ماذا يعني تجاهل القوات الأمنية والعسكرية في دستور سعيّد؟


2022-09-28    |   

ماذا يعني تجاهل القوات الأمنية والعسكرية في دستور سعيّد؟

لم تكن دسترة المؤسسات الأمنية والعسكرية في دستور 2014 اعتباطية، بل كانت من أهم العناصر التي دافعت عنها كتل المعارضة في المجلس الوطني التأسيسي. فقد أرادوا حينها إرساء حوكمة أمنية جديدة كعنصر هامّ من عناصر إرساء دولة القانون في الجمهورية التونسية الثانية. وقد كان هذا الخيار شبيهاً بما عرفته العديد من دساتير الدول الأوروبيّة التي أطاحت بأنظمة حكم ديكتاتورية على غرار القانون الأساسي الألماني والدستور الإيطالي والدستور الإسباني. 

تمثّل دسترة إصلاح الجهاز الأمني قاعدة هامّة للقطع مع التجاوزات والانتهاكات التي ارتكبت في حقّ المعارضين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في ظل النظام الاستبداديّ و”البوليسيّ” السابق. كما أنها مثّلت، في السياق التونسي، ردّا على التجاوزات الأمنيّة ضد الحراكات الاحتجاجية والاجتماعية بين 2011 و2013 خلال حكم الترويكا وأحداث الرشّ في سليانة في 2012. لذلك، قام مؤسّس دستور 2014 بتكريس هذه القيمة الدستورية لكلتا المؤسستين، في الفصول 17 و18 و19، مؤكّدا على طابعهما الجمهوري والمحايد ومؤطّرا لوظائفهما وأهدافهما.

لكنّ دستور سعيّد، على الرغم من نسخِه عشرات الفصول من دستور 2014، حذف تماما الفصول المنظمة للمؤسّستين الأمنية والعسكريّة. يأتي ذلك بعد أن لعبت المؤسستان دورا محوريّا عند إعلان “الحالة الاستثنائّية” في 25 جويلية 2021، وفي ضمان استقرار السلطة لدى سعيّد. حتّى أنّ أهمّ القرارات السياسية صدرت خلال اجتماعات مع القيادات الأمنية والعسكريّة، كقرار حلّ البرلمان، بل وأحيانا من مقرّ وزارة الداخليّة، كما حصل حين أعلن سعيّد حلّ المجلس الأعلى للقضاء.

فلماذا أُقصيَتْ هاتان المؤسّستان من الدستور الجديد؟ هل هناك تخوّف من إقرار الطابع الجمهوريّ للجيش أو مبدأ حياده التامّ؟ هل سيطر هاجس الانقلابات على كتابة دستور 2022، فدفع الرئيس إلى حذف أيّ دور دستوري للقوات المسلّحة؟ وهل سيكون ممكناً إصلاح المنظومة الأمنية في ظلّ غياب المبادئ الدستوريّة المنظمة لها وآليات الرقابة الديمقراطية عليها؟ 

دسترة إصلاح الجهاز الأمني تمت في 2014 للقطع مع الانتهاكات المرتكبة في حقّ معارضي النظام البوليسيّ والاستبداد

إلغاء دسترة المؤسستين العسكرية والأمنية والمبادئ المنظمة لها 

يعدّ دستور 2014 نتاج سنتين من العمل البرلماني في سياق سياسيّ وأمنيّ حسّاس. فقد احتاجت القوى السياسية المختلفة إلى حوار وطني وإلى ثلاث مسودات وأكثر من ألف تعديل لتتوصل إلى النسخة الأخيرة. وقد كان الهدف هو استرجاع ثقة التونسيين والتونسيات في مؤسساتهم وحفظ كرامتهم الإنسانية وحقوقهم. لذلك أراد المؤسّس القطع مع الاستبداد الذي أسّس له دستور 1959، خصوصا عقب التعديلات المتكرّرة التي عمّقت الطابع الرئاسوي للنظام. 

لذلك قام دستور 2014 بإرساء نظام جمهوري ديمقراطي مدني وتشاركي يضمن احترام الحقوق والحريات. وقد كرّس دستور 2014 جملة من المبادئ التي اختفت تماما من دستور قيس سعيّد.

1-احتكار الدولة للسلاح: تمّ التأكيد على أنّ الدولة تحتكر القوّات المسلّحة وقوات الأمن الوطني في الفصل 17 من دستور 2014 وعلى خدمة هذه القوات للصالح العامّ فقط. لم يكن السياق السياسي والأمني غائبا عن النقاشات حول هذا الفصل. فقد نتج عن الإطاحة بدكتاتورية بن علي والعمل على وضع جمهورية جديدة ضعف في هياكل الدولة إضافة إلى حالة الانفلات الأمني مما أدّى إلى ظهور ميليشيات خاصّة مرتبطة بتيارات سياسيّة أو إيديولوجيّة، كتنظيم “أنصار الشريعة” الذي تمّ تصنيفه كتنظيم إرهابي، بالإضافة إلى ”روابط حماية الثورة” التي قرّرت الجهات القضائيّة حلّها في 2014 بسبب قيامها بأعمال عنف وفوضى. كما شهدتْ المسودة الأولى لدستور 2014 رفضا قطعيّا لإمكانية إنشاء مؤسّسات أمنيّة خاصّة رغم المحاولات الفاشلة لتمرير هذه النقطة من قبل مقرّر الدستور الذي استشهد لتعزيز موقفه ببعض الشركات الأمنية الخاصة أو أعوان الغابات. استقرّ الخيار، في الفصل 17 من دستور 2014، على أن يكون السلاحُ حِكراً على المؤسسات التابعة للدولة تستعملهُ لغرض خدمة الصالح العام تحت طائلة وصرامة القانون. وقد اختفى هذا المبدأ في دستور سعيّد 2022. بل لم يتضمّن الفصل 17 منه والذي ينصّ على ضمان الدولة التعايش بين القطاعين العام والخاص، أيّ استثناء للمؤسسات الخاصّة التي تعنى بتسيير النشاط الأمني أو العسكري. كما لم ينصّ صراحةً على الصلاحيات المفردة للدولة فيما يخصّ احتكار الأسلحة. وهذا يعتبر انفلاتاً تشريعياً خطيراً من شأنه فتح باب التأويل أمام عدم احتكار الدولة للمؤسسات الحاملة للسلاح وأمام إمكانية تشكيل ميليشيات خاصة. 

2-الطابع الجمهوري: أكد الفصلان 18 و19 من دستور 2014 على الطابع الجمهوري للجيش الوطني وللأمن الوطني. وقد كان من الضروري التنصيص على هذا المبدأ تأكيداً على هويّة الجيش واستبعاداً لأيّ طابع ملكي أو ديني أو عسكري. واستنادًا على الفصل الأول الذي نصّ على الطابع الجمهوري للدولة التونسية، بالإضافة إلى الفصل الثاني الذي كرّس طابعها المدني، فإنّ الجمهورية التونسية المدنية تنشئ جيشاً جمهورياً وأمناً جمهورياً يخضعان لسلطان القانون في إطار مدنيّ. اختفى مبدأ مدنيّة الدولة من دستور 2022، مقابل التنصيص على عمل “الدولة وحدها في ظلّ نظام ديمقراطيّ على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية”. فهل الإقرار بالنظام الديمقراطيّ كافٍ لوحده لضمان مدنيّة الدولة؟ وهل أصبح من دور القوّات الحاملة للسّلاح التابعة للدولة الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية في غياب صريح لدورها وأهدافها وإطارها الدستوري؟ ألا يذكّر ذلك بمفهوم الأمن القومي الإيراني الذي يرتكز على مؤسسة “الحرس الثوري” في سياسته الأمنية، إذ يحقّ لها توظيف جماعات وميليشيات مسلحة لإنهاء أي تهديد لنظام الجمهوريّة الإسلاميّة، والتي تخضع للمرشد الأعلى صاحب السيادة السياسية والدينية، والذي تتقاطع صلاحيّاته وفق المادّة 110 من الدستور الإيراني مع صلاحيات رئيس الجمهوريّة في الفصول من 94 إلى 102 من دستور سعيّد؟ 

فرضيّة أخرى قد تفسّر حذف الطابع الجمهوري للجيش والأمن، وهي خوف الرئيس سعيّد من استعمال هذا المبدأ الدستوريّ للانقلاب عليه. إذ لا يغيب عن بال سعيّد، المهوس بالانقلابات منذ أن فتح باب توظيف القوّتين الأمنية والعسكرية في الصراع السياسي، مثال الجيش الجمهوري التركي الذي استعمل مكانته الدستوريّة لتبرير انقلاباته المتكرّرة على السلط المدنية المنتخبة.  

3-الحياد التامّ لكلتا المؤسستين: نصّ الفصلان 18 و19 من دستور 2014 على الحياد التام للمؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية. والحياد يؤخذ هنا على معناه السياسيّ. وقد مرّت تونس بتجربة البوليس السياسيّ وتسييس المؤسسة الأمنية من قبل نظام بن علي وتوظيف أمن الدولة للتجسس والتقصي والتعرض للمعارضين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في ظلّ تعتيم تامّ على عمل استخبارات الدولة وغياب إطارها القانونيّ. ورغم التنصيص على حياد الإدارة في الفصل 15 من دستور 2014 إلا أن إفراد المؤسستين الأمنية والعسكرية في الفصلين 18 و19 يبيّن مدى خصوصيتهما كما يرمز إلى استمراريّة نشاطهما السياديّ الذي يجب أن يكون مُحايدا في الظروف العاديّة كما في الظروف الاستثنائيّة. 

4- احترام الحريات:نصّ الفصل 19 على وجوبيّة احترام الحريّات المنصوص عليها في الباب الثاني من دستور 2014 وفي بعض أحكامه العامّة على غرار الفصل 6 المتعلق بحريّة المعتقد والضمير. وقد تعمّد المؤسّس وضع هذا الشرط نظراً للتاريخ الطويل من الانتهاكات الصادرة عن المؤسسة الأمنية تجاه المواطنين. كما أنه أراد أن يشمل المؤسسة الأمنية في أحكام الفصل 49 وأن يجعلها خاضعة لمبادئ التناسب والضرورة والدولة المدنية في تسيير مهامها كسلطة تنفيذية. لذلك من واجب المؤسسة الأمنية حماية الحقوق والحريات وعدم الانسياق وراء تنفيذ أوامر وتعليمات تناقض هذا الواجب. غياب هذا الحدّ لدور القوات الأمنيّة، من شأنه أن يفتح أكثر فأكثر باب التضييق على الحريّات باسم مقتضيّات الأمن العامّ، في القانون والممارسة.

حذف وسائل الرقابة الديمقراطية على القوات الأمنية والعسكرية 

كان الفصل 15 من دستور 2014 ينصّ على مبدأ حياد الإدارة وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمساءلة. قام إذن دستور 2014 بإقرار قواعد الحوكمة الرشيدة وطبقها على جميع أجهزة الدولة ومن بينها المؤسسة الأمنية والمؤسسة العسكرية. وفي ذلك قطعُ مع الماضي عندما كان المجال الأمني يشوبه التعتيم ولا يخضع للمساءلة. مع دسترة مبدأ المساءلة، أصبح الأمنيّون والعسكريون يُحاسبون على أفعالهم التي تخضع لقاعدة الشفافية، ولم يعد من الممكن استعمال حجّة السرّية لاقتراف أفعال مخالفة للقانون والافلات من الرقابة. وعلى غرار ذلك، جاء النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب لسنة 2015 الذي ينص على مختلف اللجان عملا بأحكام الدستور. وقد خصّص للقطاع الأمني لجنة سمّيت بلجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح. كما كرس دستور 2014 اللجان الخاصة التي تتمتع بالدور الرقابي ومنها لجنة الأمن والدفاع، وأقرّ أيضا إمكانية تشكيل لجان تحقيق مع إعطاء امتياز للمعارضة صلبها.

و قد لاحظنا اختفاء هذه المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الحوكمة الأمنية في الدستور الجديد الذي أصبح ينص فقط على حياد الإدارة. ويستند البرلمان على هذه المبادئ في تقديم أسئلة وارسال استدعاءات لأعضاء الحكومة وتوجيه لائحة لوم لها. لكنّ دستور سعيّد لم يقتصر على التضييق من مسؤوليّة الحكومة أمام مجلس نواب الشعب عبر شروط تعجيزيّة لتقديم لائحة اللوم، وإنّما تفادى أيضا التنصيص على اللجان الخاصّة ولجان التحقيق، مما من شأنه أن يضعف الرقابة الديمقراطية على الحكومة ككلّ وعلى القوات الحاملة للسلاح على وجه الخصوص. 

سلطوية رئيس الجمهورية على قطاع الدفاع والأمن 

لم يبقِ دستور 2022 على تقاسم المسؤوليات الأمنية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. بل تعاظمت سلطة رئيس الجمهورية في مجال الدفاع والأمن حتى أصبحت صلاحيات مفردة، يمارسها من دون الرجوع إلى رئيس الحكومة على عكس دستور 2014 الذي أعطى رئيس الجمهورية صلاحية رسم السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية بصفته قائداً للقوّات المسلّحة، وأولى رئيس الحكومة بصفته المسؤول على ضبط السياسة العامة للدولة مسؤولية التعيينات والإعفاءات في الوظائف المدنية العليا. ويتقاسم في دستور 2014 رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة صلاحيات إرسال قوات إلى الخارج والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي وإختيار وإقالة وزير الدفاع. بحيث لا يمارس مبدئيا رئيس الجمهورية القيادة العليا إلا على القوات المسلحة العسكرية إضافة إلى قوات الأمن الرئاسي لا بوصفها حاملة للسلاح وإنما بحكم تبعيتها نظاميا لرئاسة الجمهورية.

أصبحت صلاحيات رئيس الحكومة كتلك الموكلة للوزير الأول في دستور 1959، أي مجرّد مساعد رئيس الجمهورية، خاضع تماما لإرادته. حيث أصبح رئيس الجمهورية يمارس السلطة الترتيبية العامة بمفرده ودون الرجوع أو التقيد برئيس الحكومة . كما أن المواد التي لا تدخل في مجال القانون ترجع الى السلطة الترتيبية العامة أي إلى رئيس الجمهورية. 

ورغم أنّ ما يخص تنظيم الجيش الوطني وقوات الأمن الداخلي والديوانة يدخل ضمن مجال القوانين الأساسية، فإن مشاريع هذه القوانين المعروضة من قبل رئيس الجمهورية لها أولوية النظر على المشاريع التي تقدم من قبل السلطة التشريعية. كما أن الحكومة أصبحت مسؤولة أمام رئيس الجمهورية لا أمام مجلس النواب. وتكريساً لقراءة قيس سعيد لماهية قائد القوات المسلحة -أي حسب رؤيته هو قائد كل القوات التي تحمل الأسلحة مدنية كانت أم عسكرية- فقد منح لرئيس الجمهورية الحق في إسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية باقتراح من رئيس حكومته الذي كان قد عيّنه بنفسه. وبهذا يتعدى رئيس الجمهورية المفهوم الدارج لقائد القوات المسلحة لتشمل القوات العسكرية والقوات المدنية الحاملة للسلاح. وقد شخْصنَ بذلك سلطته على القطاع الأمني والعسكري في غياب صريح وفاضح لمبدأ الفصل بين السلط حيث لم يعدْ له أيّ منافس أو رقيب حتى في حالة خرقه الجسيم للدستور، على غرار المحكمة الدستورية التي حجّم صلاحياتها حتى شلّ رقابتها على الأعمال السياسية وعلى مدى احترام الدستور من قبل السلطة التنفيذيّة. كما غيّب القوى المضادة من معارضة برلمانية وقضاء مدني وإداري مستقل، في فرض ”مدستر” لرئاسوية الحكم السياسي في تونس وسلطوية مطلقة على قطاع الأمن والدفاع.يعدّ دستور سعيّد تقهقراً آخر لرصيد المؤسسات الدستورية التي أفرزها دستور 2014 بعد توافق من شارك في صياغته على عدم العودة إلى دولة البوليس وضمان حياد المؤسسة المسلحة والمؤسسات الحاملة للسلاح. وحسب تمشّي سعيّد للهيمنة على جميع مؤسسات الدولة وخاصة على قواها الردعيّة، فقد اختار عدم التنصيص على الوظيفة الدستورية للجيش الوطني ولقوّات الأمن الداخلي، ربما خوفا من أن تُفلت من سلطته وتنقلب عليه، بعد أن فتح بنفسه باب حسم الصراع السياسي بقوّة السلاح. عدم دسترة سلطات الرقابة على حمل السلاح وغياب مبادئ الشفافية والمساءلة ليسا من قبيل السهو أو البديهي المسلّم به بل هو يخفي وراءه على الأرجح اعتباراتٍ مغيّبةً للرئيس سعيّد وحرصًا على إخضاع المؤسسات الحاملة للسلاح لأجندته السياسيّة.

إقصاء دسترة الأمن من دستور 2022 قد يعكس تخوفًا من  إقرار طابعه الجمهوريّ أو حياده التامّ أو هاجسًا من الانقلابات

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني