حتى تحوّلت إلى ما يشبه الأسطورة. “قلت ببقى هون، بضوّي قنديلي بعتم الليل، بحرس رزق أهلي وأولاد عمّي وبشتغل”، هكذا تبرّر وهي تستعيد ذكرياتها في مسقط رأسها بنيت التي ما زالت مغرومة بالعيش فيها. “هلأ إذا بيقبلو أخوتي برجع عيش فيها حتى لوحدي”، تؤكّد. كان الوادي بوّابة هند لاستقلاليّتها “بقيت اشتغل برزقنا وطّلع مصروفي وحتى أسند أخوتي”. أما السبب الثاني فمبدئي أيضاً “ما كان بدي الوادي يموت، هونيك عشت طفولتي وفيه ذكرى أهلي وكل حياتنا، وفيه رزقنا”. ولم يأتِ لقب “حرز” الوادي، من عدم، إذ أنّ هند كانت تتصدّى لكلّ “غريب”، كما تصف أي شخص يمرّ بالوادي من غير أهله. “كنت إحمل بارودتي وإنزل أوقف له ع الطريق وإسأله مينك إنت؟”. إذا كان من أهل الوادي أو ذرّيتهم، تتركه يعبر، وإذا لا، تأمره بالعودة من حيث أتى “كان في حراميّي يجوا بدهن ينهبوا رزق العالم الغايبة وأنا كنت إمنعهم”.

ولكن كيف لامرأة أن تعيش وحيدة في منطقة مهجورة ومعزولة عن العالم كوادي بنيت. تجيب: “كانوا أخوتي وأولاد عمّي يتناوبوا ليتطمّنوا عنّي”. يصعدون إلى الجبل الذي يعلو وادي بنيت من ناحية وادي الكرم على الطريق نحو جباب الحمر، ومن هناك ينادون على هند، فتردّ: “أنا هون، أنا بخير”. وفي حال لم تسمع كانوا يطلقون عياراً نارياً في الجو كإشارة بينها وبينهم، عندها تنتبه هند وتردّ عليهم إمّا بصوتها، أو بطلق ناري إذا كان اتّجاه الريح معاكساً لاتّجاه الصوت.

ثمّة سبب آخر لعدم تركها الوادي تلمع عيناها حين تذكره: “ما فيكي تتخيلي قديش كانوا أهل الوادي ينبسطوا لمّن يلاقوني فوق إذا طلعوا يتفقّدوا رزقهم”. كانت تمدّ للقادمين “سفرة” من منتجاتها “لبن ولبنة وبيض بلدي وقورما وما تيّسر من خضار صيفية بعلية، وكنت ع القليلة أسقيهم نقطة مي مصقّعة من بيرنا”، أي بئر تجميع مياه الشتاء.

وبالفعل، تحوّل بيت هند الترابي إلى منزل الوادي، أي بيت المضافة. كرم وطيبة كادت أن تدفع حياتها ثمناً لهما في مساء قصدها فيه شخص بهدف السرقة “مرّة عند المغرب وصل لعندي شاب كان يشتغل مع أخوتي”. قال لهند إن أخوتها أرسلوه لمساعدتها في مشحرة الفحم التي كانت تحتاج لجهد كبير “وأنا صدّقته لأنّه عاش معنا فترة قبل، وهو مش من الوادي”. بعد أن قدّمت له طعام العشاء، وأعقبته بإبريق شاي، كما درجت عادات أهل الجرود، لم تستفِق هند إلّا في المستشفى. وضع لها الشاب مخدراً في كوب الشاي، وعندما غابت عن الوعي ضربها بآلة حادّة على رأسها “شوفي كيف فجّ لي راسي شقفتين”، ترفع هند غطاءها عن ندبة كبيرة تشي بوجود كسر خطير في الجمجمة. سلب السارق هند كل ما تملك من مقتنيات “نهب لي مصريّاتي، و21 إسوارة دهب صب مش نفخ، وعقد وتعليقة مخمسية (من خمس ليرات ذهب) مع سنسنال كبير وحلق وخاتمين”. تقول هند إنّها كانت تخلع عقدها الثمين ليلاً “لأنّه تقيل كان يزعجني”، تقول بحسرة على تعب عمرها الذي راح.

بعد يومين من محاولة قتلها وعندما لم تردّ على نداء أخوتها وأبناء عمومتها من على جبل وادي الكرم، نزل ابن عمها يتفقّدها ليجدها غارقة بدمائها “نزل ع الهرمل وجاب إسعاف مع ممرضين ونقلوني ع المستشفى”. تنقل هند عن الطبيب الذي أجرى لها العملية أن تخثّر الدم نتيجة الصقيع في الوادي هو ما أوقف نزيفها “وإلّا كان صفّى دمّي ومتت”، كما أنّ ضربة الفأس لم تصل إلى دماغها “كان مخّي بعده سليم عشان هيك بقيت عايشة كمان”. منذ ذلك اليوم حاولت هند العودة للعيش في الوادي ولكن أخوتها لم يقبلوا خوفاً على سلامتها “أنا كتير زعلانة لأنّه تركت الوادي”. اليوم يقدّم لها أبناء أخوتها “أحلى هدية” بأن يأخذوها بين فترة وأخرى لتزور الوادي وتطمئنّ عليه.

الإنماء بيردنا ع الوادي

يقول مختار وادي بنيت قاسم دندش لـ”المفكرة” إنّ هناك هند في كلّ بيت من سكّان وادي بنيت ووادي النيرة “يعني كلّ أولاد العشيرة بيحبّوا يعيشوا بالجرد وبرزقهم، بس الدولة هجّرتنا”. يشير المختار إلى أنّه قدّم طلباً لتعبيد طريق الوادي في العام 2017، ع أيام وزير الأشغال يوسف فينيانوس “وحكينا مع النائب طوني فرنجية وقتها”. وعليه أرسلت الوزارة مهندساً كشف على الطريق وكلّ المنازل المتروكة و”ذهب وما زلنا بانتظار الطريق”. وحين لا تصل الدولة في الإنماء، فإنّ القوى السياسية تجد طريقها إلى أصوات الناخبين في الوادي “عنّا نحو 550 مقترعاً، ينتخبون بالدرجة الأولى لائحة حزب الله”. ففي انتخابات 2018 نال نائب الحزب إيهاب حمادة 50 صوتاً تفضيلياً، فيمّا خصّ الناخبون النائب حسين الحاج حسن من كتلة الحزب نفسها بـ250 صوتاً تفضيلياً. يقول مندوب من اللائحة التي نافست لائحة الحزب، وكان فيها المرشح يحيى شمص إنّ الجواب كان يأتيه حين يطلب من الناخبين انتخاب شمص “ما فينا نخالف التكليف الشرعي، بدنا ننتخب الحزب”، ليدلّل على ولاء معظم أبناء الوادي لحزب الله “يعني أخدوا 300 صوت من أصل 400 مقترع يومها”. في الانتخابات النيابية الأولى بعد التسعين، وضعت الدولة صندوق وادي بنيت في بيت مختاره آنذاك محمد رشيد دندش على رأس العاصي، ثمّ نقلته إلى المدرسة النموذجية الرسمية في الهرمل في الدورات اللاحقة ولغاية اليوم “يعني ع القليلة يعملولنا طريق لنحطّ صندوق بنيت بالوادي ونصير نطلع ننتخبهم” يقول المختار وهو يؤكّد أنّ الغالبية الساحقة من أبناء الوادي ترغب في العودة إليه. يشير إلى غلاء الأراضي والبيوت في الهرمل “مش كل الناس قادرة تعمّر بالهرمل وتدفع نحو 40 ألف دولار سعر دونم الأرض أو 80 ألف تمن الشقة المقبولة، بينما يمكن لأي منهم بناء منزل في أراضيه حيث يملك كلّ منهم عشرات الدونمات”. يؤكّد المختار أنّ المشوار من بنيت إلى الهرمل لا يستغرق أكثر من ربع ساعة في حال تعبيد الطريق “وكمان يطلّعوا لنا مي ويرجّعوا ترانس الكهربا والمدرسة لنرجع ع أرضنا ونحييها”.

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

  1. “في 1933 هرب مصطفى طعّان دندش من الميادين وعاد عنوة عنهم إلى لبنان وساندته العشائر فأذعن الفرنسيون لإعادة بقية العشيرة مقابل تعهّد بعدم التمرّد ضد فرنسا”، من مقابلة أجراها الكاتب سويدان ناصر الدين مع الشيخ حسين يوسف دندش في بحث عن المنطقة كتبه لصالح جريدة السفير في 1988.
  2. العشيرة: دولة المجتمع المحلي، “عشائر جرد الهرمل”، الدكتور فؤاد خليل، دار الفكر اللبناني، 1990، ص 149.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، مجلة لبنان ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني