قطاع الخليوي ينهار… والحلول الإنقاذية معطّلة عمداً


2022-01-04    |   

قطاع الخليوي ينهار… والحلول الإنقاذية معطّلة عمداً

قطاع الاتّصالات الخلوية يُنازع. هذه ليست مبالغة، بل نتيجة سياسات أمعنتْ في هدم القطاع والتعامل معه بوصفه بقرة حلوب للسلطة السياسية والخزينة على حدّ سواء. ومن أجل ذلك، ظلّت الأولويّة لزيادة التّحويلات إلى الخزينة، بالتزامن مع تمرير صفقات لم يتمّ التدقيق فيها. فلا عُرف إن عُقدت لحاجة فعلية ولا عُرفتْ كلفتها الواقعية ولا حجم السمسرات التي تضمّنتها. حتى مع تسلّم الدّولة للقطاع، لم تتحرّك للتدقيق في حسابات الشركتيْن ولا تغيّرت آلية العمل. وفي حين أنّ الإنجازات لا تعدو كونها قنابل صوتية يُفجّرها الوزراء المتعاقبون، للإيحاء أنهم يعملون، فإن الوزير الحالي يبدو الأكثر واقعية بين أسلافه. هو لا يتردد في الإشارة إلى أنه “وزير المازوت”، للدلالة على أن أوليته حتى نهاية عمر الحكومة هو تأمين المازوت لضمان استمرارية عمل سنترالات الشركتين. أما ما يشير له عن سعي إلى تطبيق القانون 431 وتشكيل هيئة ناظمة، فيتعامل معه المعنيون بوصفه كلاماً إعلامياً ليس من النوع القابل للتطبيق، وإن كان يعتبر الوزير أن هذا هو الوقت المناسب لتطبيقه. 

عندما زار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مؤخراً، كان الوزير جوني قرم واضحاً بأن لا حلّ إلا بزيادة التعرفة. أما ما طرحه عن خياريْن إضافييْن، فلم تكن وظيفته إلا تأكيد ضرورة زيادة التعرفة، إذ تحدّث عن خيار توقّف القطاع عن العمل أو دعمه من الدولة على غرار الكهرباء. لكن مع ذلك، حتى اليوم، يؤكد قرم ل”المفكرة القانونية” أنه لم يتقدم بأيّ اقتراح لرفع التعرفة إلى مجلس الوزراء. وهو سبق أن قال إنه لا ينوي تقديم اقتراح طالما أن القطاع قادر على تمويل نفسه. قرم يربط الزيادة بالخطة الشاملة التي يُفترض أن تُقرّها الحكومة، لتكون هذه الزيادة متناسبة مع أهداف الخطة. لكنه في المقابل يؤكّد أنه لن يسمح بأن يصل القطاع إلى مرحلة يحتاج فيها تمويلاً من الدولة. 

     حتى مع التغاضي عن فكرة تخلي المعنيين عن دور القطاع الذي كان يسمى نفط لبنان نظراً لتأمينه نسبة كبيرة من واردات الدولة (نحو 1.5 مليار دولار سنوياً)، يوحي كلام وزير الاتصالات أن القطاع لا يزال قادراً على الصمود وفق التعرفة الحالية، وهو ما تنفيه المعطيات الصادرة عن الشركتيْن، إضافة إلى الأرقام التي أعلنها الوزير بنفسه. قرم أعلن أن كلفة المازوت تستهلك 62% من إيرادات شركتي الخلوي. ومع إضافة رواتب الموظفين والصيانات الضرورية، يمكن الاستنتاج أن القطاع يخسر فعلاً. ما يعني أن الاستمرار على هذا المنوال يمكن أن يؤدي إلى شلل كامل للقطاع. 

يتبين من المعطيات المقدّمة من “تاتش” إلى وزارة الاتصالات أن الشركة وحتى نهاية السنة واقعة في عجز بالليرة يبلغ 21 ملياراً، وباللولار يبلغ 12 مليوناً، إضافة إلى 3.5 مليون دولار نقدي. وفي التفاصيل تظهر بيانات الشركة أنها كانت تملك في شهر أيلول الماضي 83 مليار ليرة و43 مليون لولار و6.5 مليون دولار نقدي، إضافة إلى 1.3 مليون يورو نقدي. لكن هذه المبالغ لن تكفي لدفع النفقات التشغيلية والاستثمارية الضرورية المتوجّبة حتى نهاية العام. يكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى أن النفقات التشغيلية المتوجّبة تزيد عن 100 مليار ليرة، فيما المطلوب بدل نفقات استثمارية منفّذة ولم تدفع هو 10 مليون دولار نقداً (إضافة إلى 41 مليون لولار).

باختصار، الوضع في الشركتين يكاد يكون مأساوياً. فبحسب وزير الاتّصالات، كلّ شركة تملك نحو 6 مليون دولار نقدي، وهو مبلغ لا يكفي لدفع أيّ مستحقات. في الأساس، لم تعُدْ موازنة الشركتين تضمّ الكثير من البنود. تكاد تقتصر على المازوت والرواتب والصيانات الضرورية وتراخيص البرامج المستعملة. لا استثمارات ولا مساعٍ للتطوير. لا أحد يحلم بأكثر من إبقاء الشبكة تعمل، وهو أمر لم يعد سهلاً، ويلاحظه المشتركون يومياً، من خلال مواجهتهم لرداءة الخدمات المختلفة. فثمن المازوت يُدفع حسب سعر الدولار في السوق، فيما المداخيل لا تزال على سعر 1515 ليرة للدولار وفق “السعر الرسمي” الذي حدده مصرف لبنان. هذا الفارق يؤدي عملياً إلى إنهاك ميزانية الشركتين، حتى قبل الحديث عن النفقات الضرورية الأخرى. 

قرم مقتنع أن حلّ المشكلة يكمن في تخفيف كلفة المازوت في “تاتش” تحديداً. وهذا بالنسبة له يتم من خلال تفعيل عقد شركة “باورتيك” التي وقعت عقداً مع الشركة لصيانة المحطات وتطويرها وتوريد الطاقة إليها، لكنه لم ينفذ بالكامل. فالشركة متّهمة بالتأخر بإنجاز الأعمال، كما أنها لم تتسلم حتى اليوم مهمة توريد المازوت للمحطات. أضف إلى أن مشكلة جديدة طرأت بعد الأزمة، تمثلت في سعي الشركة لتحصيل نسبة من أموالها بالدولار النقدي. 

يعتبر وزير الاتصالات أن “باورتيك” خفّضت الأكلاف في “ألفا” بشكل ملحوظ، ما يحتّم الاستفادة منها في “تاتش” أيضاَ. لكن ما يسهو عن باله أنه لطالما كانت كلفة تشغيل محطات “ألفا” أقل من كلفة تشغيل محطات “تاتش”، ولم يتغير هذا الواقع بعد التعاقد مع “باورتيك”. تكفي العودة إلى الدراسات التي عُرضت في لجنة الاتصالات للتأكد من ذلك. منذ العام 2010 وحتى 2018 تدفع “تاتش” ضعف ما تدفعه “ألفا” ثمناً للمازوت، وقد استمرّ الأمر على هذا المنوال بعد تعاقد ألفا مع “باورتيك”. 

على سبيل المثال، فإن كمية المازوت المستهلكة في العام 2012 في “ألفا” (تاريخ انتقال الأكلاف التشغيلية إلى وزارة الاتصالات) لتشغيل 1025 محطة تبلغ 4.956 مليون ليتر، مقابل 9.740 ليتر لتشغيل 768 محطة فقط في “تاتش”. وفي العام 2018، استمرت “تاتش” في صرف ضعف ما تصرفه “ألفا”، فصرفت 13.410 مليون ليتر لتشغيل 1338 محطة، مقابل 5.818 مليون ليتر لتشغيل 1380 محطة في “ألفا”…

هذا يعني ببساطة أن خطة الوزير لتخفيف الأكلاف في “تاتش” لن تؤتي أُكُلَها، لأنّ المشكلة سابقة على وجود “باورتيك”. والمطلوب التدقيق في طريقة إدارة “تاتش” بدلاً من البحث عن آليات معقدة. وفيما كانت لجنة الاتصالات قد أوصت بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية تدقق في مالية الشركتين، استمر الوضع على ما هو عليه، فلا تشكلت اللجنة ولا أحيلت الملفات إلى الهيئات الرقابية، إلى أن ساءتْ الأمور أكثر مع بداية الأزمة وانهيار قطاع الكهرباء. 

اللافت أن وزير الاتصالات قد وافق، بعد مفاوضات مع “باورتيك”، على دفع 30% من قيمة العقد معها بالدولار النقدي (كان الوزير السابق طلال حواط قد اقترح دفع 25% بالدولار النقدي)، وقد أبلغ إدارة “تاتش” بذلك. علماً أن إدارة الشركة سبق أن حذّرت الوزير من الوضع الكارثي الذي ترزح تحته، ولذلك لم تؤيد إعطاء الشركة 30% نقداً. وقد اقترح المدير المالي شربل قرداحي أن تقتصر النسبة على 20 % بالحد الأقصى، مشترطاً أن يقترن ذلك بتوفّر آلية لتأمين الدولارات النقدية، من خلال إجراءات قانونية تمكّن الشركة من الحصول على دولاراتها من مصرف لبنان. 

أكثر من ذلك، حذّر قرداحي من أن الأموال النقدية المتوفرة لدى الشركة تصل إلى نحو 7 مليون دولار وهي لا تكفي لتسديد المتوجبات الحالية على الشركة أو الدفعات اللاحقة، من دون أن يتم تحديد آلية دفع للموردين. الأهم أن قرداحي يؤكد أنه في حال تفعيل العقد مع “باورتيك”، لا أحد يضمن تخفيض كلفة المازوت، خاصّة أن “ألفا” تشتكي من عدم تغطية مناطق عديدة بالإرسال، كما تشتكي من عدم توفّر المازوت في عدد من محطات عكار. أما الأهم فهو انعدام الرقابة على المحطات، ما يسمح بالفوضى في التوزيع واستهلاك المازوت.

بذلك، يتضح أن شركتي “ألفا” و”تاتش” لا تحبذّان العمل مع “باورتيك” التي تتقاضى مبالغ كبيرة من كل شركة يمكن توفيرها من خلال الاعتماد على القدرات الذاتية للشركتين (في الأساس وُقّع العقد بناء على إصرار من وزير الاتصالات جمال الجراح)، لكن الوزير قرم وحده مقتنع بجدوى وجود الشركة. وقد علمت “المفكرة القانونية” أن لجنة الإعلام والاتصالات النيابية ستعقد جلسة قريباً، يقدم فيها الوزير دراسة مقارنة بين مصروف “تاتش” ومصروف “ألفا”، في سعي منه للتأكيد أمام أعضاء اللجنة على أهمية تفعيل عقد “باورتيك”.

إلى ذلك، لم يطرح أحد حلاً مغايراً. لكن هذا لا يعني أن الحلول ليست موجودة. عاملون في الخلوي لا يترددون في الإشارة إلى أن الحلّ قد يكون ببساطة في التخلّي عن خدمات “باورتيك” بدلاً من التمسك بها. فالصيانات التي تنفّذها للمحطات يمكن إجراؤها داخلياً في الشركات، ما يؤدي إلى توفير مبالغ كبيرة تتقاضاها. أما مصروف المازوت فمن السهل تخفيضه، على الأقل بنسبة 40%، إذا لجأت الوزارة إلى اعتماد ما يسمى “التجوال الداخلي” (National Roaming)، بحيث يتمكّن مشتركو أي شركة (“ألفا” أو “تاتش”) من الاستفادة من خدمات محطات الشركة الأخرى في حال انقطاع الخدمة في منطقة ما. وهذا أمر سيكون أكثر فائدة في الأطراف حيث كثافة المشتركين أقلّ وتوقّف الخدمة أكثر. أما في المدن ولتجنّب الضغط على المحطات، فيمكن لكل شركة أن تعطي الأولوية لمشتركيها وتحويل القدرات الإضافية إلى مشتركي الشركة الثانية (Service level agreement).

النقاش السابق يتخطى نقطة أساسية لطالما أثيرت: المشكلة هي مشكلة سوء إدارة، وتلك لا علاقة لها بتوفير مبلغ من هنا أو من هناك. وفي حين كان ينتظر تغيير آلية العمل بعد استلام الدولة للقطاع، فإن ذلك لم يحصل بعد. وهذا ما سمح للوزير السابق محمد شقير الذي وقّع بنفسه على طلب استرداد الشركتيْن، أن يعتبر أن الاسترداد كان خطأ، متناسيا أن الوزارة كانت المدير الفعلي للقطاع منذ صارت الأكلاف التشغيلية على عاتقها في العام 2012. حتى مجالس الإدارة لا تزال تتألّف من الأعضاء أنفسهم أو من موظفين من داخل الشركتين (تجدر الإشارة إلى أنه تمت الدعوة إلى جمعية عمومية لكل من الشركتين لانتخاب مجلسيْ إدارة جديدين في الشهر الحالي)، بدلاً من أن تكون الدولة ممثلة في مجلسي الإدارة من خلال موظفين كبار من ديوان المحاسبة ووزارة المالية والتفتيش المركزي ووزارة الاتصالات على سبيل المثال. علماً أن هذا الأمر لن يشكل سابقة إن حصل. إذ سبق للوزير جبران باسيل أن استعان، في العام 2009، بثلاثة موظفين من كبار موظفي وزارة الاتصالات ليمثلوا مجلس إدارة “ألفا” إلى حين إطلاق مناقصة تشغيل جديدة. 

في مطلق الأحوال حتى مع الاسترداد المنقوص، يمكن الإشارة إلى توفير نحو 30 مليون دولار على الدولة. إذ أن كل مشغّل كان يتقاضى 12 مليون دولار سنوياً، إضافة إلى مبالغ أخرى مرتبطة بمؤشرات الأداء. 

أمام هذا الواقع يحضر رفع التعرفة كأحد الخيارات الملحّة. لكن بالرغم من ذلك، فإن لا خطط للزيادة حالياً. وثمة من يربط ذلك بالانتخابات النيابية ورغبة القوى السياسية بتمرير الاستحقاق الانتخابي بأقل الأضرار. ينفي قرم أن يكون تلقّى أي اتصالات أو طلبات متعلقة بالتعرفة، علماً أن عدداً من النواب الذين يحضرون في لجنة الاتصالات النيابية سبق أن رفضوا أي مسعى لرفع التعرفة قبل الانتخابات. لا يربط رئيس اللجنة ذلك بالانتخابات، لكنه يؤكد ل”المفكرة القانونية” أنه يرفض زيادة الأسعار من دون وضع رؤية واضحة لمستقبل القطاع وتحديد القدرة الشرائية للشركات، لكي لا تكون الزيادة عشوائية ولا تؤدي الغاية منها.

بالنتيجة، توحي إدارة القطاع، إن كان في الشركتين أو في الوزارة، أن الحال باق على ما هو عليه، ما يهدد الشركتين بالإفلاس المتعمد. إذ أن الواقع المالي الراهن لهما، يعني المزيد من الخسائر، وبالتالي تدهور قيمتهما السوقية، بما يؤدّي إلى احتمال بيعهما بثمن بخس أو حتى وضع اليد عليهما. وهنا ليس صعبا الاستنتاج أن من سيشتري هو من هرّب أمواله أو من لا يزال ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على مؤسسات الدولة والشركات التابعة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني