محدودو الدخل في لبنان كالدولار بلا سقف


2023-05-08    |   

محدودو الدخل في لبنان كالدولار بلا سقف
بيروت بعدسة علي نجدي

“عم أبرم ع بيت وما عم لاقي، والله مش عارف وين بدي روح بحالي وبعيلتي!” بهذه الكلمات يوجز مصعب المرعبي، ابن مدينة طرابلس معاناته في البحث عن مأجور في ظلّ “دولرة” عقود الإيجار. “صدقًا ما عم أعرف شو بدّي أعمل… عم نشتغل جنب الوظيفة شغلتين وما عم نلحّق”، يتابع المرعبي حديثه لـ “المفكّرة القانونية”، وهو الذي يشغل منصب أمين مستودع في الهيئة العليا للإغاثة، وقد عجز عن إيجاد الحلّ “عنّا وصلت الإيجارات بمنطقة أبي سمرا لحدود 350 دولار شهريًا، بس ما عم لاقي. وإذا لقيت، الإيجارات خيالية”. ويضيف: “بيقلّك المالك عندي هالشقة وبدي هلقد، عجبك عجبك، ما عجبك بدي بيتي… والمشكل ما قادر لومه! الليرة ماتت اليوم… بس من وين بجبله دولار؟” ويشكو خطورة الوصول إلى أفق مسدود في ظل غياب تام لدور الدولة. قصة المرعبي تختزل في طيّاتها معاناة الشريحة الأكبر من اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية المتآكلة.

على وقع هذا العراك الذي نشب بين المالكين والمستأجرين، أُربكتْ السلطات القضائية وتخبّطتْ في ظلّ غياب التشريع وصمت سلطات الدولة المريب وتقاعسها على مستوى التدخلات والتشريع والسياسات. وللوقوف عند التهديد المتفاقم لحقّ الوصول إلى سكن ميسّر، تلقي “المفكّرة” الضوء على ما يحصل بنتيجة “دولرة” عقود الإيجار “الجديدة”، في زمن انهيار العملة الوطنية، وهي تحديدًا العقود المبرمة بعد تاريخ 23 تموز 1992. وما فاقم من هذا الأمر هو تعدُّد سعر الصرف الذي شوّه العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، منذ بداية الأزمة، وأخلّ بتوازن معظم الموجبات التعاقدية. هذا الواقع تسبّب بنزاعات وصلتْ إلى القضاء ورصدتها “المفكرة”، حول مدى قانونية العقود “المدولرة” وصحتها، وما هو سعر الصرف الواجب اعتماده.

على طريق “الدولرة”

تمظهر هذا الكباش الاجتماعي في الأرقام التي رصدها مرصد السكن التابع لاستوديو “أشغال عامة”، لدى تحليله الظروف السكنية لـ 163 بلاغًا تمّ في الفترة الممتدة بين الأول من آذار ونهاية تشرين الثاني 2022. وجاءت النسبة الأعلى من التبليغات من سكان لبنانيين 55.2%، مقابل 27.6% من السوريين و11.75% من تابعية دول أخرى وبخاصة الدول الأفريقية. ووثّق التقرير 92 طلب إخلاء من أصل 163 بلاغًا، علمًا أنّ الإخلاء حصل فعليًا في 13 حالة وترافق الطلب في 36 حالة أخرى مع ممارسات تعسّفية.

وإذ يذكّر الخبير الاقتصادي محمّد زبيب في حديث لـ “المفكرة” بالانهيار الذي أطاح بثلثي الدخل والمدّخرات، يستعرض الجهود المبذولة لـ “تسليع السكن” وصولًا إلى منع أيّ تدخّل للدولة لرعاية هذه السلعة. وبنتيجة ذلك، أُخضعت الإيجارات لقواعد الاستثمار، ليخرج حقّ السكن كليًّا من وصفه “سلعة اجتماعية ذات مواصفات خاصة على المجتمع، من خلال الدولة، توفيرها للجميع من دون أيّ انتهاك للحق في السكن”. وبالتالي سلّمت الدولة عنق “الشريحة الساحقة من الفقراء ومتوسطي الحال وأصحاب الأجور المحدودة والتي تبلغ نسبتها 90 بالمئة من الأسر اللبنانية، وفق دراسة الإحصاء المركزي لسنة 2022” لعبثية المنصّات. 

ولكن هل يحقّ للمالك التأجير بالدولار؟ يأتيك مباشرة الجواب من مستأجر يعجز عن تسديد بدل الإجارة: “وإذا ما مننتج بالدولار، مش حقنا نسكن بهالبلد؟” مستأجر آخر من المريجة يقول بعد فشل مفاوضاته مع المالك: “ما في حل، بده دولار. يعني دولار أو طلاع من البيت. حرمونا حتى من سقف يسترنا”.

في المقابل، تأتيك صرخة أحد المالكين: “إذا بدي آخد عاللبناني، شو بيكفوني؟ مش حقي عيش متل غيري؟، حتى لو أجّرت بـ 200 دولار اليوم شو بيعملولي؟ والشقة أنا دافع دم قلبي حتى اشتريتها… يا بدها تعيّشني أو بسكّرها”. وتعزو رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات، المحامية أنديرا الزهيري تمسّك المالك بحرية التعاقد بالدولار إلى الانهيار الاقتصادي، والخوف الذي تولّد لدى المالكين نتيجة فقدان ثقتهم في الدولة وعملتها الوطنية، وهواجسهم من تكرار تجربة المالكين القدامى: “أكيد الناس بدها تلجأ للعقود بالدولار أو ما يعادلها بالليرة وفق السوق” وتؤكد لـ “المفكّرة” أنّه “تدبير وقائي نتيجة فقدان الثقة في القضاء والمشرّع، عم يحموا حقوقن كون الدولار عم يحلّق، والليرة فقدت قيمتها، بدن يأجروا ناس قادرة تدفع سنة سلف كضمانة بالدولار فرش، وحتى البعض عم يفضل يأجّر الأجنبي”. في المقابل، تستهجن مستأجرة في حي السلّم الطرح وتقول: “أي تفاوض، اليوم المالك شايف حاله بالسما، شو ما تقوليله بقلك ما بيجيبولي كيلو لحمة. وبيقلّك مظلوم وبيعيش من ورا الشقة”. وفي الضفة الثانية يؤكد حسين، أحد المالكين في الطيونة مساعي التفاوض: “عم جرّب حلّها حبّيًا، انشالله ما توصل للمحاكم لأن الملف بيموت 10 سنين ويمكن يرفض يخلي، وساعتها يا بدّه يقتلني يا إقتله. تاركينا لمصيرنا نتواجه”.

ونتيجة هذا الكباش، تكثر القصص عن نزاعات بين المالك والمستأجر الممتنع عن الدفع بالدولار بلغت حد طرد بعض المستأجرين بالعنف مع منعهم حتى من استرداد أغراضهم. كما شهدت مناطق حركة نزوح بين القرية والمدينة بالاتجاهين، وفق ما جاء على لسان إحدى المستأجرات في منطقة مار الياس: “في كتير ناس رجعتْ ع ضيعها، وفي كتير ناس كانت تقول ما ممكن إقدر عيش مع أهلي، رجعت وعاشت معهم لتاكل وتشرب ببدل الإيجار. وفي ناس تركت الضيع ونزلت تسكن حدّ وظيفتها، لأن تنكة البنزين بالمليونين، وصار الإيجار وين ما كان بالدولار”.

فضلًا عن ذلك، رصدت “المفكرة” التوتر عند الاتفاق على الإجارة. “المالكة بدها تعمل العقد ع سنة، ولما سألناها كيف؟ قالت بهالوضع ما حدا عم يعمله أطول”، تنقل فاتن لـ “المفكرة” ما حصل معها أثناء بحثها عن مأجور في عرمون، علمًا أنّ الإيجارات الجديدة تخوّل المستأجر البقاء لثلاث سنوات. كما يلحظ التهرّب من توقيع عقود إيجار أو إعطاء إيصالات بتسديد البدلات المتفق عليها، بهدف حرمان المستأجر من وسائل إثبات إجارته.

هنا تشدد مايا السبع أعين، الباحثة في القانون والمتابعة لحالات الإخلاء في مرصد السكن-أشغال عامة، أنّ المرصد يشرح للمستأجرين أنّ العلاقة التعاقدية تبقى قائمة وقانونية حتى “لو ما في ورقة بين الطرفين، فالعقد الشفهي صحيح، إلّا أنّ عبء الإثبات حينها يلقى على المستأجر”. ويوصي “المرصد” بضرورة الاحتفاظ بإيصالات بدلات الدفع وتوثيق الدفعات بما فيها فواتير الكهرباء والمياه وغيرها، أو الدفع عبر البريد كإثبات.

وفي مقابل كلّ هذه التحوّلات، تبقى السلطات العامة ساكنة التزامًا بسياستها بتسليع السكن، وإبقائه حرًّا من دون تدخّل. وعليه، لا تمنع تحديد بدلات الإيجار بالدولار وإن كانت المادة 192 من قانون النقد والتسليف ترغم المالك على قبول تسديد بدل الإيجار بالليرة تحت طائلة عقوبة تصل إلى 3 سنوات حبس. ولكن وفق أي سعر صرف في ظلّ تعدد أسعار صرف العملة الوطنية؟

نزاعات حول سعر الصرف

في هذا المجال، برزت أسعار صرف كثيرة. ففضلًا عن سعر الصرف الرسمي الذي كان حدّده مصرف لبنان بـ 1515 ليرة مقابل الدولار ورفعه حاليًا إلى 15000 ليرة، نجد سعر صرف “صيرفة” الذي يتحكّم في تحديده مصرف لبنان فضلًا عن سعر صرف السوق.

وأمام تباين المواقف بين المالكين والمستأجرين، لجأ البعض إلى ما يعرف بالعرض والإيداع لدى كتّاب العدل، في محاولة لإثبات إيفائهم بالتزاماتهم التعاقدية. ويقول ناجي الخازن، رئيس مجلس كتّاب العدل، إنّ مكاتبهم شهدت موجة عارمة للعرض والإيداع الذي يتيح للمدين إبراء ذمته، حيث “تمسّك كلّ مدين بما يراه مبرئًا لذمته، الشريحة الأكبر اعتمدت سعر الصرف الرسمي الذي كان سائدًا قبيل الأزمة والبالغ 1507 ليرات للدولار الواحد، أو سعر 15000، المحدد بتعميم مصرف لبنان، مع حلول شهر شباط 2023، أو سعر الـ 8000 المعتمد من قبل المصارف”. ورأى الخازن أنّ دور كتّاب العدل يقتصر على تنظيم محضر لإثبات العرض والإيداع، على وجه نافٍ لكلّ التباس، ويبلّغ الدائن نسخة عنه من دون إبطاء، فإمّا أن يقبل العرض والإيداع وبالتالي تُبرأ ذمة المدين، وإما أن يرفضه، لينتقل النزاع إلى المحاكم المختصّة.

ومع نقل النزاعات إلى القضاء، صدرت أحكام عدّة، بعضها تمسّك بالسعر الرسمي والبعض الآخر اعتمد سعر “صيرفة”، نذكر منها القرار رقم 427/2022 تاريخ 29/6/2022 والقرار رقم 389/2022، تاريخ 26/5/2022، الصادريْن عن محكمة الاستئناف المدنية في بيروت، برئاسة القاضي أيمن عويدات.

وفي ظلّ تباين الاجتهاد القضائي، وعدم توحيده على مستوى الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، أوضحت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم لـ “المفكّرة” أنّها سعت جاهدة، إلى تلافي هذه الأزمة والتخفيف منها على القضاء، عبر تكليف لجنة ضمّت خبرات قضائية وحقوقية وفقهية لدراسة ومقاربة الواقع والتحديات والتجارب الوطنية السابقة كما العالمية، للتوصّل لمشروع قانون يرمي لتوحيد سعر الصرف المعتمد أمام القضاء، إلّا أنّ خلافات عدّة حالت دون تحقيق المرتجى، وبقي الصمت التشريعي سيّد الأزمة.

يجمع الاختصاصيون على أهمية وضرورة إقلاع المشرّع عن صمته، إلّا أنّ صدور قانون يحدد سعر الصرف الموحّد الواجب اعتماده، وإن شكّل خطوة جوهرية لحل الأزمة، ولكنّه يعالج بعض نتائج الأزمة فقط، لا جذور أسبابها. ويؤكّد زبيب أنّ “سعر الدولار يبقى مجرّد وسيلة لا هدفًا”. إذ أنّ الإشكالية تكمن في “المداخيل والأسعار، إذ يجب ربط الإيجار بالمداخيل كأن لا تتجاوز قيمة بدل الإيجار والخدمات نسبة 28% من السلة الاستهلاكية الوسطية، وفق إدارة الإحصاء المركزي”.

بدورها تؤيد المحامية والأستاذة الجامعية يمنى مخلوف فكرة عدم كفاية القانون إذا لم يترافق مع سياسات إصلاحية، نقدية، اقتصادية، سكانية عادلة، وسياسات تمنح الثقة للمستثمرين. وتضيف: “لو تدخّل المشرّع على أرض الواقع، الناس ما رح تلتزم، بل يمكن أن توقف التعامل والتداول الاقتصادي”. وتذكر على سبيل المثال ما يلجأ إليه بعض المالكين اليوم من تضمين عقد الإيجار بندًا صريحًا يؤكّد أنّ التداول بالدولار هو الدافع للتعاقد، وفي حال بطلان هذا البند، ينسحب على العقد ككل، ما يكبّل القاضي بمفهوم البند الدافع للتعاقد، وبالتالي يبدد إمكانية السماح للمستأجر بالإيفاء بالعملة الوطنية، مهما كان سعر الصرف.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، قرارات قضائية ، تشريعات وقوانين ، الحق في السكن ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني