لبنان يذهب إلى المجتمع المسن ببنية قانونية وحقوقية هشة


2018-06-29    |   

لبنان يذهب إلى المجتمع المسن ببنية قانونية وحقوقية هشة

“يشهد لبنان تحولاً ديمغرافياً من مجتمع شاب نحو مجتمع مسن، حيث يتوقع أن تتخطى نسبة كبار السن[1] الـ 14% بحلول  2035″. يعيش المجتمع اللبناني هذا التحول في ظل بنية قانونية وساسيات شديدة الهشاشة على صعيد الشيخوخة. هذا الواقع، والتوقع أيضاً، يشكلان مرتكزاً أساسياً في خلفيات الدراسة التي تنجزها الإسكوا بالتعاون مع وزارة الشؤون الإجتماعية حول “الإطار القانوني وواقع الأعباء المالية المفروضة على كبار السن في لبنان، وسبل ومجالات إعفائهم منها”.

إثر إنتهاء المسودة الأولى للدراسة، دعت الإسكوا مجموعة من الخبراء والمسؤولين في الوزارات إلى ورشة عمل تحت عنوان “نحو إصلاح السياسات المتعلقة بكبار السن في لبنان”. عقدت الورشة بتاريخ 21 حزيران 2018 في بيت الأمم المتحدة في بيروت، وخرجت بتوصيات  سيتم تطوير الدراسة على أساسها.

ترتكز المسودة الأولى للدراسة إلى بحث مكتبي وميداني معاً، وتنطلق من الإطار القانوني لحقوق كبار السن، والخصائص الإجتماعية لهذه الفئة في لبنان بالإضافة إلى طبيعة النظام الضريبي في الدولة وكيفية إنعكاسه على أحوال المسنين، لتنتقل إلى دراسة سبل ومجالات تخفيف الأعباء المالية والإجتماعية عنهم من المجتمع. في هذا السياق يتوسع البحث لناحية أنظمة التقاعد والضمان الصحي، ضمان الشيخوخة والتغطية الصحية الشاملة، السكن والنقل، ومشاركة المسنين في الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وأخيراً التخطيط الاستراتيجي والإدارة الصديقة لكبار السن.

“دولة غير صديقة لشعبها”

بالنسبة لـ جورج[2] “أهم شي ممكن تعطينا إياه  الدولة هو الحكمة (الاستشفاء) والدواء”. يضيف “أخذوني مرة إلى طوارئ مستشفى الهرمل، كنت متت، هونيك بيشبه كل شي إلا المستشفى. أنا إشتغلت طول عمري بالزراعة طلعت بلا معاش، لولا أولادي بساعدوني بموت من الجوع”. وجورج هو أحد كبار السن الذين شاركوا بشهاداتهم في الدراسة، وأولادهفي الجيش اللبناني.  ومع ذلك هو لا يستفيد من تغطية الطبابة والدواء اللذين  يتيحهما نظام التغطية الصحية الخاص بهذا السلك. ووفقاً لشهادته: “أنا إذا بروح أعمل أوراق بأبلح ما بضمن إنو إرجع، لازم نقدر نعمل أوراقنا بمحل قريب لنقدر نستفيد”.

تعبر شهادة جورج عن علاقة الدولة بالمسنين من مواطنيها. وهي كما يصفها الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي خلال تعقيبه على مضمون المسودة أن “الدولة بعيدة أن تكون صديقة لشعبها، وراعية لمجتمعها وساهرة على أبنائها بالعموم، فكيف بالمسنين؟”.

معرفة مدى رعاية الدولة للمسنين تستوجب في البداية تحديد هذه الفئة. والحال أن الدولة لا تملك أي تعريف لمن هم كبار السن. “لا يوجد اي قانون خاص بكبار السن يعرف هذه الفئة المجتمعية أو يحددً الحقوق والخدمات الحكومية العائدة لها”، وفقاً لما تشير إليه الدراسة. من هنا، فإن “الأحكام المتعلقة بكبار السن تستمد من القوانين والأنظمة المعتمدة في ميادين مختلفة”. هذا الواقع يؤدي إلى إختلاف على صعيد الإستفادة من الخدمات المرتبطة بهم ( كبار السن)، لا سيما أن الجهات الضامنة ليست واحدة إنما متعددة. فمثلاً “يختلف سن التقاعد بحسب الأسلاك الإدارية والعسكرية والقضائية والديبلوماسية”، وهو بهذا المعنى يتراوح بين 55 و65. إلى ذلك يعد سن الـ 64 القاعدة الأساسية للتقاعد في القطاع العام.

والفئة العمرية الممتدة بين 65 إلى 74 تشكل، وفقاً للدراسة، حوالي 65% من مجمل عدد كبار السن في لبنان. هذه الفئة “تعيش بمعظمها في ظل غياب شبكات الحماية الإجتماعية لكبار السن، ما يدفعهم للعمل بعد سن التقاعد”. والحال أن “نسبة النشاط بين الذكور بين عمر 65 و69 في لبنان هي بين الأعلى عالمياً”. يقابلها “نسبة نشاط اقتصادي متدنية عند النساء المتقدمات في السن”. وتبدو حاجة كبار السن للعمل أكثر إلحاحاً في ظل إبراز الدراسة لبنود الإنفاق الأساسية التي يتحملوها. ذلك أنهميستمرون بتكبد نفس النفقات عن “المسكن والمصاريف التابعة له كالماء والغذاء والكهرباء والمحروقات، المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية، النقل والصحة”. هذه النفقات تتعلق بحصول كبار السن على الحقوق الأساسية التي يفترض أن يتمتعوا بها، وهي وفقاً للدراسة “المستوى المعيشي اللائق، السكن والحق في الصحة والضمان الإجتماعي”.

في السياق العام، تظهر في الدراسة المشكلات البنيوية في النظام، والتي تؤدي إلى مضاعفة هشاشة حال كبار السن. فحيث يتوقع من دراسة تعنى بإصلاح السياسات الخاصة بالشيخوخة، أن تنتهي إلى توصيات تفصيلية مبنية على إعفاءات أو منح قائمة بالأساس. تنتهي هذه الدراسة إلى توصية لإنشاء نقل عام في الدولة. وهي خطوة اولى ضرورية قبل المطالبة بإعفاء المسنين من الرسوم على خدمات هذا القطاع أو إستفادتهم من تخفيض. والنقل ليس إلا مثالاً عن إشكاليات عديدة إصطدمت بها الدراسة. هذا الواقع أنتج نقاشاً خلال ورشة العمل، حول ماهية الإصلاحات الواجب تبنيها ضمن دراسة من هذا النوع: بنيوية أم تفصيلية؟

لا سياسات لإصلاحها

 يقول ممثل الهيئة الوطنية الدائمة لرعاية شؤون المسنين في لبنان نبيل نجا، خلال تعقيبه على المسودة، أنه “لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسات في لبنان اليوم، إنما عن بناء سياسات شيخوخة”. هذه الإشكالية، يتوسع في تفصيلها ممثل شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية نبيل عبدو. يقول الأخير في تعقيبه أن “بنية سوق العمل في لبنان تؤدي إلى تفاقم الأزمة، حيث أنأكثر من 50% من العمال حالياً هم غير نظاميين، هؤلاء في سن التقاعد ليس لديهم تعويض تقاعد، أيضاً لا ضمان شيخوخة”. والحال أن “المشكلة مشكلة مجتمع وليست مشكلة فئة إجتماعية، وهي مسألة تتعلق بنظام إقتصادي ريعي، وهي بهذا المعنى مشكلة نظام”. يذهب عبدو أبعد من ذلك، إلى إستفادة النظام نفسه من إستمرار هشاشة هذه الفئة: “وجود مسنين واقعهم هش يعني أننا بحاجة إلى مساعدات من الخارج، أيضاً يعني ضرورة تصدير يد عاملة مضطرة لتأمين الرعاية إلى أهلها المسنين، بالتالي يحافظ النظام على التحويلات من جهة، وعلى مساعدات الدول المانحة من جهة ثانية”. ينتهي عبود لهذه الناحية إلى نتيجة مفادها أن “المسألة برمتها تتعلق بسياسات مصرف لبنان”.

يلتقي الخبير الاقتصادي أيلي يشوعي مع عبدو، لجهة إرتباط المشكلة بسياسة مصرف لبنان. إلا أنهيقارب هذا الدور إنطلاقاً من مشاركة المسنين في الحياة الإقتصادية والإجتماعية. ويعبر عن اعتقاده أن النقد الأساسي في هذا المجال يوجه إلى فكرة “التقاعد إلالزامي”. يعتبر يشوعي أن “إلزام الإنسان على التقاعد فيه إهانة لقدراته على المشاركة في الحياة الإقتصادية وفي الإبداع ونقل الخبرات”. والحال أن “إلزام المسنين بالتقاعد كحل لأزمة البطالة، يعد حلاً فاشلاً، ذلك أن معالجة البطالة تتم تحديداً من خلال سياسات مصرفية سليمة على صعيد الدولة، لا سيما من خلال الدفع باتجاه تنوع القطاعات الانتاجية وتحسينها”.

 يرتبط رأي يشوعي أكثر بالشيخوخة الناشطة، أي المسنين المستقلين القادرين على الإنتاج، ولكن ماذا عن الفئة العاجزة التي تحتاج إلى رعاية الصحية والإجتماعية؟

تنقل مسودة الدراسة عن التقرير الوطني لوزارة الشؤون الإجتماعية حول القضايا المتصلة بكبار السن (2017)، إشارته إلى “ضعف نظم الحماية الإجتماعية المتوفرة على المستوى الوطني والحاجة إلى إقرار التشريعات اللازمة التي تؤمن الحماية المطلوبة لكبار السن على مختلف المستويات الصحية والاجتماعية والاقتصادية”. هذا الضعف تبرزه المسودة على  مستويات عدة أبرزها: تعدد أنظمة التقاعد وأنظمة الضمان الصحي. والحل أنه “لا يوجد في لبنان نظام موحد للمعاشات التتقاعدية، وترتبط أنظمة التقاعد بشكل أساسي بنوع التوظيف”. وهناك “أربعة أنظمة تقاعد مختلفة: تقاعد موظفي القطاع العام والأساتذة والسلك العسكري تحت إدارة وزارة المالية، التقاعد الخاص ببعض نقابات المهن الحرة، نظام تعويض نهاية الخدمة في القطاع الخاص تحت إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أنظمة تقديمات شركات التأمين الخاصة التي يتم التعاقد معها على أساس فردي أو جماعي، وأنظمة صناديق التعاضد التي نقوم بتغطيات تكاملية مع الضمان الإجتماعي”.

المشكلة الجوهرية لناحية هذه الأنظمة، أنها على تعددها “تغطي شريحة محدودة من الأشخاص ويقدر أن أكثر من 70% من القوة العاملة في لبنان لا تستفيد من أي نظام تقاعد أو تعويض نهاية خدمة”. أيضاً “لا يستفيد موظفو القطاع العام إلا من تعويض نهاية الخدمة الذي لا يغنيهم عن معاش التقاعد”.

كذلك الأمر لناحية الضمان الصحي، إذ لا يوجد في لبنان نظام تغطية صحية شاملة، إنما يستفيد كبار السن من واحدة من خيارات أربعة، تعنى بتغطية الأدوية والاستشفاء. هذه الأنظمة هي: “تعاونية موظفي الدولة أو صناديق التعاضد التي يستفيد منها الموظف المتقاعد، التغطية الصحية المؤمنة عبر النقابات المهنية لأعضائها المتقاعدين، التغطية الصحية المؤمنة عبر شركات التأمين الخاصة وهي لا تشمل الأدوية، واخيراً تغطية وزارة الصحة المؤمنة لجميع المواطنين الذين لا يستفيدون من أي نظام صحي خاص أو عام وهي تغطي كلفة الاستشفاء المجاني في المستشفيات الحكومية والخاصة بالاضافة الى كلفة بعض العلاجات المكلفة كالعلاج الكيميائي وجراحة القلب وزرع الكلى وأدوية الأمراض المزمنة”. أما لناحية صندوق الضمان الإجتماعي فهو “لا يؤمن التغطية الصحية للمضمونين بعد سن التقاعد كقاعدة عامة”.

إذن واقع التغطية الصحية هو مثال إضافي تبين من خلاله الدراسة بنيوية المشكلة، بالتالي صعوبة حلها من خلال تطبيق إعفاءات ضريبية. في هذا الصدد يؤكد ممثل الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي شوقي أبو ناصيف أن “الأساس هو في وضع إستراتيجية كاملة تتعامل مع حاجات المسنين وحقوقهم، فلا تبرز أهمية الإعفاءات إلا عندما تشكل دعم لمعاش يتقاضاه المسن”. بالتالي فإن الحل لناحية المسنين هو الذهاب إلى نظام تقاعدي موحد قائم على دفع رواتب، وليس على تعويضات مقطوعة.

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن تمحور النقاش حول السياسات العامة وإيلاءها الأولوية من قبل المشاركين في ورشة العمل، يتلاءم مع هواجس كبار السن الأساسية. وقد عبرت عنها الباحثة ديانا كلاس، التي شاركت في إعداد البحث: “الهاجس الأساسي لديهم هو الرعاية الصحية والإجتماعية فهم يعتبرون انفسهم عبئاً على عوائلهم، وقبل التعامل مع هذه الهواجس لا يمكن أن يندمج كبير السن”. هذه الهواجس بحد ذاتها تؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات، رغم تطرق الدراسة في شق كبير منها إلى سياسات إشراك المسنين ودمجهم إجتماعياً وإقتصادياً.

توصيات

إنتهت ورشة العمل إلى طرح مجموعة التوصيات تضاف إلى الدراسة او تعدل المسودة باتجاه يتناغم مع التوصية. معظم التوصيات إرتبطت بالسياسات العامة والإستراتيجيات، ومنها:

  • إيلاء أولوية لتعريف من هو المسن وتأطير الحقوق في قانون عام
  • تعزيز نظام الضمان الإجتماعي
  • تعزيز التعاون بين الوزارات وإشراك القطاع الخاص
  • تطوير قطاع صحة الشيخوخة
  • تأمين السكن اللائق لكبار السن
  • المساهمة الاقتصادية لكبار السن من خلال اصلاح القوانين
  • مقاربة إستراتيجية شاملة وواسعة لإصلاح نظام الضمان الاجتماعي
  • تطوير قواعد معلوماتية مركزية لجمع البيانات الخاصة بكبار السن
  • تسهيل معاملاتهم الادارية
  • تطوير أطر اللامركزية الرعائية
  • الدفع باتجاه انشاء مجموعة مناصرة كبيرة مؤلفة من كبار السن.
  • تفعيل الهيئة الوطنية لرعاية شؤون المسنين
  • تطوير إستراتيجية لتحسين وضع كبار السن

أما  التوصيات المحددة فشددت  على:

  • رفع الوعي على قضايا الشيخوخة لدى كبار السن ولدى المسؤولين على حد سواء
  • دراسة إيجابيات وسلبيات إصدار بطاقة تتيح للمسن الاستفادة من التقديمات والإعفاءات.
  • دراسة الكلفة الفعلية للتغطية الصحية تتيح طرح حلول مناسبة
  • تعميم تجربة الأندية النهارية للمسنين في المناطق.
  • إنشاء مشاريع سكنية على أساس تعاوني

 


[1] – تعتمد الدراسة عمر الـ 65 لتعريف كبار السن، وهو المعيار المطبق في الإدارات الإحصائية للامم المتحدة.

[2] – من شهادات كبار السن الواردة في مسودة الدراسة

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني