بهدف درس كيفية تطبيق قانون حماية النساء وسائر أعضاء الأسرة من العنف الأسري (2014)، استحصلنا على قرارات الحماية الصادرة خلال سنة 2018 في دائرة القضاء المستعجل لدى محكمة بعبدا. وقد شملت القرارات 23 قراراً هي بمثابة أمر على عريضة وقرارين صادرين تبعاً لاعتراض أحد المتقاضين على قرار حماية صادر بوجهه. وقبل المضي في تحليل هذه العيّنة، يجدر التذكير بأنّ المجال القضائي يبقى مجالاً غير مؤات للبحث العلمي بالنظــر إلى صعوبــة الاســتحصال عـلـى القــرارات والملفــّات القضائيــة أو معرفــة خصائصهــا أو التيقّن من الحصول على جميع الأحكام الصادرة في فترة معيّنة، في ظل غياب المكننة.
1- بمَ تخبرنا طلبات الحماية؟
في هذا المجال، سنعمد إلى تحديد المواصفات الأساسية لطلبات الحماية أملاً في أن نستشفّ منها المعطيات الاجتماعية والظروف والدوافع لتقديمها.
هنا أمكن تصنيف طالبي الحماية ضمن فئتين:
فمن الناحية الجندرية، نلحظ أنّ هنالك 23 امرأة قدمن طلبات حماية (2 منهنّ قدمن طلباً مشتركاً)، مقابل 3 رجال. ويلحظ هنا أنّ أحد الرجال قدّم طلب حماية ليس بصفته الشخصية إنما بصفته وليّ أمر ابنته بوجه طليقته الحائزة على الحق بحضانتها.
أما من ناحية علاقة القربى بين طالبي الحماية والمطلوب الحماية بوجههم، نلحظ أنّ 19 منهم تقدّموا بطلباتهم كأزواج بوجه أزواجهم (منهم 18 زوجة وزوج رجل واحد) وأنّ 3 منهم تقدّموا بطلباتهم كبنات ضد آبائهن (إحداهنّ بواسطة أمّها المنفصلة عن أبيها)، بالإضافة إلى أمّ وأخت تقدّمتا معاً بطلب حماية ضد الإبن/الأخ وزوجته. يضاف إلى هؤلاء طليقان، أحدهما تقدّم بصفته وليّ أمر ابنته بطلب حماية بوجه طليقته، فيما الثاني تقدّم بطلب مماثل بصفته الشخصية وبصفته وليّ أمر أولاده بوجه الطليقة وزوجها.
في هذا الإطار، نتبيّن أنّ 8 جهات مستدعية رمت إلى حماية نفسها من العنف حصراً. أمّا القسم الأكبر من طلبات الحماية (18)، فقد شملت طلباً بحماية الجهة المستدعية وأولادها أو أعضاء آخرين من الأسرة (الأهل والأخوة).
هنا، سنحاول تبيان حالات العنف المدلى بها انطلاقاً من طلبات الحماية.
أوّل ما نلحظه في هذا المجال هو أنّ أنواع العنف التي ورد ذكرها بشكل متكرر انحصرت عموماً في العنف الجسدي (24) والعنف المعنوي (21) والعنف الاقتصادي (9)، علماً أنّ 7 من الطلبات تضمّنت جميع أنواع العنف هذه وأنّ 13 منها ذُكر فيها نوعان من هذه الأنواع الثلاثة. في المقابل، لم يُذكر العنف الجنسي إلّا في طلب حماية واحد ورد من زوجة ادّعت اغتصابها من قبل زوجها، علماً أنّ هذا الطلب أشار إلى حصول أنواع أخرى من العنف. وقد يؤشر هذا الأمر إلى استمرار الحرج لدى النساء في إثارة هذا النوع من العنف لدى المحاكم.
وبالغوص في التفاصيل، نتبيّن من طلبات الحماية أنّ بعض حالات العنف الجسدي المدلى بها وصلت إلى حد تحطيم أسنان المستدعية أو الضرب بوحشية أو على الرأس. وقد وصل العنف في إحدى الحالات إلى شهر سكّين ومحاولة ضرب الزوجة بها.
أما العنف المعنوي المدلى به، فتمثل في شتم المستدعية بشتى العبارات غير الأخلاقية والنابية، أو تحقير دين الزوجة “يلعن صليبك”، “بدي (…) صليبك”، “ردّي السيارة يا (…)”، عدا عن السباب الذي ينهال عليها من زوجها “سواء في المنزل الزوجي أو خارجه عند مرور الجيرة إلى منزلهم لاستفزازها ورشقها بالاتهامات”، ناهيك عن التهديد بالقتل و”سفك دم المستدعية ودم أخواتها” في حال استمرارها في تقديم دعوى بطلان الزواج.
أما العنف الإقتصادي فقد تمثل وفق بعض المستدعيات بحرمانهنّ من النفقة ومنعهنّ من المصروف، أو بيع الأثاث.
العنف المدعى به
|
عدد الطلبات حسب نوع العنف
|
عدد الطلبات التي أخذت بها المحكمة بنوع العنف المدعى به
|
عنف جسدي
|
24
|
15
|
عنف اقتصادي
|
9
|
3
|
عنف معنوي
|
21
|
9
|
عنف جنسي
|
1
|
0
|
أكثر التدابير المطلوبة هي المنع من التعرّض (20). يلحظ أنّ المشرّع لم يُعرّف مفهوم “منع التعرّض”. إلّا أنّه عمليّاً، عند التقدم بطلب حماية، يلحظ ربط هذا المفهوم بنوع العنف المدلى به كأن يقال: “تتعرض للعنف بالضرب المتكرّر”، أو “لما كان المستدعى ضده لم ينفك من التعرّض للمستدعية”. وعليه، غالباً ما يقصد منه منع المستدعى بوجهه عن ممارسة العنف مستقبلاً.
التدابير الأخرى المطلوبة والتي نستعرضها تباعاً وفق عدد الطلبات الهادفة إليها، طلب النفقة (10) وطلب إخراج الزوج من المنزل (9)، فضلاً عن طلب استرداد الأغراض (4) وإعادة تأهيل الزوج (3) ومنع إلحاق الضرر بالممتلكات (2) وأخيراً منع المستدعى بوجهه من الاقتراب من منزل أهل المستدعية (الزوجة).
ويلحظ بشأن طلبات التأهيل أنّ أحدها ورد في موازاة دعوى طلاق، فيما لم يرد في ملف الطلبين الآخرين أي إشارة إلى دعاوى مماثلة، مما يرّجح في هذه الحالة رغبة الزوجة في استعادة حياة زوجية أقل عنفاً.
- مدى تزامن طلبات حماية مع دعاوى أخرى:
هنا نلحظ أنّ 91 طلب حماية جاء في إطار نزاع مستفحل بين الزوجين، بحيث ورد في موازاة مجموعة من دعاوى الطلاق والدعاوى الجزائية المقامة بينهما. ومن هذه الطلبات، نلحظ أنّ 8 طلبات حماية جاءت بموازاة دعاوى طلاق وجزائية معاً، 4 أخرى جاءت بموازاة دعاوى جزائية فقط و3 بموازاة دعاوى طلاق. وفي 3 حالات تقدمت طالبة الحماية بطلب حماية بدون ورود دعاوى أخرى، فيما يتبيّن من أحد ملفّات الطلبات استعداد الزوج لإقامة دعوى طلاق.
وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى أنّ طلبات الحماية تأتي في غالب الأحيان (11 من أصل 19 وهو مجموع الطلبات المقدمة من زوج بوجه زوج آخر) بهدف حماية الزوج موضوع العنف في الفترة الفاصلة بين الحياة المشتركة وبتّ دعاوى الطلاق. ويتأكّد ذلك من قلّة طلبات تأهيل الزوج، والتي انحصرت بثلاثة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ اثنتين من النساء اللواتي قدّمن طلب حماية، تراجعتا عنهما في إثر دعاوى طلاق مضادة قدمت من زوجيهما ضدهما، لتعلنا للمحكمة عن رغبتهما في العودة للحياة المشتركة. وقد ذهب تراجعهما في هذا الخصوص إلى حدّ التخفيف من مسؤولية زوجيهما من خلال القول إنه مارس العنف ضدهما في لحظة انفعال من دون أن يكون معنِّفاً بشكل منتظم. وهذا ما ورد في لائحة إحداهما: “لا تخشى المستدعية على الإطلاق أن يقوم زوجها بتعنيفها أو بضربها لأنه لم يسبق له أن فعل ذلك إلّا في ذلك اليوم بسبب انفعالها”، “صرحت المستدعية بأنّ زوجها لا يتعرّض لها مؤخراً لا بالإيذاء المادي ولا المعنوي وبأنه لا توجد أية مشاكل بينهما وكل ما تريده هو العودة إلى منزلها مع ابنتها”. قد يؤشر هذا التراجع إلى الضغط الذي استشعرته الزوجتان المذكورتان نتيجة وضعهما أمام احتمال الطلاق، سواء لأسباب تتصل بحضانة الأولاد أو بالظروف الاقتصادية للزوجين.
2-كيف تعامل القضاة مع طلبات الحماية؟
في هذا المجال، سندرس تباعاً مدى استجابة قضاة الأمور المستعجلة لطلبات الحماية، وذلك من زوايا عدّة.
- إجراءات النظر في طلبات الحماية ومدتها
ضماناً لحقّ الأفراد في الحماية من العنف الأسري، ألزم قانون حماية النساء وسائر أعضاء الأسرة من العنف الأسري القضاة المختصين (ومن ضمنهم قضاة الأمور المستعجلة) ببتّ طلبات الحماية “ضمن مهلة أقصاها ثمانية وأربعون ساعة” (المادة 13). وبمراجعة قرارات العيّنة، يتبيّن لنا أنّه تمّ الالتزام بهذه المهلة في 3 قرارات فقط، فيما قارب متوسط مدة إصدار قرار الحماية 32 يوماً، بما يتجاوز أضعاف المهلة المحددة قانوناً.
ومن أهم أسباب التأخير التي نستشفّها من طلبات الحماية، هي مبادرة القضاة إلى إجراء تحقيقات للتثبّت من حصول أعمال عنف وضرورة اتخاذ تدابير حماية. وعليه، استدعى القضاة طالب الحماية للاستماع في 13 حالة، كما تم تكليف هذا الأخير بإبراز بعض المستندات في 6 حالات. كما بادر عدد من القضاة إلى استدعاء المستدعى بوجههم (10 حالات) والشهود في حالتين، تمهيداً لاتخاذ القرار.
ويلحظ أنه وردت طلبات تأجيل لجلسات الاستماع من قبل المستدعى عليهم (3 حالات) وقد قبلت كلها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ القضاة الذين اتخذوا قرارات حماية ضمن المهلة عمدوا في الحالات الثلاث المشار إليها أعلاه إلى اتّخاذ قرار مؤقت احترازي بمجرد الإستماع إلى طالبة الحماية في غرفة المذكرة، مع دعوة المستدعى بوجهه للإستماع إليه في وقت لاحق. وبالرجوع إلى وقائع هذه القضايا، يتبيّن أنّ إحداها قُدمت من قاصرة (16 عاماً) بواسطة والدتها وأدلت فيها بأنّ والدها سحب عليها سكّيناً وهددها بالقتل، فضلاً عن تعنيفها أمام زميلاتها ومعلميها في المدرسة. أما الحالة الثانية، فقد أبرزت فيها طالبة الحماية تقريراً طبياً يثبت تعرّضها للعنف على نحو أدى إلى فقدان أسنانها. أما الحالة الثالثة، فقد تميّزت بوجود حكم جزائي سابق بحق الزوج بجنح القدح والذم والتهديد وأيضاً بوجود دعوى بطلان زواج قدمتها الزوجة والأهم بوجود تسجيلات صوتية وردت الإشارة إليها في متن القرار يتبيّن منها أنّ الزوج هدد زوجته بالقتل وحرق وجهها كذلك بالتعرّض لأشقّائها في حال لم تتراجع عن دعوى بطلان الزواج، فضلاً عن تسجيل صدر قبل يوم من تقديم طلب الحماية هدد فيه الزوج زوجته بتلويث يديه بالدم فور عودته من السفر.
صدر 17 قرار حماية في 25 معاملة، أي ما نسبته (68%) من المعاملات.
وبمراجعة الطلبات التي لم يستجب لها القضاة، نتبيّن الآتي:
- أنّ زوجتين تراجعتا عن طلبي حماية، وقد تم ذلك تبعاً لتقدم زوجيهما بدعوى طلاق،
- أنّ 3 منها كان قدّمها آباء، علماً أنّ هؤلاء طلبوا في إثنين منها حماية أنفسهم وأولادهم فيما طلب أحدهم حماية أولاده حصراً. كما يلحظ أنّ إثنين منهم كانا في حال طلاق. ويلحظ أنّه تمّ رد الطلبين الأوّلين لافتقارهما إلى “أي دليل وإلى الأساس القانوني لعدم انطباق أحكام القانون ولاسيما المادة 14 منه عليه”. وفي العموم، أدّى ردّ طلب الحماية للآباء إلى ردّ طلب الحماية للأولاد القاصرين، سنداً للماد 22 من القانون التي تعطي الصلاحية لقضاة الأحداث دون سواهم.
- أن طلباً واحداً تمّ ردّه لعدم الإختصاص المكاني،
وقد ردّت المحكمة طلبين آخرين لعدم تثبتها من وجود خطر يتّسم بالعنف الجسدي أو النفسي أو المادي.
- في نوع العنف المعترف فيه من قبل المحكمة:
أغلب حالات العنف المعترف بها هي حالات عنف جسدي (15)، يتبعها حالات عنف معنوي (9) ومن ثم حالات عنف اقتصادي (3). ولم يسجل في المقابل أيّة حالة حماية على خلفية عنف جنسي. وبالنظر إلى نسب الاستجابة لطلبات الحماية إزاء أنواع العنف هذه، نلحظ أنّ النسبة تصل إلى 62.5% في حالات العنف الجسدي فيما تنخفض إلى 42% في حالات العنف المعنوي لتصل إلى 33% فقط في حالات العنف الاقتصادي. وهذا الأمر إنما يعكس توجّهاً للقضاة لاتخاذ قرارات حماية أكبر عند وجود شبهة عنف جسدي فيما تراهم أكثر حذراً لإجابة الطلبات في حالات العنف الأخرى. ويلاقي هذا الحذر حذر المشرع إزاء أنواع العنف هذه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مجمل قرارات الحماية التي استندت لحصول أعمال عنف معنوي أو اقتصادي، استندت في الوقت نفسه لحصول عنف جسدي. في المقابل، استند 5 طلبات حصراً على العنف الجسدي. ويؤكّد هذا الأمر على حذر القاضي من الأخذ بهذين النوعين من العنف، بمعزل عن العنف الجسدي.
|
العنف الجسدي
|
العنف الاقتصادي
|
العنف المعنوي
|
العنف الجنسي
|
عدد الطلبات
|
24
|
9
|
21
|
1
|
عدد القرارات بإجابة الطلبات
|
15
|
3
|
9
|
0
|
عدد القرارات التي استندت حصراً على نوع واحد للعنف
|
5
|
0
|
0
|
0
|
أكثر التدابير المتخذة هو منع التعرّض تحت طائلة تسديد غرامة إكراهية وقد تم اتخاذها في 15 حالة، يلحقها تدبير استرداد الأغراض (4) ومن ثم تدبير الإخراج من المنزل أو منع الدخول إليه (3) والنفقة المالية تشمل كلّها نساء مع أولادهن (3) وأخيراً منع إلحاق الضرر بالممتلكات (2) ومنع الاقتراب من منزل أهل المستدعية (الزوجة) (1). في المقابل، ردّت المحكمة جميع طلبات التأهيل (3).
ونلحظ أنّ نسبة الاستجابة بلغت حدّها الأقصى (100%) بالنسبة إلى تدبيري استرداد الأغراض أو منع إلحاق الضرر بالممتلكات، تعقبها نسبة الاستجابة لاتخاذ تدابير منع التعرّض (75%). في المقابل، قاربت طلبات الإخراج من المنزل أو منع دخوله كما النفقة ثلث الحالات فقط.
تمّ تحديد مدّة التدبير في ثلاثة قرارات فقط من أصل 17 قرار استجابة لطلب الحماية، علماً أنّ جلّها اتصلت بالقيود على استخدام المنزل الزوجي (تدبير الإخراج من المنزل حيث مددت المدة في حالة أولى بأسبوعين وشهر في الحالة الثاني وتدبير منع الدخول إلى المنزل والتي حددت مدته بشهر).
- في شمول القرار على الأولاد:
أوضحت المادة 12 من هم الأشخاص الذين يلزم شمولهم في قرار الحماية على النحو الآتي: “يهدف أمر الحماية إلى حماية الضحية وأطفالها. أما باقي الفروع وسائر المقيمين معها، فيستفيدون من أمر الحماية إذا كانوا معرّضين للخطر، وكذلك المساعدون الإجتماعيون والشهود وأيّ شخص آخر يقدّم المساعدة للضحية، وذلك لمنع استمرار العنف أو التهديد بتكراره. يقصد بالأطفال المشمولين حكماً بأمر الحماية أولئك الذين هم في سن الحضانة القانونية وفق أحكام قوانين الأحوال الشخصية وسائر القوانين المعمول بها”.
فيما تم قبول طلب حماية الزوجة المستدعية في 15 من أصل 18 حالة، فإنّ قرار الحماية شمل الأولاد بالإضافة إليها في 8 حالات فقط. وبالنظر إلى الحالات التي رفض فيها القاضي اشتمال قراره الحمائي الأولاد، نلحظ أنّ الإبنة كانت راشدة في حالة واحدة منها.
- نشر هذا المقال في العدد | 63 | آذار 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
أربع جبهات للنساء ضدّ التمييز والعنف