محاكم العجلة ليست في عجلة وفرز بين الملحّ والأقلّ إلحاحًا


2024-05-18    |   

محاكم العجلة ليست في عجلة وفرز بين الملحّ والأقلّ إلحاحًا

تسكن ليلى منذ زواجها قبل عشر سنوات في شقة اشترتها هي وزوجها. بعد شهور قليلة، بدأت تلاحظ تسرّبًا للماء في السقف. تحدثت إلى مالك الشقة العلوية لإصلاح العطل، إلّا أنّه رفض. واستمرّت محاولاتها معه سنوات واستمرّ هو بالرفض. في هذا الوقت “انتشر العفن على السقف والجدران حتّى بات لونها أسود، وأصبحت رائحة الرطوبة تملأ البيت”، على ما تروي ليلى لـ “المفكرة القانونية”. وقد أدّى ذلك إلى إصابتها هي وأولادها بالحساسية. بعد سنوات وتحديدًا في العام 2021 تقدّمت بدعوى أمام محكمة الأمور المستعجلة علّها ترفع الضرر عنها. لكن على خلاف ما يوحيه اسم هذه المحكمة، لم يصدر حكم في الدعوى حتّى اليوم. 

تقول ليلى: “حين تقدّمت بالدعوى القضائية كنت أتوقّع أن تُحلّ مشكلتي، لكن مرّت ثلاث سنوات من دون صدور حكم وفي كل مرّة تؤجّل الجلسة لأسباب مختلفة”. 

تختلف تجارب المتقاضين أمام قضاء الأمور المستعجلة، محامون يشكون من تأخّر البتّ في الملفّات وقضاة يُحيلون السبب إلى سوء توزيع الأعمال والنقص في عدد قضاة العجلة الذي يصل إلى نحو 34 قاضيًا وقاضية في مختلف المحافظات، بالإضافة إلى ما تُعانيه جميع المحاكم جرّاء الأزمة الاقتصادية وما نتج عنها من اعتكافات. ولكن يتّفق جميع من تحدثت إليهم “المفكّرة” من جميع الأطراف، على أنّ البتّ بالدعاوى “على وجه السرعة” كما يتصوّرها القانون لا يُمكن أن يتحقّق بهذا العدد القليل من القضاة. وعليه يجد محامٍ التقته “المفكرة” أمام قاعة محكمة الأمور المستعجلة في بيروت أنّه “في حال تمكّنت من الحصول على حكم خلال شهرين أو ثلاثة أشهر يعني بيتي بالقلعة”. ويشكو المحامون من تأخّر صدور الأحكام الذي يمتدّ لأشهر وأحيانًا لسنوات كحالة ليلى، وإن كانت بعض الملفات تستوجب صدور الحكم خلال ساعات مثل حالات العنف الأسري لكنّ القضاة رغم محاولتهم العمل بسرعة يصدرون حكم الحماية خلال ما يقارب الأسبوع. وتختصر محامية أخرى التقتها “المفكرة” في قصر العدل في بيروت هذه الإشكالية بهذا المثال: “إمرأة تتعرّض للتعنيف على يد زوجها، تتقدّم بدعوى حماية فلا يصدر الحكم قبل أسبوع، فيما الخطر على حياتها لا يُمكن تجميده لأسبوع”. 

يعرض هذا التحقيق أهمّية قضاء العجلة في حماية حقوق المواطنين والمقيمين، ويبحث في أبرز أسباب تأخّره في البتّ بالدعاوى، مستندًا إلى الإحصائيات المتوفّرة حول موارده وإنتاجيته، مع التركيز على دوره في ثلاثة أنواع من القضايا التي تُعرض أمامه وهي: وطلبات الحماية الخاصّة بالنساء المعرّضات للعنف الأسري، النزاعات الخاصّة بالسكن والإيجارات، والدعاوى ضدّ المصارف. 

التعدّي على الحقوق يفترض “العجلة”

تشرح قاضية في محاكم العجلة في حديث مع “المفكرة” أنّ “قضاء العجلة له اختصاص محدّد، وإجراءاته مبسّطة، ويبتّ بالملفات بشكل أسرع من المحاكم العادية”. وتُضيف: “يلجأ إليه المتقاضون في حالات معيّنة حين يكون هناك تعدٍ على الحقوق، ويبتّ القاضي بالملف بالصورة المستعجلة من دون التعرّض إلى أصل الحق ويتّخذ التدابير السريعة في القضايا المدنية والتجارية ملتزمًا بالحالات التي حدّدها القانون”. وتشرح أنّ القاضي “يتخذ التدابير السريعة الآيلة إلى إزالة التعدّي الواضح على الحقوق، كحالات تهديد سلامة بناء، أو تسرّب المياه في الجدران من شقة على شقة المدّعي”. وتُتابع أنّ “قاضي العجلة ينظر أيضًا في قضايا الديون، إذ يُمكنه اتخاذ قرار منح الدائن سلفة وقتية على حساب حقّه في الحالات التي يرفض فيها المستدين دفع الدين”. وتشرح أنّ “قرارات قاضي الأمور المستعجلة معجّلة التنفيذ بدون كفالة ما لم يأمر القاضي بتقديم كفالة، وله عند الضرورة أن يأمر بتنفيذ القرار على أصله”، ممّا يسهّل من إجراءات تنفيذ هذه القرارات بشكل سريع مقارنة بغيرها من القرارات.

هو “قضاء حلو، واسع ومتشعّب” يقول أحد القضاة الذين قابلتهم “المفكّرة”. ويشرح أنّ “قانون أصول المحاكمات المدنية حدّد في المادّة 579 اختصاص قضاء الأمور المستعجلة وحدّد الإجراءات والمبادئ العامّة، كما فتح الباب أمام القاضي لاتخاذ التدابير الآيلة إلى إزالة التعدّي الواضح على الحقوق”. إضافة إلى ذلك، “هناك قوانين أخرى شملت اختصاص قضاء العجلة، منها قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري الذي تلجأ إليه النساء لطلب الحماية، وقانون تنظيم الهيئة التعليميّة في المعاهد الخاصّة الذي يُمكّن أفراد الهيئة التعليميّة من الاعتراض على القرارات الصادرة في حقّهم أمام قاضي الأمور المستعجلة، وكذلك  قانون الدولار الطالبي رقم 193 الذي صدر في 16 تشرين الأوّل عام 2020″. ويلفت القاضي إلى أنّ أهمية قضاء العجلة تكمن في “تمتّع القاضي بصلاحية فرض تدابير تتجاوز مطالب المدّعي، أي أنّ بإمكانه اتخاذ التدبير الذي يجده أنسب لحماية الحقوق حتّى لو لم يطلبه المدّعي”. 

من جهة أخرى، يتطلّب اللجوء إلى قضاء العجلة كلفة مالية قد تحول دون تقاضي بعض الفئات الاجتماعية أمامه، رغم إجراءاته المبسّطة والسريعة. فتوكيل محام هو إلزامي أمام قضاء العجلة وفقًا لقانون تنظيم مهنة المحاماة باستثناء الطلبات الرجائية وطلبات الحماية بموجب قانون الحماية من العنف الأسري. وغالبًا ما تتخطى كلفة مصاريف الدعوى 400 دولار وفقًا لبعض المحامين، وهي تشمل الرسوم القضائية، والطوابع وتصوير الأوراق، وكلفة تعيين خبير، عدا عن كلفة إجراء التبليغات التي غالبًا ما تتطلّب دفع كلفة لانتقال الكاتب أو المباشر القضائي والتي تبدأ من 10 دولارات وقد ترتفع حسب مكان التبليغ وصعوبته.  

تراكم الملفّات يفرض الفرز بين المستعجل والملحّ  

واجه القضاء أقسى الظروف في السنوات الأربعة الأخيرة، أزمة اقتصاديّة ومالية أدّت إلى اعتكافات متكررة للقضاة وإضرابات للمساعدين القضائيين كذلك إضراب المحامين. كلّ ذلك عزّز التأخّر في البتّ بالملفات أمام قضاء العجلة. كما أنّ النقص في أعداد القضاة، وتكليف القضاة للعمل في أكثر من غرفة، نتيجة عدم إصدار تشكيلات قضائية منذ العام 2017، يُسهم في تراكم الملفات. تسأل ليلى التي روينا قصّتها في المقدمة: “لماذا يُسمّى القضاء المستعجل؟ أليس لأنّه من المفترض أن يبتّ بالقضايا بشكل سريع؟ لو كان بيدي أن أبيع الشقة لفعلت، لكن من يشتري شقة تُعاني من النش، فلو عرضتها بأرخص سعر لن يشتريها أحد”.

ويشرح أحد المساعدين القضائيين لـ “المفكرة” أنّ “القضاة يبذلون ما في وسعهم للبتّ بقضايا العجلة لكنّ العدد القليل للقضاة يحول دون تحقيق أمنيات المدّعين”. ويُضيف: “نعمل طيلة أيّام الأسبوع ولـ 24 ساعة في اليوم، حتّى أننّا نعمل في العطل والأعياد، نحن المحكمة الوحيدة التي لا تستريح، مثلنا مثل النيابة العامّة”. وبالفعل، يُتيح القانون لقاضي العجلة أن يدعو الخصوم خلال مهل قصيرة لحضور جلسات ليس فقط في المحكمة بل أيضًا في “مسكنه” أو في “موقع النزاع” و”حتى في أيام العطلة الرسمية وخارج أوقات العمل القانونية” (المادة 582 من قانون أصول المحاكمات المدنية). 

ويلفت المساعد إلى أهمية دور قضاء العجلة، مشيرًا إلى “قرار حظر التجوّل الذي صدر بعد انتشار جائحة كورونا، إذ استثنى المساعدين القضائيين لدى محكمة الأمور المستعجلة وسمحوا لنا بالتنقّل”. ويُضيف: “وخلال الاعتكافات، لم يعتكف القضاة بصورة شاملة، بل كانوا يستثنون الملفات الملحّة مثل (طلبات) الحماية أو الخطر على الحياة، أمّا في الحالات التي لا ترتبط بخطورة على الحياة مثل مشاكل النش كنّا نقول أنّنا في إضراب. في النهاية نحن موظفون ولدينا حقوق وما عسانا نفعل لنحصّلها؟”. 

وأكدّ المحامون والمحاميات الذين قابلتهم “المفكرة” بدورهم أنّه بسبب تراكم الملفّات أمام قضاة العجلة، يذهب البعض منهم إلى تحديد مدى إلحاح الملف المعروض أمامهم، مثل تصنيف قضايا الخطر على الحياة من ضمن الملفات الملحّة فيما تُرحّل جلسات قضايا النش والخلافات بين السكّان لشهور. ويختلف هذا الأمر بين القضاة، حيث يتمكّن المتفرّغون منهم من تحديد أمد أقصر بين الجلسات، فيما أكدّ بعض المحامين أنّ هناك قُضاة يعيّنون الجلسة بعد خمسة أشهر. ويلفت المحامي نجيب فرحات إلى أنّ “أسلوب تعامل بعض القضاة مع الدعاوى متفاوت من قاضٍ وآخر، إذ نشهد أنّ بعض القضاة لا يأخذون الملفات على محمل الجد، وأحيانًا يعتبرون أنّها لا تتطلب العجلة”. ويؤكد أنّه “في الوقت الذي يتمتّع قاضي العجلة بالقدرة على تقصير المهل واتخاذ القرارات من منزله، فإنّ الدعاوى تؤجّل لوقت طويل وهذا يتنافى مع ضرورة البتّ بها بسرعة”.

تأمين الحماية تعذّر لعشرات النساء

خلال مرحلة اعتكاف القضاة  الذي استمر لنحو ستّة أشهر عام 2022، نظمت جمعيّة “كفى (عنف واستغلال)” حملة على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان “اعتكاف القضاة يُعرقل حماية النساء” وثّقت خلالها أعداد القضايا التي تعذّر البت فيها بسبب الاعتكاف، من بينها 90 طلب حماية من العنف لم تتمكّن الجمعيّة من تقديمها بين 23 آب و25 تشرين الثاني عام 2022. وكذلك رفعت الجمعيّة الصوت في بيان في تاريخ 22 آب 2022 أشارت فيه إلى أنّ قضاة محكمة التنفيذ يرفضون تنفيذ أحكام صادرة عن قضاء العجلة بسبب الاعتكاف. 

تلفت المحامية فاطمة الحاج من “كفى” إلى أنّ “مُعظم المشاكل التي واجهناها في قضايا حماية النساء من العنف الأُسري كانت خلال اعتكاف القضاة والمساعدين القضائيين، وقد أثّر ذلك بشكل مباشر على حماية النساء من العنف”. وتُضيف: “في الواقع تفاوت تعامل القضاة مع هذه القضايا خلال الاعتكاف، إذ كان بعض القضاة يبتّون بقضايا الحماية حتّى لو كانوا معتكفين فيما البعض الآخر يرفضون ذلك”. وتلفت إلى أنّه “تعذّر تأمين الحماية لعشرات النساء، وما شهدناه في فترة الاعتكاف كان كارثيًا”.  

وبشكل عام تشير الحاج إلى وجود تحديّات تواجه النساء اللواتي يتقدّمن بطلبات الحماية أمام قضاء العجلة، بخاصّة لناحية أسلوب تعاطي بعض القضاة مع طلبات الحماية، قائلة: “دائمًا ما نتوجّه للقضاء بطلب إبعاد المعنّف عن المنزل، لكن هناك قضاة يصدرون أحكامًا بمنع التعرّض للضحية فقط، وهذا يعني أنّ المعنّف سيبقى متواجدًا معها في المنزل نفسه”. وتشرح بأنّ “ذلك يعود إلى ذهنيّة القضاة الّذين لا يعرفون أهميّة وجوهر قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، وبالتالي يذهبون إلى مراعاة خاطر المعنّف”. ولهذا السبب، تضطرّ جمعيّة “كفى” إلى “سلوك مسار قضائي مختلف في حال لم تتمكّن من تأمين الحماية عبر قضاء العجلة، فتذهب لتقديم دعوى جزائية لدى القاضي المنفرد وتأمين ملجأ لإقامة الضحية” وفقًا لتعبيرها. 

وفي المقابل “هناك قضاة يلبّون طلبات الحماية بالسرعة القصوى ويُصدرون قرارات حماية للنساء والأولاد خلال يومين، فيما هناك قضاة يذهبون إلى اتباع إجراءات الدعوى المدنيّة العاديّة، فيطلبون مستندات ويستدعون الخصم ممّا يُطيل أمد الدعوى ويؤخّر تأمين الحماية من الخطر”. وتلفت الحاج إلى أنّ “الذهنيّة الذكوريّة” موجودة لدى بعض القضاة وهي تمنع حماية المرأة بالشكل المطلوب، حيث أنّ تقييم الخطر يتفاوت من قاض إلى آخر. وتُضيف  أنّ “الخطر الذي تعيشه المرأة يتطلّب استدراكه على وجه السرعة، وإصدار قرار حماية للمرأة في أسرع وقت، ويُمكن للقاضي لاحقًا التثبّت من الوقائع لأنّ روحية طلب الحماية أمام قضاء العجلة هو حماية المرأة المعرّضة للعنف من الخطر”. 

نزاعات السكن والإيجار: بطء في البتّ بالدعاوى 

يخرج خليل من قاعة المحكمة بعد انتهاء جلسته التي يدّعي فيها صاحب الملك أنّه يحتلّ محلًا تجاريًا كان قد استأجره قبل سنة ونصف السنة. يروي لـ “المفكرة” أنّ “صاحب الملك رفض توقيع عقد معي حين استأجرت المحل، كما أنّه طيلة فترة وجودي في المحل كان يأخذ الإيجار الشهري ويرفض منحي إيصالًا”. ويلفت خليل إلى أنّ صاحب الملك طالبه بإخلاء المحلّ وحين رفض “تقدّم بدعوى ضدّي أمام قاضي الأمور المستعجلة قبل خمسة أشهر، واتّهمني بأنني أشغَل المحلّ من من دون مسوّغ شرعي، وحتّى اليوم لم يصدر الحكم”. 

يشرح المحامي شادي اسحق من “مرصد السكن” التابع لاستوديو أشغال عامّة أنّ “دعاوى الإيجارات هي من اختصاص محكمة الإيجارات أو التنفيذ، إلّا أنّ بعض القضايا المتعلّقة بالإيجارات تدخل في اختصاص قضاء العجلة”. ويلفت إلى أنّه إلى جانب دعاوى الإشغال من دون مسوّغ شرعي هناك الدعاوى التي تتّصل برفع تعدّ على الحق مثال قضايا النش أو طلب تعيين خبير عقاري”. وتستنزف هذه القضايا طاقة المحاكم حيث غالبًا ما تؤدّي الإجراءات إلى تأخير البت بالدعوى، حتّى أحيانًا في حالات الخطر.  

يُعدد اسحق الأسباب العديدة التي تؤدّي إلى بطء عمل محاكم العجلة بشكل عام وفي القضايا السكنية بشكل خاص مثل قضية ليلى، مشيرًا إلى “تحديد أمد الدعاوى الطويل بين جلسة وأخرى”، كما الإجراءات العادية المتعلقة بتبادل اللوائح واستمهال الخصوم للجواب. ويلفت إلى أنّ “الخصوم عادّة ما يبتكرون أساليب للمماطلة بالدعاوى، مثلًا يأتي المدّعى عليه من دون توكيل محام، فيطلب الاستمهال لتعيين محام، وحين يأتي المحامي يطلب الاستمهال للاطّلاع على الملف، وبعدها تؤجّل الجلسة لتعيين خبير، ثمّ يتأخّر الخبير في الكشف وفي تسليم تقريره للمحكمة، ثمّ يطلب المدعى عليهم الرد على تقرير الخبير، وهكذا دواليك، فلا تتمكّن المحكمة من البت في الملف قبل سنة أو سنتين”. ويلفت إلى أنّه “أحيانًا يرفع المدعى عليه دعوى مضادّة ممّا يؤخر البت بالملف”. 

ويعطي المحامي اسحق مثالًا عن الحالات التي تستوجب تعيين خبير، وهو خطر انهيار مبنى ويقول إنّه “غالبًا ما نواجه التأخّر في البتّ بطلبات تعيين الخبير، أو أحيانًا يتمّ تعيين خبير يسكن خارج نطاق المحافظة فيتأخّر الكشف، عدا عن مماطلة الخصوم بتسليف الخبير”. ويُشير إلى أنّه “حتّى في هذا النوع من الدعاوى التي يبدو فيها الخطر واضحًا، يتفاوت التعامل معها بين محكمة وأخرى فقد يرجئ بعض القضاة ملفًا من هذا النوع لستّة أشهر”. ويعتبر اسحق أنّ “هذه الإجراءات يمكن اختصارها ببعض الخطوات، مثال تعيين خبير على القوس بدلًا من تأجيل الجلسة، وإمهال الخبير فترة زمنية قصيرة للكشف وتسليم تقريره إضافة إلى اختيار خبير يسكن في القضاء”. 

ويلفت اسحق إلى أنّه “أحيانًا في حال أخذت القاضية فرصة مرضية طويلة مثل فرصة الأمومة، يتمّ تكليف قاض محلّها، لكنّ صلاحياته محدودة ولا يمكنه إصدار الأحكام”.

أموال المودعين: اختصاص قضاء العجلة أم خارجه؟

أوقعت الأزمة الاقتصادية القضاء في حيرة حين انهالت عليهم الدعاوى ضدّ المصارف من المودعين الّذين قصدوا قضاة العجلة للمطالبة باستعادة ودائعهم. وظهرت أيضًا أساليب متفاوتة في التعامل مع هذه القضايا، فهناك محاكم قبلت النظر في هذه الدعاوى فأصدرت العديد من الأحكام لصالح المودعين، فيما رفضت محاكم أخرى (ومنها في بعبدا) من البداية استلام هذه الدعاوى معتبرين أنّها خارج اختصاصهم وأنّها تتطلّب النظر في أساس النزاع أي مناقشة العقود المبرمة بين المودع والمصرف. وصدرت أحكام عدّة لصالح المودعين في بيروت اعتبر فيها القضاة أنّ “أي تقييد لحقوق المودعين من المصارف إنّما يشكّل تعدّيًا واضحًا على حقوقهم”. وذهبت أحكام أخرى إلى اعتبار أنّ “المصارف أسهمت بصنع الأزمة، وأنّ الأزمة شكلت بالنسبة إلى المصارف حدثًا متوقعًا ومن صنيعتها ممّا يمنعها من التذرّع بالقوّة القاهرة في امتناعها عن سداد الودائع”. 

تقول المحامية دينا أبو زور من رابطة المودعين إنّ “الأحكام التي صدرت في بداية الأزمة الاقتصاديّة أعطت المودعين ثقة في إمكانية استرجاع ودائعهم عبر قضاء العجلة، لكنّ ذلك تغيّر مع تطوّر الأزمة الاقتصاديّة”. وتشرح أنّ “طريقة تعاطي محاكم العجلة مع هذه القضايا تغيّر، وبات قضاة العجلة يرفضون هذه الدعاوى معتبرين أنّها خارج اختصاصهم، علمًا أنّ من بين من باتوا يرفضون هذه الدعاوى كانوا قد أصدروا مسبقًا أحكامًا في هذا النوع من الدعاوى”. وتلفت إلى أنّ “أحد الأحكام الذي صدر عن محكمة التمييز والذي اعتبرت فيه المحكمة أنّ هذه الدعاوى خارجة عن اختصاص قضاة العجلة كان أمرًا أساسيًا في تغيّر طريقة تعاطي القضاة مع هذه القضايا”. كما تُشير إلى أنّه “بات من غير الواضح الآن ما إذا كانت محاكم العجلة تنظر في هذه القضايا، فأحيانًا يرفضها القضاة وأحيانًا أخرى يقبلونها لكن يتأخرون في البت فيها، وفي حال قبولها غالبًا ما يكون الملف متعلّقًا بحالة إنسانيّة مثل الحالات التي يتقدّم فيها مودع بدعوى لاستلام قيمة عملية جراحية”. 

انخفاض في الموارد والإنتاجية 

ينتمي قضاة العجلة إلى أقسام القضاة المنفردين في مختلف المناطق اللبنانية. وبحسب أرقام مجلس القضاء الأعلى، يتولّى حاليًا نحو 34 قاضيًا وقاضية النظر في قضايا الأمور المستعجلة في 35 محكمة في مختلف المناطق اللبنانيّة، من بينهم سبعة قضاة منتدبين من خارج التشكيلات القضائية بالاتفاق بين مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل لملء الشغور في هذه المحاكم. وفي بعض المناطق، لا يكون هؤلاء القضاة متفرغّين لقضايا العجلة، بل غالبًا ما ينظرون في قضايا أخرى تدخل ضمن اختصاص القضاة المنفردين. وهذا العدد يُعدّ قليلًا نسبة إلى مسؤولية هذه المحاكم في البتّ بالملفات بشكل سريع. 

وقد بدأت نتائج النقص في أعداد القضاة وتراكم الملفات تظهر بشكل جليّ بعد الأزمة الاقتصاديّة وفقًا للإحصائيات التي حصلت عليها “المفكّرة” من قلمي محاكم العجلة في بيروت وبعبدا حول أعداد الدعاوى الواردة إليها والقرارات الصادرة عنها بين عامي 2018 و2023. 

وقبل المضي في عرض هذه الأرقام، يُشار إلى أنّها تنحصر بتلك المتعلّقة بالدعاوى فقط فيما تستثني الأوامر على العرائض والطلبات الرجائية (التي لا يوجد فيها خصومة) وملفات تعيين الخبراء، والتي تبتّ فيها المحاكم من دون عقد جلسات، وبالتالي لا تُدرج قراراتها في جدول الأحكام، رغم أنّها من ضمن الأعمال التي تُرهق هذه المحاكم. 

في بيروت، تضمّ محكمة العجلة قاضيتين (هالة نجا وماري كريستين عيد)، بالإضافة إلى القاضية كارلا الشوّاح التي تمّ انتدابها إلى قضاء العجلة في عام 2018، والقاضية أماني مرعشلي التي تمّ انتدابها أيضًا قبل نحو شهرين، لكنّهما غير متفرّغتين لمحكمة العجلة إذ تتولّى كلّ منهما العمل في غرفة قضائية أخرى. 

ويظهر من الإحصائيات المتوفّرة أنّ لجوء المتقاضين إلى محاكم العجلة في بيروت لم يتأثّر كثيرًا خلال الأزمة. إذ بلغ عدد الدعاوى المقدّمة في العام 2018، 690 دعوى، فيما انخفض تندريجيًا وصولًا إلى 590 دعوى في العام 2022 ثمّ عاد وارتفع إلى 632 في العام 2023. أمّا العام 2020، فقد شهد ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الدعاوى الواردة التي بلغت 858 دعوى. وقد يعود ذلك إلى ارتفاع عدد الدعاوى المقامة من المودعين ضدّ المصارف أمام قضاء العجلة للمطالبة باسترجاع ودائعهم وتحويل الأموال للطلاب في الخارج، علمًا أنّ معظم مقرّات المصارف تقع ضمن نطاق محكمة بيروت. 

في المقابل، يظهر أنّ أعداد الأحكام الصادرة في الدعاوى من قبل محاكم العجلة في بيروت قد انخفض بشكل ملحوظ بدءًا من العام 2020. ففي حين أصدرت هذه المحاكم 777 حكمًا في العام 2018، انخفض هذا العدد إلى 155 في العام 2022 الذي شهد اعتكافًا مطوّلًا للقضاة، ثم ارتفع إلى 310 أحكام في العام 2023 من دون أن تصل الإنتاجية في إصدار الأحكام إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.

نجد توّجهات شبيهة في الإنتاجية لدى محكمة العجلة في بعبدا ضمن محافظة جبل لبنان التي يوجد فيها قاضيان فقط (فرح حاطوم والياس مخيبر). فقد انخفض عدد الدعاوى المقدّمة إليها من 416 دعوى في العام 2018 إلى 252 في العام 2021، ليعود ويرتفع إلى 454 دعوى في العام 2023. في المقابل، انخفض عدد الأحكام الصادرة في الدعاوى بشكل ملحوظ من 465 حكمًا في العام 2018 إلى 84 حكمًا في العام 2021 و86 حكمًا في العام 2022 الّلذين شهدا اعتكافات للقضاة والمساعدين القضائيين والمحامين، ليعود ويرتفع نسبيًا إلى 235 حكمًا صادرًا في العام 2023 .  

مطالب بتفرّغ القضاة لمحاكم العجلة 

يتّضح من خلال النقاشات التي أجريناها مع محامين ومتقاضين وقضاة، أنّ أكثر ما يُعرقل عمل محاكم العجلة هو النقص في عدد القضاة الذين ينظرون في القضايا المستعجلة، وهو ما يرتبط بإصدار تشكيلات قضائية جديدة وبحسن توزيع الأعمال في أقسام المحاكم لترشيد الموارد البشرية. ويشرح قاضٍ لـ “المفكرة” أنّ “القانون واضح ويجب تطبيقه ولا نحتاج إلى تشريع جديد، بل نحتاج إلى قضاة متفرّغين وقادرين على البت بالملفات على وجه السرعة”. يؤيّد المحامي نجيب فرحات الأمر مشيرًا إلى “ضرورة توزيع الأعمال بشكل فعّال، وتفرّغ القضاة للمحكمة. فالقضاة يتولّون أكثر من غرفة في الوقت نفسه وهذا يُراكم عليهم العمل”، مؤكدًا أنّ “تعدّد مهام القاضي تؤثر على عمله بشكل عام”. 

وتصدر ملاحظات عن بعض المحامين أيضًا على أداء بعض القضاة الذين يلفتون إلى أنّ النظر في قضايا العجلة يتطلّب تعيين قضاة “راغبين في العمل في هذه المحكمة وقادرين على تطوير وتوسيع اجتهادهم في قضاياها”. وذلك يتطلّب النظر في عاملين، وهما خبرة القضاة الّذين يعيّنون في قضاء العجلة، ومدى اندفاعهم للعمل. “وفي غياب هذين العاملين، فإنّ إمكانيّة الوصول إلى الحق تُصبح عملية صعبة” بحسب المحامي شادي اسحق. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم مدنية ، مصارف ، قرارات قضائية ، الحق في السكن ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني