ولّدت مواقف وزير الصحة العامة وائل أبو فاعور المفاجأة خلال شهر تشرين الثاني 2014. فبتوجه مختلف تماماً عن السائد، عمد الوزير الى نشر لوائح لمؤسسات دأبت على تصنيع أو بيع مواد غذائية فاسدة أو على الأقل مخالفة للمعايير الصحية. ورداً على الانتقادات التي وجهها له وزراء من ضمن حكومته وآخرون[1] على خلفية أنه يمارس سياسة التشهير، ما قد يؤثر سلبا على الاقتصاد اللبناني، شهر أبو فاعور واجب الدولة في تنبيه المواطنين إزاء المخاطر التي تحيط بهم، وتالياً واجب التشهير ضد تلك المؤسسات والتضحية بكراماتهم[2] توخياً للمصلحة العامة. وقد عزّز موقفه بالقول بأن بعض هذه المؤسسات أقوى من الدولة بفعل ممارسات صرف النفوذ التي تنتهجها، وكأنه بذلك يبرر تزويد المواطنين بمعلومات تسمح لهم بتجنب المخاطر، بصعوبة أن تتدخل الدولة لتجنيبهم هذه المخاطر. وبكلمة أخرى، بدا أبو فاعور وكأنه يستعيض عن واجب الدولة في حماية المواطنين بأقل ما يمكنها فعله وهو تنبيههم إزاء المخاطر التي تتهددهم.
وسرعان ما تطورت الأمور لمصلحة الوزير على ضوء تزايد التأييدين الإعلامي والشعبي لمبادرته، ما سمح له برفع سقف طموحاته. فتراجعت أمام هذا المدّ الشعبيّ الانتقادات الموجهة اليه، فيما انتقل هو وآخرون في الإدارات العامّة من مرحلة التشهير الى مرحلة اتخاذ تدابير عملية بإغلاق مؤسسات وإحالة مخالفاتها الى النيابات العامة. وكان من الطبيعي إذ ذاك أن يتزايد التأييد ويتراجع التشكيك بصدقيه أو بقدرته على مواصلة حملته، بقدر ما تتزايد الإجراءات المتخذة في هذا المجال.
وبذلك، بدا ما عدّه البعض تشهيراً مخالفاً للقانون، من وجهة نظر الوزير، نداءً للمواطنين بتأييده ودعمه ليتمكن من القيام بوظائف ربما يستحيل القيام بها من دون هذا التأييد. فإذا زاد التأييد، زادت إمكانات الوزير، ما يؤدي بدوره الى زيادة التأييد، وهلم جرا على نحو يمكّن الدولة من استعادة بعض من مكانتها وسيادتها بعدما أدى النظام الحالي (نظام الزعماء) الى إضعافها وبعثرتها الى حد كبير.
ومن هذه الزاوية، وبمعزل عن صدقية النيات أو ثباتها، تمنحنا مبادرة الوزير مادة غنية للتحليل بهدف فهم النظام اللبناني وإمكانية استخدام “التخاطب الحقوقي” كأداة لإعادة تكوين رأي عام وطني وتالياً في اتجاه إعادة بناء دولة في ظل التطييف الواسع وبعثرة السلطة والسيادة على الأراضي اللبنانية. وهذا ما عبّر عنه أبو فاعور في 29-11-2014 ضمناً بعد سلسلة من النجاحات الإعلامية بقوله إنخيار الدخول في هذه الحملة جاء في إطار مواجهة واعية منه ومن الحزب الاشتراكي الذي ينتمي اليه، لـ”منظومة مصالح كبرى” وهي مواجهة استندت في أساسها الى تأييد “الرأي العام اللبناني” متخذة إياه “حليفاً أساسياً”، وهي تتعزز بعدما بات “طموحنا .. أكبر” بفعل هذا التأييد، على نحو يهدف الى “فتح ثغرة في النظام السياسي” وخلق “أفق جديد في السياسة”[3].وكانت مفوضية العدل والتشريع في الحزب التقدمي الاشتراكي قد اعتبرت في بيانها الصادر في 12-11-2014 أن مبادرته تهدف الى “حماية الأمن الغذائي والاجتماعي للمواطنين كافة إلى أي فئة أو طائفة أو مذهب انتموا”، وأنها “ليست إنجازاً لوزارة بوجه وزارة أخرى، بل هي إنجاز وطني عام يعزز الثقة بلبنان ومؤسساته السياحية…”[4]. وهذا ما سنبحثه أدناه.
التخاطب الحقوقي، كمدخل لدمج المواطنين في مشروع بناء الدولة
للمرة الأولى منذ زمن، عكست وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها هواجس ومشاعر وتطلعات مشتركة لدى مختلف فئات المواطنين، بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية أو السياسية. ومن الواضح أن الدينامية المشار اليها أعلاه قد انطلقت من مفهوم حقوقي أساسي وهو حق المواطن بالأمن الغذائي، وبكلمة أخرى حقه بالحياة والصحة. وإذ سعى البعض الى التلويح بانتقائية الوزارة في التعاطي مع المناطق (الطوائف)، فإن هذا التلويح بقي محدوداً وعاجزاً على غير عادة عن تحويل الإصلاح الصحي في هذا المجال الى مادة تنازع طائفي. وعليه، وفيما كان الخوف من خطر معين غالباً ما يأخذ طابعاً أو على الأقل منزلقاً طائفياً، إذا بالخوف الحاصل بنتيجة الإعلان عن انتهاك الحق بالأمن الغذائي يأخذ طابعاً وطنياً دامجاً.
وقد تجلى بروز هذا الحق من خلال الانحسار السريع للانتقادات الموجهة الى الوزير ابو فاعور باعتماد سياسة تشهيرية، ما يعكس تحسساً عاماً لأهمية الحق المدعى انتهاكه، بل تغليباً لحق الغذاء على مجمل المصالح التي يتم الإضرار بها من جراء هذه السياسة. ونتبين ذلك من التحول الهام الذي شهدته مواقف بعض الوزراء المعارضين بداية لهذه الحملة[5]. ولذلك بالطبع أهمية كبرى في قلب الأولويات الاجتماعية بحيث يتم إعلاء حقوق المواطنين على سائر الاعتبارات، بما فيها تحديداً مصالح أصحاب النفوذ، ويؤدي الى تعزيز مشروعية قاعدة “التشهير حق حين يكون واجبا”. واللافت أن الوزير لم يكتف بالتشهير بالمؤسسات المخالفة، بل هدد أيضا بفضح أي جهة قد تتدخل لحماية هذه المؤسسات[6].
وقد تعزز هذا التوجه بالتصريح الذي نقلته بعض وسائل الإعلام عن وزير العدل أشرف ريفي في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 27-11-2014 ومفاده أنه سيعمم على القضاة نشر الأحكام المتصلة بسلامة الغذاء كي يكون المخالف عبرة لغيره، موضحاً أن القضاء سيكمل ما بدأ به أبو فاعور[7]. هذا علماً أن أحد المدعين العامين سامر يونس كان قد انتهج منذ سنوات تذكير القضاة بوجوب تغليب حماية الأمن الغذائي على المصالح التجارية مهما علا شأنها من دون أن يلقى كلامه أي صدى لديهم[8].
والفرضية التي تطرحها هذه المقالة هي أن هذه التجربة أثبتت مكبّراً وجليّاً ما قد يكون للتخاطب العام حول حق جامع معين من تأثيرات على صعيد تكوين الرأي العام الوطني وخاصة الاندماج الاجتماعي. فبدل أن يؤدي ضعف الدولة أو حدة الانقسام الطائفي والسياسي الى منع هذا التخاطب أو تهميشه، من شأن هذا التخاطب أن يؤدي على العكس من ذلك تماماً الى تقوية أجهزة الدولة تبعاً لالتفاف مواطنيها حولها في مواجهة أي نفوذ أقلوي أو فئوي أو اقتصادي والتخفيف تبعا لذلك أو في موازاة ذلك من هذا الانقسام.
وإزاء هذه الفرضية، تواجهنا اعتراضات عدة:
الأول، أن هذا المثال يبقى الى حد كبير معزولاً، الأمر الذي يجعل أي خلاصة مماثلة ضعيفة وعلى الأقل متسرعة. فلو صحت هذه الفرضية، فلماذا بقيت سائر المحاولات لإعلاء هذا الحق أو ذاك أقل فعالية؟ وكيف نفسر إذ ذاك انتهاء التخاطب العام بشأن حق الأجراء ببدل عادل الذي أطلقه زير العمل السابق شربل نجاس باستقالته من الحكومة؟ وكيف نفسر محدودية تأثير جمعيات حقوق الانسان العاملة في لبنان والتي تبقى عاجزة عن تكوين توجهات الرأي العام ومن باب أولى عن جبه النظام السياسي السائد؟ وعلى أهميته، يبدو هذا الاعتراض مبنياً على مسلمات غير مثبتة. فبدل أن تشكل الأمثلة المدلى بها سبباً لدحض فرضيتنا المشار اليها أعلاه، فإن تجربة أبو فاعور ربما تشكل دعوة ملحة لإعادة التدقيق فيها برصانة وهدوء.
فهل تجربة نحاس بشأن حق الأجير بالأجر العادل انتهت حقيقة مع استقالته؟ وأليس من التسرع تأكيد ذلك من دون النظر في مفاعيلها على صعيد وعي الأجراء والموظفين والرأي العام عموما بهذا الحق؟ فهل يصح مثلا فصل حراك موظفي القطاع العام والمعلمين للمطالبة بسلسلة الرتب والرواتب والاعتصامات والمسيرات الكبيرة التي خاضوها، وهي الأولى من حيث نوعها والأقوى من حيث حجمها منذ عقود، عن تجربة نحاس؟ وماذا عن حراك أجراء القطاع الخاص وفي مقدمهم حراك العاملين في الشركة صاحبة متاجر سبينس وما أسفرت عنه من دروس ومعارك قضائية وإعلامية؟ فبمعزل عن النتائج التي وصلت اليها هذه الحراكات المتعددة، أفلا يقودنا مجرد حصولها في أعقاب تجربة نحاس، الى التفكير بالمفعول التراكمي لهذا التخاطب وتأثيراته، بحيث تشكل كل تجربة خطوة تمهيدية لتجربة لاحقة توسع من إطار التخاطب في هذا المجال وتقويه.
وبأي حال، من الخطأ أن نتوقع أن يؤدي التخاطب بشأن الحق بالأجر العادل الى درجة مماثلة من التأثير الحاصل بنتيجة التخاطب بشأن الحق بالأمن الغذائي. فالحق الأول يقبل بطبيعته انقساماً اجتماعياً واسعاً، ليس فقط على خلفية قوة تضارب المصالح بين أصحاب العمل والعمال، إنما أيضاً على خلفية الانقسام الاجتماعي حول مدى ملاءمة زيادة الأجور على نمو الاقتصاد وتوفر فرص العمل عموما. فبإمكان الهيئات الممثلة للرساميل أن تشهر فزاعة إفلاس المؤسسات العاملة وفقدان الأجراء وظائفهم في حال فرض زيادة أجورهم في فترات الأزمات الاقتصادية، فيما ليس بإمكانها بأي شكل من الأشكال الدفاع عن حق المطاعم بتقديم لحوم فاسدة أو ما شابه من أعمال غش. ويضاف الى ذلك تبعية العمال لأصحاب العمل، بحيث يرجح أن تتم موازنة رغبتهم بالمطالبة بحقهم بزيادة أجورهم بالخوف من خسارة وظائفهم تلك، علما أنه من الأرجح أن يكون الخوف من الخسارة غالبا في ظل ما وصلت اليه الحركة النقابية من تأطير واستتباع وتوظيف في خدمة النظام السياسي السائد. وبالطبع، الوضع يبقى مختلفا جذريا بالنسبة الى المستهلك الذي يبقى مبدئيا مستقلا تماما عن التجار والمستوردين.
ومن هذا المنطلق، جاز القول إن تجربة نحاس لا تدحض هذه الفرضية، بل تغنيها ببعض التفاصيل. فمن الطبيعي أن تزداد القوة الدامجة للحق بقدر ما تكون أرضيته الاجتماعية صلبة وواسعة، بحيث يكون الفارق بين التجربتين فارقاً في درجة القوة وليس في وجودها بحد ذاته.
والأمر نفسه يصح بالنسبة الى عمل المنظمات الحقوقية التي تبقى طاقاتها وإمكاناتها مهما قويت، أقل بكثير من طاقات الدولة وإمكاناتها، ولا سيما أن معظمها يعمل على حقوق قطاعية تطال شريحة من المواطنين فقط كحق المرأة أو الأشخاص المعوقين أو المثليين الخ… ولكن على الرغم من ذلك، من الخطأ هنا أيضا التخفيف من أهمية الإنجازات التي حققتها هذه المجموعات على صعيد الدمج الاجتماعي. ومن أهم التجارب في هذا الإطار طبعا، الخطاب العام المتنامي بشأن مكافحة العنف ضد المرأة والذي تمثل في التظاهرة التي قادتها منظمة “كفى” في 8 آذار 2014، وأيضا في أعمال القضاة الذين أثبت عدد كبير منهم تواصلاً عميقاً مع هذا الحراك من خلال الأحكام الرائدة التي أصدروها مباشرة بعد إصدار قانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري في نيسان 2014. كما كان للخطاب العام بشأن حق المعرفة في قضية ذوي المفقودين مفعول مؤثر أدى في نهاية المطاف الى إرغام الحكومة على تنفيذ القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة بتسليم هؤلاء كامل ملف التحقيقات بشأن الأشخاص المفقودين. وما الى هنالك من حقوق دامجة ولو قطاعية أو خاصة بفئة معينة تضيق مساحة الحديث عنها في هذه المقالة.
أما الاعتراض الثاني ضد الفرضية المشار اليها أعلاه، فمفاده أن العامل المؤثر الأبرز في تجربة أبو فاعور ليس التخاطب بشأن الحق بالأمن الغذائي أو الوعي لأهميته بحد ذاته، بل مشاعر الرعب التي تولدت عن هذا التخاطب بفعل طول اللوائح التي نشرها أبو فاعور وتنوع القطاعات التي شملتها. ومن هنا يرجّح أن تتراجع تأثيرات هذه المبادرة حالما تهدأ الخواطر بتطمينات قد يكون بعضها أو غالبها أو كلها غير مطابق للحقيقة. وهكذا، وبخلاف ما توحي به وسائل الإعلام حاليا، قد يكون زخم هذا الاهتمام آنيا وبمثابة خبطة إعلامية. وهنا أيضا، يؤدي هذا الاعتراض الى إغناء الفرضية بتفاصيل أكثر مما يؤدي الى دحضها. بحيث تعلمنا تجربة أبو فاعور أن درجة تأثير التخاطب بشأن حق معين تزيد بقدر ما يقترن الوعي بأهميته بمشاعر قوية وأبرزها الخوف إزاء التداعيات الناجمة عن انتهاكه. وهذا ما يذكرنا بمقولة الفيلسوف الالماني سبينوزا الشهيرة بأن مكافحة الأنظمة القائمة على العواطف والمصالح، لا يمكن أن يتم من خلال التفكير العقلاني وحده إنما يفترض علاوة على ذلك أن يقترن هذا التفكير بعواطف ومصالح لا تقل قوة.
ومن هنا، تأخذ مبادرة أبو فاعور أبعادها، لجهة القوة الدامجة لخطابه. فهي مبادرة تتصل بحق أساسي واضح وجلي يعني عامة الناس من دون استثناء ولا يقبل انتهاكه أي مبرر، بل يشكل انتهاكه مدعاة لخوف يضاعف الوعي بأهمية المحافظة عليه. وهو فضلاً عن ذلك، زخم لا يمكن أن يبلغ مداه إلا من خلال الدولة.
زخم الحق كأداة لتطوير أداء الدولة وتقويتها
وتبعاً للزخم الذي ولّده التخاطب بشأن الحق بالأمن الغذائي، بدت الدولة كما سبق بيانه وكأنها أكثر قدرة على فرض قوانينها في مواجهة أصحاب النفوذ. وهكذا، بدا الوزير وكأنه ينتقل بفضل التأييد الشعبي لخطابه، من مرحلة التشهير الى مرحلة القرارات العامة. وقد انسحب ذلك على عدد من الوزراء الذين بدوا وكأنهم يتعلمون من تجربة ابو فاعور وتداعياتها حسن القيام بالمسؤوليات العامة.
وأهم المبادرات في هذا الاتجاه هو قرار وزير الاقتصاد آلان الحكيم بإقفال عدد من معامل اللبنة أو بسحب منتوجاتها من الأسواق لمخالفتها الشروط الصحية القانونية، وإحالتها الى النيابات العامة في 24-11-2014. كما يسجل قرارات المحافظين لوقف نشاطات معينة بناء على طلب وزارة الصحة، أبرزها قرار محافظ بيروت بإغلاق مسلخ بيروت في 18-11-2014. والأهم من ذلك، هو وضع مجلس الوزراء يده على مسألة قضية الأمن الغذائي ليشكل في اجتماعه المنعقد في 27-11-2014 لجنة تنسيقية بين وزارات عدة لضمان صحة الغذاء، على خلفية أنه ليس بوسع الحكومة أن تنتظر إنشاء الهيئة المستقلة لسلامة الغذاء الواجب إنشاؤها تبعا لإقرار قانون سلامة الغذاء.
وعلى صعيد التشريع، برز الحديث مجددا عن وجوب الإسراع في إقرار قانون سلامة الغذاء. وقد اكتشف الرأي العام وجود اقتراح ومشروع قانون عالقين في أروقة المجلس النيابي، وحاليا في لجنة مصغرة منبثقة عن اللجان المشتركة، منذ سنوات. وقد نقلت مختلف وسائل الإعلام خلال هذه الفترة أخباراً في هذا الخصوص، بداية عن رئيس جمعية حماية المستهلك في لبنان د. زهير برو ومن ثم عن الوزراء والنواب المعنيين.
الى ذلك، وفي خضم هذا الزخم، أحال وزير الزراعة أكرم شهيّب الى مجلس الوزراء مشروع قانون الرفق بالحيوان والذي كانت الوزارة قد أعدته منذ سنوات بالتعاون مع جمعية حيوانات لبنان[9]. وقد أُحيل المشروع بعد أيام من إغلاق عدد من المسالخ وبمثابة صدى لذلك، وكأنما الوزارة تسعى الى إكساب مشروعها بعض الاهتمام العام في هذا الشأن. وهذا ما عبّر عنه المدير التنفيذي لجمعية حيوانات لبنان جايسون مير في تصريح للأخبار لجهة أن هذا المشروع وضع من أجل صحة الإنسان وسلامة غذائه وأنه ينبغي التصديق عليه في أقرب فرصة، لأنه سيشكل نقلة نوعية في آلية عمل المسالخ والمزارع وغيرها من المنشآت المرتبطة بالحيوانات الزراعية.
كما كان من اللافت أن رئيس لجنة الأشغال العامة النائب محمد قباني عقد مؤتمراً صحافياً في 20-11-2014 في المجلس النيابي تناول فيه مسألة مياه الشرب. وقد ذكّر فيه الرأي العام بما أنجزته اللجنة منذ عام 2002 في هذا المجال، وخصوصاً لجهة وضع اقتراح قانون حول سلامة مياه الشرب المعبأة تمت المصادقة عليه في 2012. وأوضح قباني أن اللجنة خاضت منذ تقدمها بـ”اقتراح القانون عام 2004 .. معركة ديمقراطية مع الفاسدين”، مصرحاً أن عمل اللجنة “المستمر منذ عشر سنوات لم يحدث تأثيراً ولو جزئياً بالمقارنة” مع مبادرة أبو فاعور، “الذي أحدث صدمة كبيرة، نأمل أن توظف في عمل مؤسساتي دائم”، في اتجاه “تفعيل المراقبة والمحاسبة في جميع الحقول والميادين”.
وقد بدا القطاع الخاص نفسه منكفئاً أمام هذا الزخم، بما يؤشر على مدى خشيتها من إمكانية استمرار الدولة في فرض احترام قوانينها. وقد جاء عنوان مقالة نشرت في 24-11-2014 في جريدة الأخبار جد معبر في هذا المجال ومفاده: “الهيئات الاقتصادية خائفة: وقت الخضوع للدولة!”. وقد كتبت ايفا الشوفي في هذه المقالة تعليقاً على الاجتماع الذي جمع ستة وزراء بممثلي غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان العبارة الآتية نوردها حرفيا لأهميتها: “هي إحدى المرات القليلة التي يرى فيها اللبنانيون أصحاب رؤوس الأموال منزعجين من الدولة. وجوههم كانت عابسة في اللقاء المغلق مع وزراء «سلامة الغذاء»، قبيل الاجتماع الاقتصادي الموسّع الذي خصص لبحث ملف سلامة الغذاء. حاولوا أن يبتسموا أمام الإعلام، وأن يظهروا كأنهم راضون ومتوافقون مع الوزراء، لكنهم فشلوا، فالتعليقات والردود التي انسابت بين الكلمات في المؤتمر فضحتهم. الدولة في هذا الملف قوية، تفرض شروطها، إمّا أن تستجيبوا، أو أن تتحملوا مسؤولية عنادكم”. ويظهر من وقائع هذا الاجتماع أن موقف ممثلي القطاع الخاص تمثل في إظهار إرادتها في مشاركة جهود الدولة الإصلاحية من خلال إنشاء مركز التدريب لسلامة الغذاء وإن عادت وعبّرت عن رفضها لأداة التشهير. وقد نجح أبو فاعور في هذا الاجتماع بفرض بند فحواه دعوة جميع المؤسسات المخالفة الى تسوية أوضاعها.
ومن دون التقليل من أهمية الخطوات المشار اليها أعلاه، يلحظ أن الإجابات الرسمية بقيت حتى اللحظة إجرائية أكثر مما هي بنيوية، وفي أحسن الأحوال ذات طابع تشريعي. بالمقابل، لم يبدر من السلطات العامة حتى الآن أي مبادرة لتقوية جمعيات حماية المستهلك أو لتعزيز طاقاتها. كما لم يصدر عن النيابات العامة أي قرارات رادعة لأصحاب المؤسسات المرتكبة حتى الآن.
أي أبعاد لمبادرات مماثلة في النظام اللبناني؟
ولكن، ماذا بعد؟ وهل يحتمل أن يصل الإصلاح المؤسساتي الى خواتيمه، فيتم الاستفادة من زخم الحق لوضع التشريعات اللازمة وتفعيل أجهزة الرقابة في قضايا الصحة العامة فتستعيد الدولة مكانتها ودورها وفق ما نادى به النائب محمد قباني في تصريحه الصادر في 20-11-2014؟ وأبعد من ذلك، هل يحتمل أن تشكل هذه القضية ما يشبه كرة الثلج، فتعمد الدولة الى تقوية أجهزة رقابتها في ميادين أخرى لا تقل فيها الحاجة اليها كما هي حال مؤسسات الرعاية مثلا؟ أم أنه على العكس من ذلك، سينتهي هذا التخاطب، ولو بعد حين، الى إحالة ملف الرقابة على المجال الغذائي للجان لا تعمل، أو تُمنع عن العمل أو تعمل في منظومة فساد ولتغطية الفساد؟ وهل تقتصر مفاعيل هذا الزخم تالياً على مفاعيل آنية مجردة عن أي تغيير بنيوي وبأحسن الأحوال الى التمهيد لمعارك مستقبلية ربما تكون أكثر فعالية؟ وبالطبع، هذا الاحتمال يبقى قائماً حتى ولو أُقرّ قانون سلامة الغذاء على اعتبار أن الإجابة التشريعية قلما تكفي بحد ذاتها، وأن تاريخ تطبيق قانون حماية المستهلك ومعه مجمل القوانين الاجتماعية يبقى محفوفاً بمصالح المستوردين والتجار والتي تؤدي عاجلاً أو آجلاً الى إفراغها من الكثير من مضامينها. وما يزيد من رجحان هذا الاحتمال، هو أن هذه التجربة انطلقت بمبادرة من وزير ينتمي الى فريق سياسي مرتبط ارتباطاً شبه عضوي بشبكة المصالح التي تتحكم في الغذاء.
والواقع أن طرح هذا السؤال يبقى منقوصاً وربمايعكس رؤية ملتبسة أو مغشية لطرق الإصلاح. فأهم من السؤال عن مدى مثابرة وزير الصحة العامة في مسعاه، يهم السؤال عن احتمال استفادة القوى الاجتماعية من هذا الزخم لتعزيز الحركة المواطنية الداعمة لسلامة الغذاء، على نحو يضمن استمراره. وما يزيد هذا السؤال إلحاحاً هو غياب أي مبادرة اجتماعية حتى اللحظة، ورغم زخم التخاطب، في هذا المجال.
فبمعزل عن إرادة الحاكم ونياته التي ربما يصعب التحكم بها، ماذا عن المحكوم؟ وكيف عساه يستفيد من الزخم الحقوقي لتطوير قدرته وممانعته فتتعزز فرصه في فرض حقوقه الأساسية على طاولة أي حاكم؟
٭ محام ومدير تحرير المفكرة القانونية
نشر هذا المقال في العدد | 23 |كانون الأول/ديسمبر/ 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا
[1] “أبو فاعور يواصل رصده للحوم النيئة وردود ترفض التشهير وتقر بأن الخطأ وارد”، موقع الحياة الالكتروني، 14-11-2014. ومن بين الأسماء التي انتقدت خطوة أبو فاعور، الوزيران آلان حكيم وميشال فرعون وأيضا رئيس الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز شارل عربيد ورئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير ونقيب تجار اللحوم جوزف الهبر ونقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر.
[2] ايفا الشوفي، وزير الصحة يفضح المزيد من المؤسسات، الأخبار، 14-11-2014.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.