للنخبة وحدها انتقاد أحكام القضاء؟ خلاف فكري على هامش محاكمات الحسيمة


2018-08-27    |   

للنخبة وحدها انتقاد أحكام القضاء؟ خلاف فكري على هامش محاكمات الحسيمة

تعيش الساحة القضائية والحقوقية بالمغرب على وقع نقاش غير مسبوق حول موضوع انتقاد الأحكام القضائية، على خلفية صدور أحكام وصفت بـ “الثقيلة” في ملف حراك الريف.

هيئات ومنظمات المجتمع المدني تنتقد

أصدر مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب بيانا مثيرا عبّر فيه عن “قلقه من المسار الذي عرفه ملف حراك الريف، وما صاحبه من إجراءات ومتابعات، وما أسفر عنه من أحكام، معبّرا عن تفهمه لردود فعل المجتمع المدني والحقوقي من هذه الأحكام، التي لا تتماشى وما يهدف إليه المجتمع من مصالحة مع الواقع المرير الذي كان منطلق ما يعرف بالحراك”.

وقالت منسقة الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان خديجة الرياضي، والرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في ندوة بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين لتأسيس الجمعية، “إن الأحكام الصادرة في حق نشطاء الريف تؤكد أننا لم نخرج من سنوات الرصاص”.

وأشعلت الأحكام الصادرة في حق معتقلي الحراك، الرأي العام بالمغرب، حيث اتشحت مواقع التواصل الاجتماعي بـ”السواد”، قبل أن تخرج مسيرات غاضبة تجوب أهم شوارع المدن المغربية شاركت فيها مختلف التيارات السياسية والحقوقية والمدنية الرافضة لتلك الأحكام، وإن اختلف تقديرها للموقف، بين من رأى أنها أحكام قاسية ومؤلمة، ومن رأى أنها مُسيّسة وتفتقر إلى العدالة والإنصاف، كما تمت الدعوة إلى إضراب عام في مدينة الحسيمة، مما حدا برئيس الحكومة ووزيره في الحريات إلى تمني صدور أحكام أكثر عدالة في الاستئناف.

النيابة العامة تتململ من انتقاد الأحكام 

سارعت النيابة العامة إلى الدفاع عن الأحكام القضائية، حيث تساءل رئيسها محمد عبد النباوي في حوار تلفزي[1] حول خلفيات المواقف الرافضة لأحكام القضاء الصادرة في ملف الحراك، ملمحا إلى أن “المنتقدين” لهذه الأحكام لا يؤمنون باستقلالية القضاء. و قال: “الناس أحرار في التعليق على هذه الأحكام، لكن يظل السؤال هو: هل هذه الجهات التي تعلق تؤمن باستقلال القضاء؟ إذا كانت كذلك، يجب أن تدرس الحكم وتعليله قبل التعليق عليه، ومراعاة معايير ومقاييس التعليق وآلياته. وعندما نقول إن الحكم مخفف أو قاسٍ، يجب النظر إلى الأفعال المرتكبة، وهل هي ثابتة أم لا، وفقا لما قدم من وسائل إثبات نوقشت علنيا وحضوريا أمام المحكمة. وبعد ذلك، ننظر إلى العقوبة التي يحدد فيها القانون حدا أدنى وحدا أقصى”.

في نفس السياق أكد رئيس الودادية الحسنية للقضاة عبد الحق العياسي أنه كمواطن له ممارسة مهنية في مجال القضاء يعتبر أن “الأحكام مخففة، لأن ما عرض على المحكمة كان يتضمن أفعالا جرمية يعاقب عليها المشرع بالإعدام والمؤبد، وإذا بها تنطق بأقل مدة يتيحها المشرع”.

الأحكام عنوان الحقيقية وانتقادها مهمة النخبة فقط؟

تفاعلا مع هذا الجدل، وفي موقف مثير كتب القاضي حكيم الوردي مقالا مطولا نشرته العديد من الصحف وقعه بصفته نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء -وهو بالمناسبة ممثل النائبة العامة بهيئة المحكمة التي أشرفت على محاكمة معتقلي حراك الريف- وقف فيه على صعوبة تبيان الحدود الفاصلة ما بين التعليق على الأحكام القضائية ونقدها وتحقيرها، خصوصا عندما استشهد بأحكام محاكم فرنسية أدانت النقد الذي وصل حدّ القذف أو احتقار القضاء والقضاة. وقد خلص في نهاية مقاله إلى أن الأحكام القضائية عنوان الحقيقية، ولا رقابة على القاضي سوى ضميره، مؤكدا أن الخوض في مناقشتها مهمة صعبة ينحصر فهمها على النخبة وليست في متناول العامة، مناديا بضرورة إعادة الاعتبار للقرارات القضائية واحترام القضاة. وهو ما لا يمنع امكانية فتح حوار مع المهتمين بعيدا عن الشعبوية لرفع الوعي بمفهوم احترام العدالة.

القضاة ليسوا ملائكة وانتقاد الأحكام “واجب”

تحت عنوان مثير “القضاة ليسوا ملائكة”، كتب النقيب عبد الرحيم الجامعي مقالا آخر ردا على المقال السابق نبه فيه إلى ضرورة عدم الخلط بين عملية النقد كوسيلة للتعاطي المنطقي والعقلي والفكري مع الإنتاج القضائي أي مع قراراته بمستوياتها المختلفة، وعملية أخرى عاطفية أو اندفاعية  أو مزاجية، كعملية القدح أو السب أو الاحتقار. فلا يمكن التسليم بأن كل نقد موجه لإنتاج قانوني مثل إنتاج حكم قضائي يساوي ويوازي ازدراء صاحبه أي احتقار القاضي المصدر له.

وأضاف أن القضاة مخلوقات يعيشون معنا على نفس الكوكب كباقي البشر لهم مزايا ولهم عيوب وبالتالي ليست كل انتاجاتهم أي قراراتهم وأحكامهم سليمة يُلزم المتلقون لها الصمت أمامها عدم انتقادها، فالسوق القضائي وأحكامه كسوق العُملات لا يمكن أن يقبل عليها الناس وهي غير صالحة، ولا تفرض نفسها إلا إذا كانت جيدة ومن مستوى عالٍ..”

ودعا القضاة إلى التفاعل مع انطباعات المتقاضين بوصفهم مرتفقين وتقبل ملاحظاتهم وانتقاداتهم لان ذلك في مصلحتهم ولأن القضاة ليسوا قضاة النخبة ولا يتوجهون بأحكامهم للنخبة لكي يستمعوا للنخبة وحدها ويتجاهلون غيرها.

حدود تقبل النقد

تظهر ردود الأفعال المتباينة حول هذا الموضوع، تباين الرؤى بين توجهات ثلاثة:

التوجه الأول، هو تقليدي محافظ يرفض تماما التعليق على أحكام القضاء ونقد أعمال القضاة لما يشكله ذلك بحسب وجهة نظره من خدش لصورة القضاء والقضاة المهتزة أصلا في وعي المواطن العادي وزعزعة الثقة في النظام القضائي ومس بهيبة القضاء وتطاول على السلطة القضائية[2] التي تعد مستقلة. وحسب هذا الوجه، تتوفر السلطة القضائية على آليات للرقابة الداخلية[3] كافية لتحقيق شفافيتها، ولا حاجة لفرض رقابة خارجية تمارسها مكونات المجتمع المدني ووسائل الإعلام مخافة تحولها إلى أدوات للتأثير غير المشروع على القضاة في وقت ما تزال فيه معالم السلطة القضائية تتبلور.

أما التوجه الثاني، وهو آخذ في التطور يكتسي طابعا حداثيا منفتحا على التحولات التي شهدها الجسم القضائي في ظل الدستور الجديد، لا يرفض انتقاد أعمال القضاء، باعتبارها نتاجا فكريا بشريا، بل ويعتبر أن النقاش المجتمعي شرط لتطوير عمل القضاء لكونه يشكل أحد أشكال الرقابة المجتمعية على عمل السلطة القضائية خاصة حينما يتعلق الأمر بقضايا تحظى بتتبع الرأي العام.

بينما يقبل أصحاب التوجه الثالث نقد أعمال القضاء شرط أن يصدر ذلك النقد عن جهات متخصصة أو أن تتوفر فيه على الأقل شروط الموضوعية والرزانة. وقد يكون هذا التوجه غالبا، وإن أخفى بعض أصحابه خلفه انحيازا واضحا إلى أحد التوجهين السابقين.

 


[1] – حلقة يوم الثلاثاء 03/07/2018 من برنامج ضيف الأولى، عرضت على القناة المغربية الأولى، ومتاحة على الرابط الرسمي للقناة.

[2] – أثار مشروع أعلنت عنه جمعية عدالة وحقوق حول نشر الأحكام القضائية المعيبة والتعليق عليها جدلا واسعا داخل الأوساط القضائية، حيث أصدر المكتب الجهوي للودادية الحسنية للقضاة بأكادير بتاريخ 11/04/2014 بيانا اعتبر فيه مشروع جمعية عدالة وحقوق لنشر الأحكام المعيبة، يشكل “مساسا و تطاولا على إستقلال السلطة القضائية”.

[3] – من بينها مثلا المجلس الأعلى للسلطة القضائية -الاجراءات التأديبية –إمكانية التجريح القانوني في القضاة، التقاضي على درجتين.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، المغرب



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني