كارثة بيئية في صيدا: جبل نفايات قرب معمل المعالجة والعوادم تتساقط في البحر


2022-05-10    |   

كارثة بيئية في صيدا: جبل نفايات قرب معمل المعالجة والعوادم تتساقط في البحر

في إحدى زوايا ميناء صيدا البحري، يجلس الصياد سعد بوجي ممسكاً بالحبال البحرية التي يعمل على تحويلها إلى شباك صيد فالشباك القديمة التي كان يستخدمها تمزّقت بعد أن علقت بها النفايات المنتشرة في البحر. هذه ليست المرة الأولى التي يخسر فيها بوجي شباكه بفعل النفايات، فقد حصل معه الأمر نفسه قبل شهر تقريباً، إلّا أنّ الفرق هو أنّ البلدية في المرة الثانية وعدته بدفع تعويض، والسبب يعود الى أنّ “المرة الأولى كُنت الصياد الوحيد الذي تعرّض لهذه الحادثة، أما اليوم فقد أصابت 7 صيادين من بينهم من هو محسوب على البلدية، فاضطروا إلى إعطائنا وعداً بالتعويض”، وفقاً لبوجي.

قبالة بوجي، يجلس زميله كندي خالد الذي يقوم كذلك بحبك شباك للصيد، ويستذكر أنّ حوادث تمزّق الشباك بفعل النفايات شهدها الصيادون في صيدا قبل 8 سنوات حيث كانت النفايات تملأ بحر صيدا، وهي تعود اليوم بفعل ارتفاع جبل النفايات الملاصق لمركز معالجة النفايات لدرجة بات فيها أعلى من الحاجز الفاصل عن البحر، حيث أصبحت النفايات تتساقط في البحر، وعند وصول تيارات هوائية تنتشر هذه النفايات على امتداد بحر صيدا.  

تُعاني صيدا اليوم من مشكلة نفايات على مستويين، الأوّل تمظهر في ارتفاع جبل من النفايات في أرض ملاصقة للمعمل مما أدى الى انبعاث الروائح الكريهة وسقوط النفايات في البحر، والثانية هي إعلان شركة NTCC  المولجة بجمع النفايات وكنسها التوقّف عن العمل بسبب عدم تسديد مستحقّاتها من قبل البلدية واتحاد بلديات صيدا والزهراني.

في هذا التحقيق سنحاول تفصيل أسباب مشكلة تراكم جبل النفايات، والأسباب التي أدت الى عجز المركز عن معالجتها، كما سنتوقف عند رأي المجتمع المدني الصيداوي حيال هذه الأزمة، بالإضافة الى دور وزارة البيئة في هذا الصدد. كما سنتطرق إلى مشكلة انتشار النفايات في أحياء صيدا والأزمة بين بلدية صيدا والشركة المولجة جمع النفايات وكنسها.

في الأسباب

يشرح رئيس الحركة البيئية فضل الله حسونة أنّ “مركز معالجة النفايات في صيدا مرّ بثلاث مراحل، الأولى كان هناك حاجة ملحّة إلى المركز في المدينة وكانت إدارته جيدة، أمّا المرحلة الثانية فهي عندما استقبل نفايات بيروت بكميات كبيرة فاقت طاقة المركز الاستيعابية ممّا أدى إلى تراكم النفايات، والمرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم وهي تكوّن جبل من النفايات مكوّن معظمه من العوادم (النفايات الخامدة أي غير القابلة للتحلّل) التي يتساقط جزء منها إلى البحر بعد تعطّل مركز معالجة النفايات لفترة من الزمن، وسط اتهامات من الإدارة الجديدة للإدارة القديمة بسوء التصرّف وبأنّ طريقة إدارتها هي التي أدت إلى ذلك”.

ويتابع حسونة أنّ الإدارة الجديدة “تمكّنت مؤخراً من تصليح جزء من المركز، في حين أنّ طاقته الاستيعابية باتت تقتصر على نقايات صيدا والجوار”. ويطالب حسونة بأن “يجلس المهندسون والفنيون والحركة البيئية ووزارة البيئة على الطاولة نفسها لكي يجدوا حلاً علمياً”، مضيفاً “نحن بحاجة ماسّة إلى قرار بتحويل احدى الكسارات المهملة إلى  مطمر صحّي للعوادم”.

وقد حاولت “المفكرة القانونية” التواصل مع الإدارتين القديمة والجديدة للوقوف عند تفاصيل المشكلة والخلاف بينهما ولكن من دون جدوى.

يلفت حسونة إلى غياب سياسة حكومية واضحة ومخطّط توجيهي عام، كما يلوم الطبقة السياسية والحكومة التي لم تُقرّ إدارة سليمة ورشيدة للنفايات وإنما تعمل بنهج تحاصصي ومذهبي وطائفي. ويشير إلى أنّه “جرى التواصل  مع وزارة البيئية من أجل القيام بمعالجة علمية، وقد زار فريق من الوزارة المركز، وننتظر زيارة وزير البيئة ناصر ياسين لنعرف ما هو واقع المركز وما هي المعالجة التي يمكن اعتمادها لضمان صحة المواطن”.

وقد تواصلت “المفكرة” مع وزير البيئة ناصر ياسين الذي أشار إلى أنّ “الوزارة أرسلت بالفعل فريقاً لاستطلاع مشاكل المركز وقد أعد تقريراً تبيّن من خلاله وجود عدّة مشاكل وفي مقدّمتها تراكم النفايات”. ويضيف ياسين في اتصال مع “المفكرة” أنّ “هذه النفايات بدأت تتراكم خلال العام الماضي بسبب مشاكل تقنية ضربت آلات المركز، في حين استمرّ المركز باستقبال النفايات، وهذا ما أدّى الى وجود شبه مكبّ في المنطقة”.

ويتابع ياسين” رغم أنّ المركز أعاد تشغيل المعمل بحيث بات يُعالج النفايات الجديدة وجزءاً صغيراً من التفايات المُتراكمة إلّا أنّه يعمل في الوقت الحالي بطاقة استيعابية محدودة جداً”.

ويشير إلى أنّ “الوزارة في صدد عقد اجتماع مع ادارة المركز ووضعهم أمام مسؤولياتهم وحثّهم على وضع برنامج عمل يُبيّن كيفية معالجة تراكم النفايات وتشغيل المعمل بقدرته القصوى، بالإضافة الى سعينا لمساعدتهم من الناحية التقنية”.

اتهامات بالجملة للبلدية بالتقصير

ونظراً إلى تعذّر إمكانية التواصل مع إدارة المعمل الحالية، تواصلنا مع محمد دندشلي عضو تجمّع “علّي صوتك” الذي يُتابع ملف مركز معالجة النفايات، والذي يوضح أنّ “المركز يتقاضى 95 دولاراً على معالجة كلّ طنّ من النفايات، من دون معالجة النفايات بالطريقة الصحيحة، ما يؤشر إلى فساد في طريقة عمله”، مشيراً إلى أنّ “هذا ما لا يحتاج الى أبحاث وإنما يكفي المرور أمام المركز لنرى جبال النفايات غير المفرزة وغير المُعالجة، وهذا دليل واضح على عدم سير الأعمال كما يجب أن تكون”.

ويتابع أنّ “العقد بين البلدية والشركة المُشغلة للمركز ينصّ على معالجة النفايات من دون إحداث أي أضرار بالبيئة والسلامة العامة، وبالتالي يحق للبلدية في حال مخالفة هذا البند، كما يحدث حالياً، فسخ العقد أو اتخاذ إجراءات رادعة لتصويب العمل بالمركز”، وهو ما لم يحصل.

ويرى دندشلي “التباساً في العلاقة بين الطرفين، وأهالي صيدا هم المتضرّرون من الروائح الكريهة الناجمة عن المعمل وتفشّي السموم”.

ويحذّر الناشط إبراهيم حجازي من “خطر اندلاع حرائق أو انزلاق هذه العوادم إلى البحر”. ويضيف “المركز ينتج عنه انبعاث للروائح الكريهة وغازات سامة، بالإضافة الى تشويه البيئة”.

ويوضح أنّ “هدف إنشاء المعمل كان حلّ مشكلة النفايات الموجودة في صيدا والجوار وأن تكون نسبة العوادم صفر، إلّا أنّ ما يحصل الآن هو عكس ذلك إذ من الواضح أنّ الفرز الذي يجريه المركز للنفايات لا يتمّ وفق الشروط المطلوبة حيث نسبة العوادم كبيرة جداً بحيث باتت بمثابة جبل في الأرض المحاذية له وذلك في ظل غياب البلدية عن دورها الرقابي”.

ويُحمّل نائب صيدا أسامة سعد أيضاً البلدية مسؤولية عدم ملاحقة الشركة المُشغّلة للمعمل ووضع حدّ لتجاوزاتها، ويعتبر أنّها لم تتّخذ الإجراءات المناسبة لردعها عن المخالفات التي تقوم بها لناحية عدم معالجة النفايات بشكل سليم، فضلاً عن استقبال كميات من النفايات تفوق طاقة المركز الاستيعابية مما كان يضطرّهم إلى “ردم جزء من النفايات أو عدم معالجته بشكل سليم طمعاً بالعائد المالي”، وفقاً لسعد. سعد الذي لطالما شارك في وقفات احتجاجية ضدّ طريقة عمل مركز معالجة النفايات يُشير إلى أنّ المعمل شبه متوقّف عن العمل لعدّة أسباب وفي مقدّمتها الأعطال التي أصابته، بالإضافة إلى سوء الإدارة. ورغم ذلك يرى أنّه “لا يحق للشركة الُمشغّلة التوقّف عن العمل بشكل متكرّر لأنّها تتعاطى بالشأن العام والمصلحة العامة وعملها مرتبط بحياة المواطنين ومصالحهم”.

رئيس بلدية صيدا في حالة إنكار

ورغم أنّ جبل النفايات بالقرب من المركز واضح للعيان، حيث قامت “المفكرة” بزيارة ميدانية والتقطت الصور للجبل، إلّا أنّ رئيس بلدية صيدا محمد السعودي يرفض الإقرار بوجوده، معتبراً أنّ “صُوَر تكدّس النفايات في المركز قديمة وهي انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي، ونتيجة لذلك زارت لجنة من وزارة البيئة المركز وكانت “مرتاحة كتير”، وفقاً للسعودي. (علماً أنّ الوزير نفسه أبلغ “المفكرة” أنّ الفريق أقرّ بوجود مشكلة في المركز).

ورغم ذلك، يعترف السعودي بأنّ المركز قد تعطّل لمدة أسبوعين ممّا أدى الى تكدّس “بعض” النفايات، لذا يقوم المعمل في الوقت الحالي بمعالجة 250 طناً من النفايات يومياً، موزّعة بين 150 طناً من النفايات الجديدة و100 طن من النفايات التي تكدّست جرّاء هذا العطل. ويلفت السعودي الى أنّ “قدرة المعمل الاستعابية كانت تصل إلى 600 طن يومياً عندما كانت تُرحّل نفايات بيروت إلى صيدا”.

كذلك ينفي السعودي أن تكون النفايات التي تتساقط في البحر مصدرها المكب، معتبراً أنّ “النفايات قد تأتي من مصادر مختلفة وتؤدّي الى تضرّر الصيادين، ونحن بدورنا سنقوم بالتعويض عليهم”، من دون أن يوضح ما هي المصادر الأخرى.

نفايات الشوارع: تقاذف مسؤوليات

مشكلة النفايات في صيدا لا تقتصر على مركز معالجة النفايات، حيث ظهرت مشكلة أخرى بعد أن أعلنت شركة NTCC المولجة بجمع النفايات وكنسها توقفها عن العمل نظراً “للظروف المالية القاسية التي تواجهها بسبب تلكّؤ المسؤولين عن تسديد مستحقاتها سواء في بلدية صيدا أو اتحاد بلديات صيدا الزهراني”، بحسب بيان الشركة.

وأضاف البيان أنّ “الشركة قد انتهى عقدها بتاريخ 11/02/2020 واستمرت بعملها دون توقف بناءً على طلب وإلحاح من رئيس البلدية، وكان من المفترض إجراء مناقصة جديدة منذ ذلك التاريخ ولكن تلكّؤ المسؤولين عن إجرائها اضطر الشركة للاستمرار بالعمل حفاظاً على تسيير المرفق العام وسلامة البيئة والمواطنين”. وتابع البيان أنّ “الشركة تعمل منذ ثلاث سنوات من دون عقد أو دفع مستحقات”.

كما أشار البيان إلى أنّ “البلديات ساهمت بتسديد قسم من قيمة المحروقات خلال الأشهر الماضية ولكن المشكلة  كانت أساساً في الارتفاع الهائل في سعر المازوت، وتأخر البلديات بتسديد هذا الفارق الذي لم يكن يشكّل أكثر من نصف ثمن المحروقات”. ولفت إلى أن “المشكلة الأكبر أنّ بعض البلديات لم تدفع ما اتُفق عليه وأوّلهم كانت بلدية صيدا علماً أن المشكلة لم تعد محصورة بكلفة المحروقات بل تعدّتها الى المصاريف الأخرى كالرواتب والصيانة التي أصبحت تدفع بالدولار الأميركي.”

بيان الشركة استدعى ردّاً من السعودي الذي لفت إلى أنّ “بلدية صيدا دفعت 550 مليوناً و500 ألف ليرة لبنانية كمساهمة في المازوت منها 215 مليون ليرة لبنانية سلفة شخصية تقدمة مني”.

السجال بين الشركة والسعودي استُكمل عبر نشر الشركة بياناً جديداً لفتت فيه إلى أنّ “مبلغ الـ 550 مليون ليرة الذي دفعته البلدية هو جزء  من المستحق عليها لغاية 24/03/2022 والبالغ 962 مليون ليرة، فلو التزمت البلدية بما وعدت به وسددت أقلّه قسم من المترتب عليها والبالغ أكثر من 400 مليون ليرة لما توقف العمل يوم 25/03/2022”.

وإزاء هذه التطوّرات، أشار السعودي إلى أنّ “الشركة أوقفت أعمالها من دون أي إنذار مُسبق، لذا تقوم كلّ بلدية في قضاء صيدا بجمع نفاياتها وإرسالها الى مركز معالجة النفايات”. وأضاف “نحن في بلدية صيدا قمنا باستئجار آليات مخصّصة لنقل النفايات بحيث بات لدينا 5 آليات تقوم بهذه المهمة، وقد تمكّنا من إزالة جميع النفايات المنتشرة في الشوارع”. وهذا ما تبيّن من خلال جولة “المفكرة” في أحياء صيدا.

يعترف السعودي بأنّ الشركة لديها مستحقّات متأخرة منذ عامين من الصندوق البلدي المستقل مقابل قيامها بكنس النفايات، إلّا أنّه يكرّر أنّ مستحقاتها من بلدية صيدا لقاء جمع النفايات قد حصلت عليها كاملةً. كما يوصّف الخطوة التي قامت بها الشركة بـ “غير المقبولة أبداً، فالمشكلة تعود إلى تعثر المقاول صاحب الشركة اذ ليس لديه فائض أموال يمكّنه من تشغيل آلياته، بينما يجب أن يمتلك المقاول ملاءة تسمح له بالاستمرار بالعمل رغم المتأخرات”.

لذلك يشير السعودي إلى أنّ البلدية تقوم حالياً بالتفاوض مع الشركة، وقد تلجأ الى إجراء مناقصة جديدة عبر مديرية المناقصات للاتفاق مع شركة جديدة لجمع النفايات في حال لم تفضِ المفاوضات مع الشركة الحالية إلى نتيجة إيجابية.

وقد حاولت “المفكرة القانونية” التواصل مع شركة NTCC التي طلبت إرسال الأسئلة من دون الحصول على أي ردّ.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، سلطات إدارية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني