كي لا تفلت سرقة الأبقار الذهبية من العقاب


2023-01-12    |   

كي لا تفلت سرقة الأبقار الذهبية من العقاب

كلمة الرئيس التنفيذي لـ “المفكرة القانونية” نزار صاغية في اللقاء بعنوان “المحاسبة عن الأزمة المالية: 5 شروط لأي إصلاح” الذي عقدته كل من الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين، وكلنا إرادة، ومرصد حقوق المودعين، ومرصد الوظيفة العامة والحكم الرشيد في جامعة القديس يوسف، والمفكرة القانونية، يوم الأربعاء 11 كانون الثاني 2023، في جامعة القديس يوسف.

ليس هنا المكان مناسباً لنتحدث تفصيلياً عن الإفلات المعمم من العقاب، في الجرائم المالية كما في الجرائم غير المالية وفي مقدمتها جريمة المرفأ. وليس هنا المكان مناسباً لنتحدث تفصيلياً عن انهيار قيم الحق والعدالة والقانون، لتسود فينا وعلينا شريعة القوة وشبكات المصالح التي غالبها غير مشروع ليس إلّا. وليس هنا المكان مناسباً لنتحدث تفصيلياً عن أثر هذه الانهيارات على الوحدة الوطنية والمواطنة والنظام الديمقراطي أو حتى الدولة وسيادة الدولة، حيث تصبح كل هذه المفاهيم مختلّة عندما يتحوّل الشعب بغالبيته الكبرى إلى شعب من الضحايا. 

أظن من الأهم هنا الإشارة إلى 3 أحداث تجري بالتزامن مع هذا المؤتمر: 

الأول، بدء درس ما يسمونه اقتراح قانون لإعادة التوازن للانتظام المالي في لبنان. 

حيث سارعت لجنة المال والموازنة إلى وضعه على جدول أعمالها بعدما قدمه نائبان مقربان من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. تمّ فصل هذا الاقتراح عن اقتراح أوسع عن إعادة هيكلة المصارف: فإذا بالحديث عن إعادة رسملة المصارف يتحوّل إلى حديث عن كيفية معالجة الودائع. وقد شكل هذا الاقتراح التعبير الأكثر بلاغة حتى اليوم عن نية إعفاء المصارف ومدرائها بشكل شبه تام من التزاماتها تجاه المودعين. فبدل أن يتم تجميد أموال المصارف ومدرائها، يتم على العكس من ذلك تجميد شبه تامّ لأموال المودعين وللحقوق الناجمة عنها إلى أجل غير مسمّى على أن تتولى الهيئة المصرفية العليا تحديد نسبة ما يمكن لكلّ مودع استرداده وزمنه وفق ما تراه مناسباً من دون أي ضوابط أو معايير. بمعنى أن إعادة الانتظام المالي لا يتم بفعل إعادة تكوين رساميل المصارف بطريقة أو بأخرى، إنما قبل كل شيء بتجميد التزاماتها تجاه المودعين بشطبة قلم. بمعنى أنه لن يكون على المصارف أن تبذل جهداً لإعادة الودائع إنما يتعيّن على المودعين بذل الجهد لنسيان ودائعهم أو الكم الأكبر منها. 

وما يزيد هذا الأمر قابلية للانتقاد أمور خمسة: أولاً، أنّ حقوق المودعين أياً تكن قيمتها تم تعليقها بوضعية المصارف وفيما إذا قابلة أو غير قابلة للاستمرار. ثانياً، ولئن يضمن الاقتراح للمودعين تسديد 100 ألف دولار أميركي من ودائعهم، فإنّه يترك للهيئات المصرفيّة صلاحية تحديد كيفية ليلرة هذا الرصيد والمدة التي سيستغرقها تسديده وكل ذلك وفق سعر صيرفة المحدد بصورة استنسابية. ثالثاً، أما كل ما تجاوز هذا المبلغ، فيبقى أي التزام بتسديده مبهماً جداً وبحكم غير الموجود. ورابعاً، أنّ الاقتراح ذكر الودائع غير المشروعة التي يشكل حذفها مدخلاً لحفظ حصة أصحاب الودائع المشروعة، فقد وردت بصورة عامة من دون توضيح آلية التحقق منها أو حذفها وبخاصة بعدما منع قانون رفع السرية المصرفية الهيئات المصرفية من إمكانية الولوج إلى الحسابات الخاصة للتحقق من شرعيتها بمنأى عن أي شبهة. خامساً، إناطة هذه المهمة بالهيئة المصرفية العليا التي يرأسها حاكم مصرف لبنان نفسه وتضم أحد نوابه والمدير العام لوزارة المالية وقاض (هو حاليا النائب العام المالي علي إبراهيم) وعضو تعينه جمعية المصارف فضلا عن رئيس المؤسسة الوطنية لضمان الودائع. وهي طبعا هيئة يهيمن عليها حاكم مصرف لبنان ولا تتمتع بأي ضمانات استقلالية. 

وعليه، يرمي هذا الاقتراح عملياً إلى إعفاء المصارف من الجزء الأكبر من التزاماتها من دون منح المودعين أي حق مكتسب على أي جزء من ودائعهم، كل ذلك بإشراف هيئة يتحكّم بها حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، كل ذلك من دون أي ضوابط. وعليه، وفي حال إقراره، فإننا نكون في صدد تشريع السرقة الحاصلة بأقل كلفة ممكنة، كل ذلك على حساب المودعين وحساب سائر المواطنين (الذين ستنهار عملتهم الوطنية بقدر ما تسدد الودائع بطبع مزيد من هذه العملة). وبالطبع، في حال إقراره، يفقد قانون الكابيتال كونترول الذي يظهر النواب جهاداً في العمل عليه أي معنى، إذ أنه يؤدي إلى تجميد الودائع بمعزل عن هذا الأخير. يحاول طبعاً أصحاب الاقتراح التخفيف من وطأة تذويب الودائع بهذه الطريقة من خلال الإعلان عن إنشاء صندوق من دون بذل أي جهد لتوضيح معالمه. وهو صندوق لا يعدو كونه صندوقاً من الأوهام.   

الثاني: المماطلة والتسويف في إقرار اقتراحات ضامنة لاستقلالية القضاء: 

الأمر الثاني الذي يضيق أكثر فأكثر مجال المحاسبة هو تعثر العمل التشريعي بشأن اقتراحات استقلالية القضاء العدلي والإداري. فكيف نحاسب، ومن نحاسب، بل كيف نضمن أي محاسبة مستقبلاً في غياب قضاء مستقل وقادر؟ وليس هنا المكان المناسب لعرض كل ما يحصل في هذه الورشة المستمرة منذ 4 سنوات و4 أشهر. يكفي هنا أن أشير إلى 3 أمور محبطة: الأول، أن وزير العدل أرسل ملاحظاته على آخر نسخة أعدّتها لجنة الإدارة والعدل بعد 9 أشهر من الدرس والتمحيص فيها على نحو يناقض معايير استقلالية القضاء الأكثر بداهة، وفق ما بيّنه ائتلاف استقلالية القضاء في ملاحظاته المنشورة في 23 كانون الأول الماضي، والثاني، أنه بنتيجة رفض السلطة السياسية التوقيع على مرسوم تشكيلات محكمة التمييز منذ 9 أشهر، بات بإمكان أيّ كان أن يعطّل أي دعوى مقامة ضده من خلال مخاصمة الدولة عن أعمال القاضي الذي يلاحقه. وهذا ما أدى إلى تعطيل التحقيقات في قضية سلامة، كما في قضية المرفأ وقضايا فساد مالي عدة. والثالث، أنّ الهيئات القضائية دُفعت ودَفعت لإخضاع القضاء لرحمة الحاكم رياض سلامة حين ارتضت قبول منفعة غير مشروعة منه تسدد من خلال صندوق تعاضد القضاة، ومؤداها مضاعفة رواتب القضاة مقابل فك اعتكافهم. وأخطر ما في هذا التدبير أنه لا يرتب للقضاة أي حق مكتسب وبإمكان الحاكم أن يوقفه في أي حين. وتالياً، سنجد أنفسنا في الفترة المقبلة أمام سيناريو من اثنين: إما تمتع الحاكم بسطوة معنوية خارقة على القضاء بفعل دوره في مضاعفة رواتبهم بصورة غير مشروعة، وإما وقف هذه المنفعة غير المشروعة بإرادة الحاكم أو لأي سبب آخر مما يهدد باعتكاف القضاة مجدداً. وفي كلتا الحالتين، يصعب تخيّل محاسبة واسعة من خلال القضاء في الظروف الراهنة. هذا من دون الحديث عن مجمل العوامل الأخرى المعيقة للقضاء من تدخل القوى السياسية أو رئيس الحكومة أو وزير الداخلية المباشرين في أعماله، وصولاً إلى رفض القوى الأمنية إجراء التبليغات القضائية المطلوبة أو أيضاً لوبي المصارف الذي لم يتردد من ممارسة الإضراب الابتزازي احتجاجاً على بعض الأحكام الصادرة ضد بعض المصارف. يضاف إلى ذلك صعوبة ولوج القضاة إلى السرية المصرفية بفعل التعقيدات الواردة في قانون رفع السرية المصرفية، والتي كانت ولا تزال المقبرة الأكبر التي ما تزال شبهات الفساد دفينة فيها بانتظار من يكشفها مجدداً. 

الثالث: وفد أوروبي يعرّي التقصير اللبناني في مجال المحاسبة

الحدث الثالث الذي يجدر الحديث عنه، هو وصول الوفد القضائي الأوروبي للتحقيق في قضايا تبييض أموال وفساد مالي، ومن ضمنها قضايا الحاكم رياض سلامة. كان من الممكن أن يكون حضور هؤلاء أمرا عاديا ضمن التعاون الدولي في قضايا فساد عابرة للحدود. لكنه ليس كذلك: ليس كذلك لأنه يأتي ليعري تماما تعطيل القضاء اللبناني عن القيام بمهامه في هذا الخصوص ولا سيما بعدما تم تعطيل الملاحقة ضد الحاكم والمصارف بشكل شبه كامل. وهو بهذا المعنى يضع القضاء والقوى التي تفتك به أمام مراياها: فإذا ما كنا نتعامل معه على أنه أمر طبيعي كاستمرار الحاكم في وظيفته رغم الشبهات التي تزن بحقه يبدو أمرا مفجعا ومقززا. والأهم يضع السلطة السياسية أمام مسؤوليتها الكبرى في إعادة تفعيل العمل القضائي داخل لبنان والاشتراك في الدعاوى المقامة في أوروبا للمطالبة باسترداد الأموال المتأتية عن أعمال الفساد والمحوّلة إليها وهو استحقاق يفقدنا التقصير فيه ثروات حقيقية. فأول السيادة، هي بناء السيادة القضائية أي تمكين القضاء من حماية حقوق الموطنين والمال العام باستقلالية من دون تمييز. وأول السيادة الدفاع عن المال العام والملك العام وضمنا المطالبة باسترداد الأموال المنهوبة وبخاصة في بلد منهوب ومقلس. فالسيادة ليست موقفا نتبجّح به بل بناء نصل إليه عند توفير مقوماته. فلنفعل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مصارف ، تشريعات وقوانين ، إقتراح قانون ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني