لسنا بخير.. ولكن


2021-10-15    |   

لسنا بخير.. ولكن
صورة مركّبة من أمس والحرب الأهلية انتشرت على وسائل التواصل

كلّما أوصاني شقيقي المغترب، أثناء بحثي له عن شقة يشتريها في بيروت، أنْ أختار منطقة من لونه الديني نفسه “ما بتعرفي أي ساعة بيرجع الفرز الطائفي”، كنت أبتسم بسخرية، وأبرّر له، رغم امتعاضي منه، أنّه غادر لبنان في بداية التسعينيّات، عندما خرج اتفاق الطائف ليعلن انتهاء 15 عاماً من اقتتال الأخوة في بلاد الأرز واللزّاب والسنديان، الأشجار التي تبدو لي أقوى من هذا الكيان الذي يغتصبه النظام السياسي الطائفي، لبنان.

لوصيّة شقيقي عينها وقع سلبي قوي على نفسيّتي وعليّ، أنا التي بكّرت في الخروج من تأثير الحرب اللبنانية وتقسيماتها الجغرافية والديموغرافية، فأنجبت شابّين من رجل علماني مسيحي تزوّجته في النصف الثاني من التسعين. يومها، عندما التقيت بالراحل المطران الأحمر غريغوار حداد وكنت أحمل جاد، ابني البكر، على يدي، قال لي “جيّد، أكثري من هذه البضاعة الوطنية”. فعلاً كنت في قرارة نفسي، أشعر أننّي بزواجي المختلط، أدفع بهذه البلاد، التي أحب، نحو المثال الذي نشتهي، نحن الذين نتشبّث بها، وعنها لا نريد بديلاً. خلال لعلعة الرصاص والقذائف صباح الخميس، هاتفني شقيقي نفسه ليطمئنّ عليّ، ويختم حديثه وكأنّه يثبّت صحّة رؤيته على رؤيتي “وبتضلّي تقنعيني ما فكّر بالمنطقة لي بدّي إشتري فيها بيت، شوفي اليوم شو عم يصير”. نعم يا أخي، ربّما لا أرى إلّا ما أريد أن أراه، وطناً للجميع، وطناً رحباً يتّسع لكلّ أبنائه بغضّ النظر عن انتماءات هويّاتهم. ونعم ربما أنت المحق وليس أنا. 

أمس، وفيما المعارك تستعر في الشارع الفاصل بين الشيّاح وعين الرمّانة، حيث خطّ التماس التاريخي الذي يأبى أن يبهت برغم مرور كلّ هذه السنوات التي فصلته عن بوسطة عين الرمانة، شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، فيأتينا بين فينة وأخرى بمشهد يعيد عبره رسم خطوطه على الجهتين. ومن على هذا الخط يأتيني صوت صديقتي، حيث تسكن، مضطرباً وضائعاً في صوت رصاص القذائف والقنابل والرشاشات التي تحاصرها مع المحيط. اقترحت عليها رواية تجربتها هي التي عايشت حرب الـ1975 وعادت أمس لتعيش الأجواء نفسها، فانهارت باكية وقالت لي “ليش أمتى خلصنا من الحرب لنرجع نعيشها”.   

أمس أيضاً في 14 تشرين الأوّل 2021، وفيما أمسح دموعي بيد وأتابع على مجموعة واتساب زملائي العالقين في المكتب وأقلب بين المحطّات التلفزيونية بالأخرى، يرنّ هاتفي ليأتي صوت رام، ابني الذي ينهي سنته المدرسيّة الأخيرة ويتحضّر للحاق بأخيه في أوروبا، قلقاً “ماما إنت بالمكتب ببدارو؟ في قواص هونيك وحرب، إنت وين ماما؟”. خرج رام من الصف عندما علم بما يحصل ولم تهدأ أنفاسه السريعة المضطربة إلّا عندما أخبرته أنّني صرت في البيت، بيتنا.  

على الهاتف نفسه يأتيني صوت جاد، ابني البكر، من ألمانيا حيث يدرس “إنت منيحة ماما؟، إنت ع الطيونة شي أو ببدارو؟ صارلك شي؟ حدا من رفقاتك صارله شي؟”. وما أن أطمئنه وأنا أحاول السيطرة على تهدّج صوتي حتى يكمل نقاشاً ينتهي دائماً بخلافنا “بعتقد هلّأ لازم تكوني اقتنعت تجي تعيشي معنا بس يجي رام لهون”. لم أكن قادرة على خوض جدل إضافي معه، ولا أريد أن أثقل عليه أكثر، تذرّعت بانشغالي لأقفل الخط وأهرب منه. 

أما حين سألني القاضي عفيف، زميلنا من تونس، عن أحوالنا في مكتب بيروت، فإنّني أخبرته أنّ كلّنا بخير، ثم سكتُ لثانية قبل أن أغصّ بالبكاء وأنا أختم “بس بيروت (بما هي الوطن) ليست بخير”.

في الحقيقة نحن وبيروت وكلّ لبنان لسنا بخير. ربّما الأحرى أن نقول إنّنا لسنا بخير وأنّه سيأتي يوم تكون فيه بيروت وكامل البلاد بخير، لكننا ربما لن نكون هنا لنفرح بها. قدرتها على الانبعاث في كلّ مرّة غير معدية لمعدننا. لسنا بخير عندما تُقتل برصاص الميليشيات أمّ تطهو لأطفالها العائدين من المدرسة. لسنا بخير حين تتحوّل أي تظاهرة إلى مشروع حرب أهلية ويسيل فيها دماء مواطنين، لسنا بخير وقد تجمّع أبناؤنا التلامذة في أروقة المدارس وملاجئها هرباً من القنص والتقاتل الطائفي، فيما انهار الأهالي والأمهات وهم يستميتون للوصول إلى أطفالهم العالقين في مدارس مناطق الاشتباكات. لسنا بخير عندما يضطرّ كلّ من تنكّروا عن وعي لـ “خطوط التماس” واخترقوا المحظورات وأنماط التقسيم واختاروا السكن في مناطق “الآخر”، فنزحوا إلى منازل الأهل والأصدقاء، ليسألوا أنفسهم بعد 31 عاماً على انتهاء الحرب، عن صحة خياراتهم وحتى أحلامهم وتوقعاتهم. لسنا بخير عندما ينشر الكاتب حسام عيتاني على صفحته على فيسبوك “كلّ لي عندي قوله بهالعصفورية إنّي ما قدرت جنّب ولادي يعيشوا الكابوس الذي عاشه جيلنا، باقي الحكي.. مجرد حكي”. لسنا بخير طالما استفاق الآلاف اليوم مقرّرين البحث عن سبل هجرة وراء من سبقهم في السنتين المنصرمتين في ثالث أكبر موجة هجرة جماعية يشهدها لبنان بعد هجرة 1860 (الطائفية) ومعها 1916 التي تلت الحرب العالمية الأولى والمجاعة، وثاني موجة الخاصة بحرب الـ 1975. نعم هناك من عاد ليحزم أمتعته أمس بعدما كان قد أوهم نفسه بضرورة الصمود رغم كل ما عبّرنا ونعبّر به. 

نعم لسنا بخير ونحن نتمسّك ببعض ما تبقّى لنا من صحّة نفسية ونشحذ قوتنا لنقول إنّنا لا نريد أن نترك هذه البلاد للغربان. لا نريد أن نخونها، وكيف لنا ذلك؟ كيف نتركها ولمن؟ وماذا نفعل بصورتها الجميلة التي نجد أنفسنا ملتزمين بتأمين ما يلزم لوضعها في إطارها الصحيح: بلاد معافاة من الفاسدين، من أمراء الحرب، بلاد القضاء المستقلّ وبلاد العدالة الاجتماعية، والأهم بلاد الجميع من دون استثناء ومن دون خطوط تماس. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني